إلباس العجز جبّة الحكمة
من أعظم المواضع التي حارت فيها عقول كثير من المنتسبين للعلم والدعوة والحسبة والجهاد، ووقع فيها الاضطراب، باب (العلاقة بين شعب الإيمان)، حيث خلق الله النفوس متفاوتة في الاستعدادات والملكات والقدرات والقوى والفروق الفردية، ثم أنزل الله وحياً فتح فيه أبواباً إلى الخيرات، حتى جعل الله للجنة أبواباً، ورسم كل باب منها بشعبة من شعب الإيمان.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
الحمد لله وبعد..
من أعظم المواضع التي حارت فيها عقول كثير من المنتسبين للعلم والدعوة والحسبة والجهاد، ووقع فيها الاضطراب، باب (العلاقة بين شعب الإيمان)، حيث خلق الله النفوس متفاوتة في الاستعدادات والملكات والقدرات والقوى والفروق الفردية، ثم أنزل الله وحياً فتح فيه أبواباً إلى الخيرات، حتى جعل الله للجنة أبواباً، ورسم كل باب منها بشعبة من شعب الإيمان، كما خرّج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ».
وتنافس أهل الإسلام في تعديد شعب الإيمان، فصنفوا فيه وأوعبوا، حتى بلغ كتاب البيهقي في شعب الإيمان بضع عشرة مجلداً، والبيهقي تشكّل وعيه العلمي في عصر الموسوعات الكبرى، وهذا كان مزاج العصر في التأليف المبني على الاستيعاب والاستقراء والاستقصاء والتتبع.
وبسبب هذا التفاوت بين غزارة شعب الإيمان، ومحدودية القدرات البشرية وقصر العمر؛ ينشأ في النفوس التجاذب والتوتر، فتجد كثيراً من الناس في لحظات الفتوة العلمية واليفاعة الدعوية: فلكيّ الطموحات، يتحامل على نفسه أن يصافح النجوم وهو في أسفل الوادي، كلما سمع اسم عِلْمٍ هفت نفسه إليه، وكلما نما إليه خبر ثغر دعوي تخيل نفسه يطير إليه، ثم لا تلبث ارتطامات الواقع وكدمات تعثر المشروعات أن تحفر أخاديد الإحباط في أحلامه، ويرى بنفسه ملف الآمال تتساقط أوراقه ورقةً ورقة أمام عينيه، وتتنوع استجابات الناس لهذا السيناريو المتكرر في حياة الكثرين، ولكن من أسوأ الاستجابات (إلباس العجز جبّة الحكمة) وأنا ذاكرٌ لك الآن -بإذن الله- صوراً ونماذج يتبين بها هذا الخلل تفصيلاً.
فمن ذلك أنك تجد من شعب الإيمان (الصدع بالحق) وتحمُّل ما يترتب عليه تبعاً من الابتلاء، بل إن حمل رسالة الإسلام ذاتها لا تسلم من تهديدات القوى الدنيوية أصلاً، كما قال الله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب من الآية:39]. فيصدع بالحق -مثلاً- في أكل المال العام أو مظالم السجون أو التغريب بالقرار الإداري ونحوها، ثم قد يرى الفقيه والداعية عجزه عن ذلك، فلا يصارح بعضهم نفسه بعجزه، ويدعو لمن قام بالفرض الكفائي ورفع المعرّة عنه؛ بل يحاول أن يلبس عجزه جبّة الحكمة ومشلح بعد النظر، ويلمّح للصادعين بمهامز التهور والتعجل وقلة العلم والوعي والعاطفة والحماس ونحو هذا المعجم البارد.
وكم شاهدنا من عجز عن الإنكار والاحتساب، وفي ذات الوقت ثقُل عليه أن يعترف بالعجز والقصور، فاستعاض عن ذلك باستسذاج المحتسبين.
ومن ذلك أيضاً أن من أعظم شعب العلم (حفظ العلم في الصدور) كما قال ربنا: {بلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت من الآية:49]، ولو لم يكن في فضل حفظ العلم إلا بركة دعاء سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفى: « » (رواه الترمذي).
وكل طلاب العلم بلا استثناء يبدؤون حياتهم العلمية بمشروعات الحفظ، ولكن إمكانيات الحفظ والضبط تتفاوت، فقد رأينا أشخاصاً يحفظون في نصف ساعة ما يستذكرونه بعد شهرين، ورأينا أشخاصاً يحفظون بعد العصر ما يضطربون في تلاوته قبيل العشاء!
فبعضهم إذا لم يستطع حفظ العلم لا يعترف لنفسه بالعجز ويجتهد في تحفيز إخوانه ممن يستطيع ذلك، بل تراه يخذّل إخوانه عن حفظ العلم، ويبتكر ألوان الملامز في المشتغلين بحفظ العلم، برغم أنه هو ذاته، هو ذاته لا غيره، يضمر في نفسه رهبة أمام حفاظ العلم، وذهولاً منهم إذا بدؤوا في سرد محفوظاتهم، وكم رأينا من أشخاص يذمون حفظ العلم أمام أقرانهم، ثم إذا أرادوا الثناء على من يوافق هواهم قالوا هو "يحفظ كذا وكذا"، فيذمون حفظ العلم في باب التنظير، وينسون تنظيرهم في ساحة النِّزال والمباهاة، بل ويخترع بعضهم متضادات ليست أضداداً أصلاً، كتضديدهم بين الحفظ والفهم، ويحك. وهل رأيت أحداً أصلاً يقول: "أوصيك أن تحفظ ولا تفهم!"، بل كل من يقول احفظ يقول لك: "افهم"، ولكن المصيبة في من يقول: "افهم ولا تحفظ!" وأي شيء يضيرك أن تكون صادقاً مع نفسك، وناصحاً لفتيان يستمعون إليك، فتقول لهم: "يا إخواني استثمروا أعماركم قدر استطاعتكم بالفهم والحفظ، كليهما".
ومن أسباب سوء الفهم في مسألة (حفظ العلم) أن كثيراً من الناس إذا ذُكِرَ لهم حفظ العلم انصرفت أذهانهم إلى حفظ المتون المقرَّرة المعروفة، والواقع أن حفظ المتون هو "جزء" جليل من حفظ العلم، ولكنه ليس هو حفظ العلم بـ"المطابقة"، فحفظ العلم أوسع من ذلك كثيراً، حيث يدخل في حفظ العلم: حفظ ألفاظ القرآن والحديث، وأسماء الأعلام ووفياتهم ومعاني اللغة والتعريفات وأشهر الأقوال في المسألة والتسلسل التاريخي للمذاهب والبدع ومواطن المسائل ومظانها وحفظ الموضوعات التي تعرّض لها كل كتاب مهم في بابه... إلخ، بما يعني أن كل عناصر العلم هي من أبواب حفظ العلم، وكلما حفظ طالب العلم قدراً أكبر من المعلومات زادت إمكانياته، وقد كان السلف في القرون المفضلة قبل نشوء المتون المقرَّرة المعروفة منهمكون في حفظ العلم ويحفظون ألفاظ النصوص وآثار الصحابة والأسانيد وأحوال الرواة ولغة العرب وشواهدها ونحوها من المعلومات، والمراد أن حفظ العلم أوسع من حفظ المتون، وأن حفظ المتون جزء جليل من حفظ العلم.
ومن أسباب سوء الفهم أيضاً في مسألة (حفظ العلم) ظن الكثيرين أن حفظ العلم بتكرار لفظه، بتعيين مقطع وتكراره، وهذا صحيح جزئياً؛ فتكرار اللفظ المعين طريق عملي فعّال لحفظ العلم، لكنه ليس هو الطريق الوحيد، بل الصحيح أن كل وسائل "معاناة العلم" بإدمان النظر فيه وتقليبه، وتأمُّله وتدبُّره بالشرح والتلخيص والتعليم والتحقيق والتحرير والمدارسة والمباحثة والفتيا..الخ كلها من وسائل حفظ العلم ورسوخه في الذهن.
ومعاناة العلم تثمر الخبرة به، ولذلك ترى الإمام ابن تيمية يستعمل مصطلح الخبرة في تقييم العلم كثيراً، كقوله من له خبرة بالسنة علم كذا، أو من له خبرة بنصوص أحمد، أو فلان لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة، وهكذا، فالخبرة فيها قدر زائد على مجرد العلم المحض، وهي الناتجة عن معاناة العلم وتقليبه وإدمان النظر فيه وتأمله.
وهذه القضايا، حول مفهوم حفظ العلم ووسائل حفظ العلم؛ ليس هذا موضع بسطها، ولها إن شاء الله موضع آخر، وإنما المراد التنبيه عرضاً على وهم يرد للبعض.
ومن شعب العلم (التبحُّر) وسعة الاطِّلاع وجرد المطولات وثراء المقروءات، وجندلة الكتب واحداً تلو الآخر، وسعة الاطِّلاع تفتح باب التشعب في العلم، ولذلك قال ابن عبد الهادي عن شيخه البحر ابن تيمية: "لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، وقلّ أن يدخل في علم من العلوم، في باب من أبوابه؛ إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب" (طبقات علماء الحديث: [4/282]).
وقال ابن كثير عن صاحبه ابن القيم: "وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشْره، من كتب السلف والخلف" (البداية والنهاية: [9/491]).
ووفرة المصادر تتيح لمن يروم الكتابة والتأليف النقول التي يحتاجها، ويظهر أثر ذلك في كتابه، كما قال ابن حجر عن الأذرعي: "وجمع الكتب حتى اجتمع عنده منها ما لم يحصل عند غيره، وظفر من النقول ما لم يحصل لأهل عصره، وذلك بيّن في تصانيفه" (إنباء الغمر: [1/241]).
وتحقيق وتحرير المسائل هو مخ العلم، ولقد حفر إزميل التجارب في ذهني أن (مفتاح التحقيق مقارنة المصادر).
ومن أعظم ثمرات مقارنة المصادر أنها تفرز لك (المعلومة) عن (القراءة والتفسير)، فكم من معطى قرأته في كتاب تظنه معلومة مُسلّمة يبنى عليها، فلما قارنت المصادر تبيّن أنها رأي وتوجيه واستنتاج من المؤلف.
وتجد بعض شداة العلم في مبتدأ الطريق يولعون بشراء الكتب، وذهنه يعيش قصة مشروع علمي مع كل كتاب يمد يده إليه ليقتنيه، فيتخيل نفسه كيف سيقرأه؟ وماذا يستخرج منه؟ وماذا سيضيف إليه؟ ثم لا يلبث بعد زمن أن يرى كتبه التي اشتراها من معرض الكتاب السابق لم يمسها إلى الآن بينما هو يدفع عربته في معرض الكتاب الحالي!
فتضطرم في صدره أحاسيس اللاجدوى ومخاوف خداع الذات، فتجد بعضهم لا يعترف لنفسه بالعجز عن الجدية في القراءة وسعة الاطِّلاع، وعدم قدرته على الاستفادة من الكتب الكثيرة، بل ينقلب ويخلع على عجزه عباءة الحكمة، ويتحول ذاماً ومحذراً من اقتناء الكتب ومطاردة المصادر، دون تمييز بين من يقتني الكتب وينتفع بها، وبين من يقتني الكتب ويكدسها.
وهاتان الشعبتان من شعب العلم، أعني شعبة (حفظ العلم) وشعبة (سعة الاطِّلاع)، كثر افتعال الصِدام بينهما، وهو نظير الصِدام المفتعل بين شعبة (حفظ العلم) وشعبة (فهم العلم)، وكل هذه الشعب تقع من العلم موقع الأبواب من القصر، فاجتهد في تكثير أبوابك، وما على أحدٍ يُدعى من جميع هذه الأبواب من ضرورة.
ولا أذيع سراً إن قلت للقارئ أنني كلما رأيت انفجار المعارف في عصرنا، وتنوع أساليب العرض والمعالجة، ثم رأيت طالب علم يزهّد في سعة الاطِّلاع؛ إلا انقبض قلبي، وخشيت أن ينشأ جيلٌ إسلامي ينكسر معرفياً أمام التيارات المنحرِفة، ثم تدور في خاطري الهموم كيف أوصّل لهذا رسالة بأن تصرفه خاطئ وخطر على مستقبل العلم والدعوة.
ومن أعظم شعب العلم، شعبة (فقه مسائل التراث) وشعبة (فقه النوازل) فتجد بعض من حاول أن يفقه المستجدات المالية والطبية والسياسة الشرعية أعياه تتبُّع مصادرها الحديثة، فعاد منتقصاً لها بدل أن يعترف بعجزه ويحرض إخوانه على القيام بالواجب الكفائي، وتجد آخرين حاولوا فقه المسائل التراثية الأصيلة فأعيتهم لغة تلك الكتب وانقطعت أعناقهم عن مطولاتها، وتنوّع العلوم الآلية المطلوبة لها؛ فأنفوا من الاعتراف بالعجز، وصاروا يظهرون التهكم بمن يحرث الماضي ويعيد إنتاج المستهلكات، والواقع أن كِلا المطلبين شعبتان عظيمتان من شعب العلم، فمن جمعهما فقد تسيّد المشهد الفقهي، ومن عجز عن أحدهما فليجتهد فيما تدركه قواه وملكاته، وليشارك إخوانه في الجبهة الأخرى بالنية الصالحة على الأقل، فيدعو لهم ويحبهم، والمرء مع من أحب، وليس من اللائق إذا عجزت عن أحدهما أن تتقمص صورة الحاذق الواعي في تركك لأحد البابين.
ومن أعظم وسائل الدعوة اليوم التسلُّح بقدر أساس من الثقافة المعاصرة، فإن العلم الشرعي غذاء، والثقافة المعاصرة وعاء، والوعاء الجميل يفتح شهية المتلقي للغذاء النافع، وأكثر العلماء بعد السلف تأثيراً في قضايا المنهج هم العلماء المثقفون، كابن حزم والغزالي وابن تيمية، بل إن المثقفين الإسلاميين كالمودودي وسيد قطب والندوي ونحوهم كانوا أكثر تأثيراً من بعض فُحول العلماء في عصرنا، برغم ما يعتري خطاب هؤلاء المثقفين الإسلاميين من قصور ناشئ عن قلة الخبرة بعلوم الشريعة، فكيف لو جمع بينهما في نموذج العالم المثقف؟!
والمراد أن هذه الأمة لها خصوصية، فهي (أُمَّةُ وحي) فمن لم يعرف كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومعاني كلامهما، والعلوم الموصلة لذلك؛ لم يستطع التأثير الصحيح في هذه الأمة، ومن لم يعرف الثقافة المعاصرة لم يعرف كيف تشكل عقل الجيل الجديد؟ وكيف تُفكِّر النُّخب المعاصرة المأزومة مع الإسلام؟
فالثقافة المعاصرة "لغة" ومن لم يعرف لغة قوم كيف يدعوهم؟ ولذلك قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم من الآية:4]. فتدبَّر كيف ربط البيان باللسان، ينفتح لك باب إدراك أثر معرفة اللسان الثقافي المعاصر في البيان الشرعي.
وكنت حين أقرأ في كتب التراجم يلفت انتباهي حين يقولون عن عالم من علماء السنة أنه اطّلع على العلوم العقلية في عصره، بل إنني كنت زمناً طويلاً أتوهم أن ابن تيمية إنما قرأ الثقافة المعاصرة بعدما كَبُر وصار في أواسط العمر، واكتشفت أنه أنجز العلوم الشرعية، ثم اطّلع على الثقافة المعاصرة، بل وصل إلى مستوى نقدها، ليس نقداً جزئياً في بعض المسائل، بل نقدٍ كليٍ شامل، كل ذلك وهو صغير، حيث يقول عن نفسه: "المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقولاً للباطل وتكذيباً للحق في مسائلهم ودلائلهم، وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم؛ وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الاحتلام؛ كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل، إما في الدلائل وإما في المسائل، إما أن يقولوا مسألة تكون حقاً لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة، وإما أن تكون المسألة باطلاً، فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظم هذا وذكر "مسألة التوحيد"، فقلت: التوحيد حق، لكن اذكر ما شئت من أدلَّتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه" (مجموع الفتاوى: [4/27]).
هذا الحوار الذي يُسجِّله ابن تيمية من واقع سيرته الذاتية، حيث يروي كيف نقد الثقافة الفلسفية في عصره باستيعاب شامل ودقيق؛ وهو قريب العهد من الاحتلام، بلغ بي من الانبهار مبلغه، وتوقفت عن القراءة حين بلغت هذا الموضع، ووضعت يدي في الكتاب، وصرت أبحث عن من أُطلِعه عليه، وأتحرّى الدهشة في وجهه كالمستزيد.
والمراد هاهنا أن الجمع بين العلم الشرعي والثقافة المعاصرة عملة نادرة، وأهل هذا الجمع هم المؤهلون للتأثير العميق في هذا العصر بعد توفيق الله، وهم المؤهلون لتحقيق مراد الله بتحكيم الشريعة في مسائل المعرفة والعلوم المعاصرة، وتحرير مسائل العلوم الحديثة في ضوء الوحي، ويجب أن نعترف أنها مهمة شاقة وتحتاج لملكات خاصة، من أهمها "سرعة الإدراك"، وهي ملكة أخص من مطلق الفهم، وتأمل سرعة الإدراك فيما يرويه ابن عبد الهادي عن شيخه ابن تيمية: "وقرأ أياماً في العربية على ابن عبد القوي، ثم فهمها، وأخذ يتأمّل كتاب سيبويه حتى فهمه" (طبقات علماء الحديث: [4/282]].
والحقيقة أنك تجد بعض المشتغلين بالعلم الشرعي لاحظ أنه لا يمكنه الجمع بين العلم الشرعي والثقافة المعاصرة، فصار يزهّد غيره من أهل العلم في ذلك، وهذا اجتهاد غير موفق، بل يجب أن يوجه العالم طلابه إلى أن يؤصّلوا أنفسهم في العلوم الشرعية، ثم يكونوا أنفسهم تكويناً ثقافياً ممتازاً بحسب الطاقة والإمكان، ولا يلبس عجزه جبّة الحكمة.
ومن أعظم شعب الإيمان (نصرة المجاهدين في سبيل الله)، ومن ألقوا أرواحهم بين لهيب الرافال والهاون والطائرات بلا طيار، نصرتهم بالكلمة والريال وقنوت النازلة وأكف الضراعة إذا هبطت الأسحار، وتدبر قول ربنا: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال من الآية:72].
ثم إنك تجد بعض من حاول نُصرة المجاهدين شعر بإحراجات سياسية، أو لمحوا له بإيقاف درسِه بعد المغرب، أو كلمته في الإذاعة، أو عرقلة فسح لمشروع دعوي بدأ به موظفو مكتبه، أو يخشى أن يرى مدير جامعته نشاطه فتقع الجفوة ويضعه في قائمة البلاك لست، أو نحوها من المصالح التي يقدرها كل أحد بحسبه، والمحزن أن ترى بعضهم -عفواً بل هم كثيرون للأسف- بدلاً من أن يعترف بعجزه، أو على الأقل يقول لنفسه أن لديه مصالح دعوية راجحة تمنعه من النُّصرة، ونحو هذا؛ تراه يستسمن عمامة الحكمة بأكوارها وذؤابتها ويتزيا بها، وتندّ من لسانه العبارات الموحشة يطعن بها في ظهور أقوام غادروا يحتضنون الشهادة في سبيل الله، أيقوى هذا على أن يأتي يوم القيامة وخصومه شهداء تثعب جراحهم، اللون لون الدم والريح ريح المسك؟! بئس الاختيار للخصوم هذا!
وقد كان يسع هذا وأمثاله أن يجتهد فيما يمكنه، ويشارك إخوانه المجاهدين بالنية الصالحة والدعاء والحب، فـ « » (رواه الترمذي وغيره)، وقد كان في غنى عن أن يغطّي عجزه بأسمال الحكمة المثلجة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
إبراهيم بن عمر السكران