دور الوقف الإسلامي في الحيلولة دون تهويد فلسطين

إنها سنَّة حطين التي حرّرت القدس والأقصى من الصليبيين تلاحق اليهود اليوم عندما ذهب سلفهم بسياسة تغيير معالم القدس والأقصى الإسلامية، فكانت هذه المعالم هي المعطلة للوجود الصليبي، كما ستكون معطلة لسياسة التهويد لفلسطين اليوم. واثنان لا يتهادنان؛ شبح الضحية والضمير المجرم.

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


إنها سنَّة حطين التي حرّرت القدس والأقصى من الصليبيين تلاحق اليهود اليوم عندما ذهب سلفهم بسياسة تغيير معالم القدس والأقصى الإسلامية، فكانت هذه المعالم هي المعطلة للوجود الصليبي، كما ستكون معطلة لسياسة التهويد لفلسطين اليوم. واثنان لا يتهادنان؛ شبح الضحية والضمير المجرم.

وإن التطبيع السياسي الكل يعرفه زواغ رواغ، فيه ألف تيه وتيه. فكتاب شمعون بيرز (الشرق الأوسط الجديد)، الذي قصد فيه التطبيع مع العرب من باب الاقتصاد، كما أوهم سلفه وايزمان العرب من أصحاب الثورة العربية الكبرى لسنة 1916م، بأن اليهود سوف يأتون بأموالهم كي يساعدوا العرب؛ كان ذراً للرماد في العيون، وما كان لليهود أن تكون لهم دولة لولا هذه الثورة المشؤومة التي وُلِدَت من رحمها.

الوقف الإسلامي وسمو مكانته في ميزان الحضارة الإنسانية:

في الحديث عن الوقف الإسلامي كمكون من أسمى مكونات النظام الاجتماعي التكافلي الإنساني، في ميزان النظم الإنسانية الأخرى، وبيان سمو مكانة رسالة الإسلام من خلال نظمها التي سَمَت فيها في رسالة الوقف الإسلامي، وقد جاءت رسالة الوقف هذه في وجه من أسمى الوجوه تجاه قضية فلسطين، بعد أن أسقطت نظرية الحق التاريخي اليهودي فيها، والتي قامت على دعوات وافتراءات كاذبة كذَّبتها الأصول الوثائقية الوقفية في المحاكم الشرعية الفلسطينية والقائمة في القدس الشريف.

وقد جاء الوقف كنظام خدماتي تكافلي اجتماعي ليحتل صدارة النظم الإسلامية ذات البعد الإنساني في حضارة الإسلام، وكان لهذا النظام التأثير المباشر في عمران البلاد في الدولة الإسلامية، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لم يسبق لأهل الجاهلية أن حبسوا، حيث لم يكن عندهم عرف فيه، فاستنبط الرسول صلى الله عليه وسلم الوقف لمصالح لا توجد في سائر الصدقات المعروفة، فكان نظام الوقف هذا خاصاً بذاته في تكوينه وعطاياه، فهو من النظم التي تدوم ويتواتر الأثر الموقوف فيما بين الناس على مرِّ الدهور والعصور، وكما استفاد المستحقون في زمان وقْفِ من وَقَفَ الوقف، فسيستفيد منه لاحقاً من كان من أهل الاستحقاق ولو بعد قرون".

وتشير الآثار إلى أن الصحابي (مخيريق) رضي الله عنه شهيد أحد، الذي ترك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالاً موصياً إياه أن يضعه حيث يشاء، فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبعة حوائط؛ هو أول من أوقف وقفاً في الإسلام. وقد قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: "لم نر خبراً للميت ولا للحي من هذه الحُبُسْ الموقوفة، أما الميت فيجري أجرها عليه، وأما الحي فَتُحبَسُ عليه ولا تُوهب ولا تُورَّث".

تعريف الوقف ورسالته:

يأتي الوقف في رسالته على البر والتقوى، ولا ينهض فيه إلا القوي الأمين؛ فأبوابه واسعة، وشعابه متفرعة، وهو أصناف وأنواع، وأربابه متنوعون، فمنهم الأشراف المتصلون في نسبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم الفقهاء، والفقراء والقرَّاء والأسرى وأبناء السبيل والمرضى والمجانين.

ومن أبواب الوقف: تكفين الموتى، وإصلاح الأسوار للثغور وقناطر الطرق، وعمارة المساجد، وما يلحق فيها من خدمات مساندة لها، والمدارس ومن يعمل فيها، وكذلك الربط والخوانق والمشاهد ومواطن العبادة.

وهناك وقف على من انكسرت له آنية ولا يقدر على عوضها، خاصة فيما يساعد المملوكين، حيث اعتبر مثل هذا الوقف باباً من أبواب الطاعة. وغير ذلك من أبواب الطاعات في تعدّد وتنوّع الخيرات من باب الوقف، فالوقف بتعدّد وجوهه هو صورة من صور التقرُّب إلى الله تعالى، من باب الصدقات، ويدخل في باب القربات، والواجب في الوقف أن يتم التصرُّف فيه وِفق شروط واقفيه والعمل عليها.

من صور الوقف وغرائبه:

يروي ابن جبير عندما زار في رحلته دمشق فقد شاهد قصراً في منتزه الربوة في دمشق كان قد بناه نور الدين محمود رحمه الله، وأوقف القصر للفقراء لكي يستمتعوا فيه، وأوقف مع القصر قرية داريا، وهي أعظم قرى الغوطة، وفي ذلك يقول تاج الدين الكندي:
 

إن نور الدين لمّا أن رأى *** في البساتين قصور الأغنياء
عمّر الربوة قصراً شاهقاً *** نُزهة مطلقة للفقراء

 

ومن قضايا الوقف: تجهيز الفقراء المعوزين الذي يرغبون الحج ولا يوجد لديهم ما يساعدهم على حجهم، وكذلك تجهيز البنات للزواج، على أن يكونوا فقراء. وتشهد دمشق في وقف أرض ما بين النهرين على أنها وقف إسلامي للحيوانات المريضة والسائبة؛ فجميع هذه الصور كان ابن جبير قد أشار إليها. ومن هذه الصور الجميلة قضية غلام مملوك كسر صحناً كان يحمله، فخاف الصبي من العقاب، واجتمع عليه جمع من الناس، فقال له أحدهم: "اجمع الفخار وتعال معي"، وأخذ بيده إلى صاحب أوقاف الأواني، وعندما شاهده أمين الوقف، اشترى له صحناً بديلاً منه جبراً لخاطر الغلام، حتى لا ينكسر قلبه عند صاحبه، فكان مثل هذا الوقف جبراً للقلوب. إنها عظمة الإسلام في رسالته ولا شيء غير ذلك.

القدس عاصمة الثقافة العربية لسنة 2009م:

على واقع هذا الاختيار للقدس في أن تكون عاصمة للثقافة العربية، فقد شهدت العاصمة الأردنية، وعلى أرض جامعة عمان؛ مؤتمر تاريخ بلاد الشام الذي يُعقد عادةً بشكلٍ دوري بين جامعة دمشق وجامعة عمان كل أربع سنوات، وفي هذه الدورة التي عُقِدَت في عمان، من اليوم الرابع إلى الثامن من شهر أكتوبر لسنة (2009م - 1430هـ)، فقد حمل المؤتمر تمشياً مع اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، موضوع القدس ثم القدس ثم القدس، وقد تعدّدت الدراسات وتنوّعت، وكانت أهم المحاور التي أُدرِجَت في المؤتمر: محور الوقف الإسلامي في القدس، حيث كان هذا المحور من أهم المحاور في بيان عروبة وأسلمة مدينة القدس، فعلى سبيل المثال وفي الدراسة العلمية المقدمة تحت عنوان: (النشاط الاقتصادي للمرأة المقدسية المسلمة) (1850 - 1875م) للأستاذ الدكتور "محمد ماجد الحزماوي"، من أهل القدس.

فقد أظهر الباحث في دراسته دور المرأة المقدسية في الوقفيات المقدسية، وجاء على ذكر عديد من أسماء صاحبات الوقف، واللواتي تركن من ورائهن الكثير من العقارات الوقفية، وقد اشترطن أمور التولية على وقفهن لنفسهن طوال حياتهن، ثم حددن من سيخلفهن من بعدهن.

وقد بلغ عدد البحوث المتداولة في المؤتمر (13) محوراً، قامت جميعها على (42) دراسة، احتل الوقف الإسلامي صدارة هذه الدراسات، والتي كانت أعمال الدكتور "كامل العسلي" الأساس والأصل الذي قامت عليه مجموع الدراسات الوقفية، والتي وثّقت عروبة وإسلامية فلسطين عامة، والقدس والأقصى خاصة.

ولمكانة موروث الدكتور العسلي بكامله في توثيق عروبة وإسلامية القدس وفلسطين، فقد أوصى المؤتمر بطباعة الموروث بكامله على واقع المؤتمر الذي سبق ذكره، وقد حملت مطبوعات المؤتمر جميعها اسم (الأعمال المقدسية الكاملة) د/ كامل العسلي، وقد جاءت مؤلفاته على الشكل التالي:

1- وثائق مقدسية في ثلاثة مجلدات حاضنة في دفتيها العديد من الوثائق الوقفية والخاصة بمدينة القدس.

2 - بحوث ودراسات مقدسية سبق للعسلي نشرها في مجلات علمية، وقد بلغ عددها (67) بحثاً ودراسة، وقد جمعت هذه الدراسات في ثلاثة مجلدات على ثمانية محاور علمية، ويهمنا منها المحور الأول، والذي جاء خاصاً بالوقف الإسلامي، وكان عنوانه: (حول الأوقاف والتعليم في القدس وفلسطين)، وقد احتضن هذا المحور المواد التالية:

أ - دور العلم في القدس (نُشِرَ في مجلة القدس العربي [العدد 100] - حزيران 1982م).

ب - الأوقاف والتعليم في القدس.

ج - التعليم في فلسطين من الفتح الإسلامي حتى بداية العصر الحديث (نُشِرَ في الموسوعة الفلسطينية القسم الثاني 1990م).

ويلحق بما سبق المواد التالية، وقد جُمِعَت في مجلدين، وهي على الشكل التالي:

1- القدس في التاريخ.

2- بيت المقدس في كتب الرحلات عند العرب والمسلمين.

3 - من آثارنا في بيت المقدس.

4 - أجدادنا في ثرى بيت المقدس.

5 - مخطوطات فضائل بيت المقدس.

والذي يستعرض هذه الدراسات التي جمعها العسلي رحمه الله، فسوف يجد فيها أجر الوقف الإسلامي في فلسطين، على الشكل الإخباري من رحَّالة وعلماء أشاروا فيما كتبوه إلى ذلك، كابن جبير وغيره ممن زار فلسطين والقدس.

الوقف الإسلامي في فلسطين ودوره المباشر في سقوط نظرية الحق التاريخي اليهودي:

ثَمّة كثير من أهل الفضل من علماء فلسطين ممن خدموا بلدهم فلسطين، ولكن هناك عالم مقدسي موسوعي محقّق قلَّ من يلحق بركبه في عطائه الوثائقي الذي أسقط بعطائه العلمي نظرية الحق التاريخي لليهود في فلسطين والقدس والأقصى، إنه الدكتور "كامل جميل العسلي المقدسي"، والمولود في القدس سنة (1344هـ - 1925م / 1416هـ - 1995م)، فما هي قصة هذا الفاضل مع الموروث الوقفي الإسلامي في مدينة القدس؟

لا يمكن لنا في مادة علمية بحجم هذه المادة حصر أعمال هذا الفاضل، ولكن نملك أن نستعرض الجانب الخاص بالوقف الإسلامي في بيت المقدس، الذي استطاع هذا الكاتب والمحقِّق حصره في كتابين من أعماله، وأهمها باكورة أعماله في ثلاثة مجلدات، وهو كتاب: (وثائق مقدسية تاريخية)، وقد جاءت مصادره التي وثّقت إسلامية وعروبة القدس على الشكل التالي:

1- سجلات المحكمة الشرعية في القدس.

2 - السجلات والوثائق العثمانية في إستانبول وأنقرة.

3 - وثائق الحرم الشريف في القدس.

4 - الوثائق المحفوظة في أديرة القدس.

وهكذا نلاحظ أن المادة المصدرية لم تُشِر إلى وجود مصدر يهودي في فلسطين، وإن وجدت مادة مصدرية نصرانية فهي تعود إلى الحاضرة الإسلامية لهذه المصادر، فيما قبل العصر الصليبي لاحتلال القدس وفلسطين، فقد وثّقت المصادر النصرانية سماحة الإسلام للنصارى في التمتع الكامل بحرياتهم الدنيوية والدينية، وحتى من كان فيها من يهود عند الفتح الإسلامي.

ففي المجلد الأول من الكتاب جاء العسلي فيه على ستّ وثائق وقفية نادرة، وأقدمها وقفية السلطان "صلاح الدين الأيوبي" رحمه الله للخانقاه الصلاحية بالقدس، وهي مؤرخة في (5 رمضان لسنة 585 هـ)، وآخرها وقفية الشيخ "راغب الخالدي" رحمه الله لحصته من حمام العين على المكتبة الخالدية التي ما زالت -أي المكتبة- عامرة والحمد لله، والوثيقة مؤرخة في (8 ربيع الآخر 1322هـ).

وثَمّة وثائق على شكل مراسم سلطانية مملوكية من السلطان "بيبرس"، وهي في عددها خمس وثائق وقفية بشأن الحرم القدسي الشريف، أوّلها بتاريخ (جمادى الأولى 664 هـ)، والخامسة مرسوم من السلطان "خشقدم" بشأن تخصيص جوالي قرية طيبة لسَمّ (الاسم) على مصالح الصخرة الشريفة.

أما المجلد الثالث من الكتاب فقد احتوى بين دفتيه على (156) وثيقة -بما في ذلك 29 نقشاً حجرياً-، أقدمها يرجع إلى (609هـ - 1212م)، وهناك الوثائق والنقوش العثمانية التي تتوزّع تاريخياً على مدى خمسمائة عام، ما بين سنتي (945 هـ 1538م / 1336هـ - 1917م).

الوقف وإدارته في فلسطين:

بدأت عمليات رعاية الوقف وإدارته مع العهد الأيوبي، ثم المملوكي والعثماني، وقد تم تعيين العديد من أصحاب الولاية عليه والنظار والجباة والكتاب والمباشرين والشداد، وقد تولّاه إضافة لهؤلاء العلماء المسلمون، بعد أن تم تكليفهم بإدارة المؤسسات والحمامات، والمستشفيات والخانات، ومن الأسر التي عُرِفَت عنها الولاية على وقفيات إسلامية في القدس، "آل العلمي"؛ حيث دخلت إدارتهم هذه على قاعدة التوريث، فقد أداروا زاوية (الأسعدية) في جبل طور زيتا، وكذلك أوقاف "البيمارستان الصلاحي"، كما تولّى "آل الحسيني" بعض المؤسسات الوقفية الدينية (كالمدرسة الأمينية) القائمة بجوار الحرم القدسي، والمدرسة (الطشتمرية) وأوقافها، كما تولّى "آل الدجاني" خدمة (مقام النبي داود عليه السلام)، وكذلك "آل الخالدي"، وَ"آل السعدي"، وغيرهم من الأسر المقدسية.

وفيما يخدم الوقف فقد مارس القائمون عليه الاستثمار فيه. وهكذا كانت رسالة الوقف الإسلامي في التصدي لمشاريع تهويد المدينة.

والذي ينظر إلى المكتبة الخالدية في القدس يجد أن الجدار الذي يجاورها يرفع عليه العلم الإسرائيلي، وقد عجزت إسرائيل عن طمس وإلغاء معالم الوقف الإسلامي بما يخدم تهويد القدس وفلسطين.

القدس وفلسطين في ظل احتلالين؛ صليبي سَلَف وصهيوني خَلَف:

الأرض واحدة هي فلسطين؛ لكن الاحتلالين مختلفان في كِلا العقيدتين وأتباعهما، فبعد تسعة عقود من احتلال الصليبيين لفلسطين، كانت موقعة حطين التي ترتّب عليها تحرير بيت المقدس سنة (583هـ - 1187م)، إنها حكاية بدأها نور الدين وأتمها من بعده صلاح الدين، بعد تطهير المجتمع الإسلامي من شائبة الوجود الباطني، وعاد معها للشام وجهها السني، ليترتب عليه تحرير القدس وفلسطين، فالباطنية هي أساس الفساد في ذلك العصر وكل عصر، وها هي إسرائيل عاشت مستقرة طيلة خمسة عقود من خلال حكم باطني في أهم وأخطر طوق أمني يحيط بإسرائيل، ومع الزلزلة التي عصفت بسورية اليوم؛ فقد ذهب اليهود في الخوف من المصير الصليبي وعقدة حطين، وهل ستواجه إسرائيل المصير الصليبي؟

كان هذا ما حذّر منه أرنولد توينبي متكلماً عن يقظة المسلمين القادمة، فهم لن يبقوا في سُبَاتٍ دائم؛ فيقول: "صحيح أن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم سيستيقظ عندما يجد المسلمون أنفسهم أمام سِهام وحِراب عِداء أممي يستهدف وجودهم ودينهم، ما سيكون سبباً في إيقاظ روح النضال الإسلامي إيماناً منهم بحق الوجود، ولو كانوا في نومهم كأهل الكهف، فهم سيستنطقون التاريخ البطولي للإسلام، فهم أصحاب الانتصار على الغزاة الروم وتحرير سورية بعد (1000) سنة من احتلالها، وعلى الفرس كذلك، وتوّج تاريخهم هذا انتصارات نور الدين وصلاح الدين، ومن بعدهم السلطان قطز قاهر المغول، وبيبرس الذي طَهّر بلاد الشام من أي أثر صليبي".

إنها العنصرية التي بدأها الصليبيون، وسار على نهجها الصهاينة ضد أمة الإسلام، وهو الأمر الذي نَبَّه إليه توينبي في تحذيره من سعي عنصرية الغرب واليهود ضد الإسلام وأهله، ما سوف يكون عاملاً من عوامل استيقاظ النائم، والذي هو الإسلام، فالانتفاضة المباركة دفعت بربع مليون يهودي إلى الهجرة المعاكسة والعودة إلى الأوطان التي جاؤوا منها، ومع الخوف من عقدة (حطين) على دولتهم الوليدة.

فقد دفع السياسيون مراكز الدراسات العلمية اليهودية لدراسة عِلَّة اليقظة الإسلامية في العهود الصليبية، بقصد استقراء التاريخ في ماضيه، بقصد الاستفادة من حاضره ومستقبله، فهم لا يهمهم هنا الدراسات الصليبية بقدر ما يهمهم كيف تم تحرير القدس وفلسطين منهم؟ خاصة بعد تسعة عقود من احتلالهم لها، فها هم اليوم قد وجدوا أنفسهم على رمال متحرِّكة بعد كل سياسات التهويد، وخاصة منها بناء الجدار الذي أُسقط ببنائه مصطلح الدولة العبرية (حدودكِ يا إسرائيل من الفرات إلى النيل).

وقد توصّل الباحثون اليهود إلى القول بأن المؤثرات العقدية، والموروثات الثقافية والوقفية؛ هي المعطلة في سياسة التهويد، وأي اختراق لهذه الثوابت فإن مصير الصليبين سيلاحقهم، فالعصر السابق على الاحتلال الصليبي كان "الحمداني" في الشام، و"العبيدي" في مصر، وهذا العصر هو الذي هيأ السبيل للصليبيين لاحتلال فلسطين والقدس، ومع هذا الاحتلال مع ما رافقه من تغيير للمعالم الإسلامية في القدس ونيل منها، فقد دفعت هذه السياسة في يقظة الأمة يومها، وكان العلماء من وراء هذه اليقظة، فقدّموا النصح لولاة الأمر، على مكانة وقدسية القدس والأقصى، داعين إلى الجهاد لتحرير القدس والأقصى من السعي إلى تنصيرهما.

فوقعت هذه الدعوة على سياق وعرض البحث والدراسة عند الباحثين اليهود، فكان موروث الجهاد الذي كان يقوم عليه كتاب الإمام "علي بن طاهر السلمي" المتوفى سنة (498هـ - 499هـ)، والموجود في المكتبة الظاهرية بدمشق، في (12) جزءاً؛ وهو الذي قال إن الحركة الصليبية هي واحدة في الأندلس وصقلية والشام، وذلك قبل ابن الأثير بمائة عام، والشيخ "عِزَّ الدين السلمي" والقاضي "ابن شداد" الذي كان يُرافق "صلاح الدين"، والشيخ المحدِّث "الإمام النووي" الذي عاصر "الظاهر بيبرس".

وقد كُتبت في هذا العصر الذي زامن تحرير فلسطين، عشرات الكتب التي تحث على الجهاد المقدس، في الوقت الذي غابت فيه مثل هذه الدراسات والمؤلفات، خاصة في العهدين الباطنيين: "الحمداني" وما تلاه من حكم "بني مرداس"، والعبيدي الفاطمي في مصر.

فتلك هي خيوط الاستشعار التي توصَّل إليها الباحثون اليهود، وكانت سبباً في تحرير فلسطين والقدس، وذلك هو الخوف الذي يلاحق اليهود اليوم، وليس ذلك على الله ببعيد.


عبد الكريم إبراهيم السمك
 

المصدر: مجلة البيان 6/8/2013م العدد: [312]