من حصاد رمضان

ماذا عن ثمرات رمضان؟ أو ماذا عن حصاد رمضان؟ لعل توقفنا كل سنة لنتذاكر سويًّا بعض الدروس الرمضانية، لعل ذلك يفعِّل دور رمضان في حياتنا، ويعمق أثره في سلوكياتنا، وهذا هو المقصود من وراء ذكر الحصاد.

  • التصنيفات: مناسبات دورية - ملفات شهر رمضان -


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمنذ أيام كنا نتحدث عن استقبال رمضان وها هو يمر وينقضي سريعًا، ما كدنا نستقبله حتى ودعناه، والحمد لله على كل حال.

ولكن ماذا عن ثمرات رمضان؟ أو ماذا عن حصاد رمضان؟ لعل توقفنا كل سنة لنتذاكر سويًّا بعض الدروس الرمضانية، لعل ذلك يفعِّل دور رمضان في حياتنا، ويعمق أثره في سلوكياتنا، وهذا هو المقصود من وراء ذكر الحصاد.

وأول هذه الثمار أو الدروس:

1- استشعار الحاجة إلى التغيير: بمقارنة سريعة بين حالك قبل رمضان وحالك في رمضان، وأيهما أفضل، لابد أن تخرج بنتيجة ألا هي: التغيير والحاجة الشديدة إليه، بل والقدرة عليه، فلربما كان البعض يقصر في المحافظة على صلاة الفجر، ويتكاسل عن بعض النوافل والأوراد فكان في رمضان الأمر مختلفا، وظهرت صور من التنافس في الخيرات وعلو الهمة، كلها تؤكد أننا قادرون على التغيير، وأن المسلمين يمكنهم العودة مرة أخرى، وتغيير العالم من حولهم بهذه الرسالة الخاتمة الصالحة لكل زمان ومكان.

2- ومنها أيضًا: تعميق معاني الولاء والبراء والتركيز عليها، وقد ظهرت هذه المعاني جلية في رمضان إذ لا يصوم غير المسلمين،لا يشاركنا أحد في صيام، أو قيام، أو تلاوة، أو اعتمار، بل يختص بذلك كله المسلمون، وهذه الترجمة العملية ربما تربو على الكثير من الدروس النظرية لو وعاها كل مسلم.

يقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فانظر كيف وصفت الآية وبم وصفت هؤلاء؟

إنها وصفتهم بأداء هذه الشعائر، والحال كذلك في رمضان: نصوم وحدنا ونفطر وحدنا، ونعيّد وحدنا، ليسوا منا ولسنا منهم "أي اليهود والنصارى وسائر الكفرة"، بل نحن أمة متميزة لنا شأن، وللدنيا شأن آخر، بالإضافة إلى معاني التوحيد التي تستشف من الصوم معًا والفطر معًا، والاجتماع على شعائر واحدة.
3- كلنا دعاة: وهذا درس في غاية الأهمية، وهو ضرورة أن يكون لك دور ومشاركة في الدعوة إلى الله تعالى، لتثبت على الطريق، وتحتفظ بثمار رمضان وحصاده، فحتى تحيا الحياة الإسلامية لابد أن توجد الواقع المعِين على ذلك، كلنا قد أحس بذلك في رمضان من الجماعية على الطاعة مما يسر علينا فعلها، والتنافس فيها، وحتى تـَسهل عليك الطاعات بعد رمضان لابد من إيجاد البيئة المعينة على ذلك، وهذا لا يكون بغير الدعوة إلى الله تعالى.

إلى متى نقتصر على أضعف درجات التغيير "التغير القلبي"؟! ألا تعلم أنك بذلك تكون على الحافة، ولربما كان السقوط وشيكًا!! إذ "ذلك أضعف الإيمان"؟!

لم تجعل نفسك دومًا على حافة النجاة، وفي أضعف درجات الإيمان مع إمكانية الارتفاع لدرجة أعلى؟!

إن دخولك أخي حصنَ الدعوة إلى الله تعالى سببٌ للحفاظ على مكاسب رمضان وحصاده، وكذا الانتفاع بدروسه والاستمرار عليها بعد انقضائه.

إن عملك في الدعوة إلى الله تعالى ليس فقط لتكثير السواد، بل لحفظ إيمانك أنت، وإلا لو اقتصرت على نفسك فقط فأنت مهدد بالتراجع.

العمل في الدعوة ضرورة، إما أن تؤثر وإما أن تتأثر.
إما أن تهاجم، وإلا دافعت وهوجمت.
إما أن تدعو، وإلا دُعيت.

فاقترب من إخوانك، وكن معهم في حقل الدعوة إلى الله تعالى، واجتهدوا سويًّا في إيجاد البيئة التي نستطيع بها الحفاظ على مكاسب رمضان.

4- ومن الحصاد أيضًا: استشعار الحاجة الماسة والضرورة الشديدة، لتطبيق الشريعة الإسلامية، يظهر ذلك من مثل بسيط يتكرر كثيرًا في رمضان عندما تمر ببعض المفطرين الذين يجهرون بالفطر في نهار رمضان، أو ببعض المتبرجات، ثم تجد نفسك في أحيان كثيرة مكتوف اليدين لا تستطيع أن تفعل شيئًا سوى النصيحة، ولربما كانت معدومة الأثر، وإن كنا قد وصلنا إلى هذه الدرجة الإيمانية العالية في رمضان، وفي ظل غياب الشريعة، فكيف لو طبقت؟!

إذاً لدخل كل مجرم جحره، ولخرست الألسنة المتطاولة على الشرع، ولفكر كل متهاون بالشعائر ألف مرة قبل الإقدام على انتهاكها، ولاستطعت أن تمشي في الطرقات وأنت آمن على دينك من الفساد والضياع، فلتكن هذه القضية مطروحة حتى لا يعتريها النسيان، وتستمر الحياة بعيدًا عن شرع الله تعالى.

5- ومن الحصاد الرمضاني أيضًا وخاصة من ثمار الاعتكاف: ضرورة الترابط والتآخي، وإحياء معاني الحب في الله عزَّ وجلَّ، إذ يشعر المعتكِف بهذه المعاني، وبشدة الحاجة إليها بعد خروجه من معتكفه، وهذه المعاني يتوقف عليها الكثير من جوانب النجاح في حياتنا الدعوية خاصة، وحياتنا عامة، فليت هذا الدرس يُستصحب بعد رمضان لنحقق: {ِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات:10]، لنحصِّل: «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ» [رواه أحمد، وصححه الألباني].

وما أكثر ما يقع ذلك في رمضان عامة والاعتكاف خاصة، ونعم العدة في هذا الزمان إخوان الصدق، ورفقة الإيمان، فاشدد يديك بهم، وعض على صحبتهم بالنواجذ، فهم أعوان الخير.

6- ومنها: أهمية التربية الأخلاقية، والتزكية، والتقويم للنفس البشرية، وهذه غاية العبادات كلها تقريبًا، وهي تطهير القلب والنفس.

فعند ذكر نعمة الإسلام قال الله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].

ومع ذكر عبادة الحج جاء النهي عن الرفث والفسوق والجدال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].

وكذا الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].

والزكاة: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].

والصيام: «إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ» [رواه مسلم]، ومع التركيز على هذه المعاني يصل العبد إلى درجة التقوى.

وما أحوجنا طيلة السنة - وعلى مدار الأيام كلها - أن نستحضر هذه المعاني، والتي هي من أعظم أسباب دخول الجنة بعد التوحيد: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَسُئِلَ عَن أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ» [رواه الترمذي، وحسنه الألباني].

وهي كذلك من أعظم وسائل الدعوة: إذ "عمل رجل في ألف رجل أشد من قول ألف رجل لرجل"، وكم من السلوكيات صَدت عن سبيل الله تعالى، وإلى الله المشتكى.

7- ومنها أيضًا: استلهام الدروس والعبر من انتصاراتنا في رمضان كـ"بدر"، و"حطين"، و"عين جالوت"، وغيرها، وأن الأمة لو أعدت العدة كما ينبغي فليس الأعداء بشيء، إذ من كان يظن أن التتر يهزمون؟! ولكن وعد الله وهو أيضًا باق لهذه الأمة، ولكن بشرط النصرة: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، فإن حققنا الشرط حقق الله لنا الوعد.

وبعد، أيها القارئ الكريم: لعلك بهذه الإشارات، مع ما يوحيه إليك فكرك تستفيد من ذلك الشهر الفضيل، ولعلنا خلال سنوات الصيام، ومع استلهام الدروس من هذه العبادات، لعلنا نحقق ما يريده الله منا، فيكون التغيير، إذ هو يبدأ بي وبك: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، نسأل الله أن يعيد علينا رمضان أزمنة مديدة، وسنين عديدة، ونحن إليه أقرب، وعلى طاعته أدوم، آمين.



إيهاب الشريف