شهر رمضان.. وقفات وأحكام (1-2)

من أفطر ناسياً أو مخطئاً فصومه صحيح ولا قضاء عليه كمن ظن أن الفجر لم يطلع فأكل وهو طالع، أو ظن أن الشمس غربت فأكل وهي لم تغرب.

  • التصنيفات: مناسبات دورية - ملفات شهر رمضان -

يتضمن شهر رمضان مسائل مهمة يحتاج كل مسلم إلى مذاكرتها، أُوجزها في هذه الوقفات :


الوقفة الأولى: حكم الصيام:
إن أول ما فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة كان على التخيير: فمن شاء صامه وهو أفضل، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينًاً، ثم أُلزم الناس بصيامه حين نزل قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وكان الحكم في أول الأمر: أن من نام بعد غروب الشمس وجب عليه الإمساك عن المفطرات، ولو استيقظ ليلاً، حتى تغرب الشمس من الغد؛ فعن البراء رضي الله عنه قال: "كان أصحاب محمد إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن حرمة الأنصاري كان صائمًاً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته، قالت: خيبةً لك. فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187]" [1].

الوقفة الثانية: حكمة الصيام:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، في هذه الآية إشارة إلى حكمة من حكم الصيام، وهي تحقيق تقوى الله؛ فإن النفس إذا تركت ما هو مباح في الأصل وهو الأكل والشرب امتثالاً لأمر الله في نهار رمضان كان ذلك داعياً لترك المحرمات الأخرى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [2]، وقد هيأ الله لنا هذا الشهر بإضعاف كيد الشيطان وشره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسُلْسِلت الشياطين» [3].

ولا بد من توطين النفس وتهيئتها في أيام الصيام لتحقيق هذه الحكمة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم» [4].

الوقفة الثالثة: فضل الصيام:
ورد في فضل الصيام نصوص كثيرة، وأعظم ما ورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي والصوم جنة» [5]، و«للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك») [6]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [7] .

الوقفة الرابعة: أحكام الصيام :
أولاً: يثبت دخول شهر رمضان برؤية الهلال؛ فإن لم يُرَ أو حال دون رؤيته غيم أو قتر أُتِم شهر شعبان ثلاثين يوماً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» [8]. والراجح أنه يكفي في ثبوت الرؤية خبرُ واحدٍ من المسلمين .وهو مذهب الشافعي [9]، والحنابلة [10]، وقول ابن حزم [11] واختيار ابن تيمية [12] وابن القيم [13]. والدليل عليه قول ابن عمر رضي الله عنهما: "تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه" [14].

ثانياً: يحرم صيام آخر يومين من شعبان أو آخر يوم منه إلا أن يوافق ذلك يوماً كان من عادته صيامه كـ(الإثنين، والخميس) فيجوز عندئذٍ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصمْ ذلك اليوم» [15].

ثالثًاً: يحرم على القول الراجح وهو مذهب الشافعي [16] صيام يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر؛ لحديث أبي هريرة السابق، ولقول عمار رضي الله عنه: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" [17].

رابعاً: شروط وجوب الصيام ثلاثة :
1- العقل .
2- البلوغ .
3- القدرة عليه .

شروط صحة الصيام أربعة :
1- الإسلام.
2- العقل.
3- انقطاع دم الحيض والنفاس .
4- النية من الليل لكل يوم واجب .
لحديث حفصة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له» [18]. وهذا نص صريح لاشتراط النية لكل ليلة؛ فمن كان مسافراً وقد نوى الفطر من الليل، ثم عزم على الصوم بعد طلوع الفجر لم يصح صومه .وينبغي على العبد أن يبتعد عن وسواس الشيطان في النية؛ فإن النية لا تحتاج إلى تكلف؛ فمتى خطر بقلبه أنه صائم غداً فقد نوى.

خامساً: فرض الصيام:
الإمساكُ عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

سادساً: مفطرات الصوم:
1- الأكل والشرب.

2- ما كان في معنى الأكل والشرب، وهو ثلاثة أشياء :
أ- القطرة في الأنف التي تصل إلى الحلق، وهو مأخوذ من قوله: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» (أخرجه مسلم)، فإنه يفهم أنه لو دخل الماء من الأنف إلى الجوف أفطر .
ب- الإبر المغذية؛ فإنها تقوم مقام الأكل والشرب فتأخذ حكمها، وكذا المغذي الذي يصل إلى المعدة عن طريق الأنف .
ج- حقن الدم في المريض؛ لأن الدم هو غاية الأكل والشرب فكان بمعناه [19].

3- الجماع: وهو من المفطرات بالإجماع [20].

4- إنزال المني باختياره بمباشرة أو استمناء، أو غير ذلك؛ لأنه في معنى الجماع، ولأنه من الشهوة التي يدعها الصائم كما سبق في حديث أبي هريرة مرفوعاً وفيه: «يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي» [21] ومعلوم أن من أنزل المني عامداً مختاراً باستمناء أو غيره، فقد أنفذ شهوته ولم يدعها، أما الاحتلام فليس مفطراً بالإجماع [22].

5- التقيؤ عمداً، وهذا مفطر أيضاً بالإجماع [23]، أما من غلبه القيء فلا يفطر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض» [24].

6- خروج دم الحيض والنفاس بالإجماع [25]؛ فمتى وُجد دم الحيض أو النفاس في آخر جزء من النهار، أو كانت حائضاً فطهرت بعد طلوع الفجر فسد صومها؛ ومن الأدلة عليه حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ ؟» [26].

7- اختلف أهل العلم في الحجامة: هل تفطر أو لا؟ وسبب الخلاف في هذه المسألة: التعارض الظاهر بين حديث ثوبان مرفوعاً: «أفطر الحاجم والمحجوم» [27]، وحديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" [28]، واختلف أهل العلم في طريق الترجيح بينهما لتعذر الجمع بينهما فاختار ابن تيمية [29] وابن القيم [30] وهو مذهب الحنابلة [31] تقديم حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» لأنه ناقل عن الأصل، أما حديث ابن عباس فمبقٍ على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي، كما هو مقرر في قواعد الترجيح بين الأدلة المتعارضة .

والراجح تقديم حديث ابن عباس وأن الحجامة ليست من المفطرات وهو مذهب الجمهور؛ وذلك أنه لا يُصار إلى إعمال قواعد الترجيح بين الأدلة إلا إذا جهل التاريخ، أما إذا علم فيجب العمل بالمتأخر ويكون ناسخاً للمتقدم [32]، وقد علم هنا بخبر الصحابي من حديثين :
الأول: حديث أنس بن مالك قال: "أول ما كُرِهَت الحجامة للصائم، أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أفطر هذان»، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم" [33].

الثاني: حديث أبي سعيد الخدري قال: "رخص رسول الله في القبلة للصائم والحجامة" [34]، والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فيكون الحديثان نصاً في النسخ فوجب العمل بهما [35].

8- الراجح في القطرة في العين أو الأذن والكحل، ومداواة الجروح الغائرة، وشم الطيب، والإبر غير المغذية، وإدخال علاج لمريض من الفرج: أنها لا تفطر؛ لأنه ليس أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما، فتبقى على الأصل وهو الجواز، وما أحسن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا حيث قال: "... فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله على الصائم، وأفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوها سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك" [36].

سابعاً: من أفطر ناسياً أو مخطئاً فصومه صحيح ولا قضاء عليه كمن ظن أن الفجر لم يطلع فأكل وهو طالع، أو ظن أن الشمس غربت فأكل وهي لم تغرب .ومن الأدلة على ذلك :

1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «من أكل ناسياً وهو صائم فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه» [37].
2- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس" [38]. ولم يُنقل أنهم قضوا ذلك اليوم؛ ولو أُمِرُوا بقضائه لنُقل إلينا كما نُقِلَ فطرهم [39].

_____________________
[1] أخرجه البخاري، ح/1915 .
[2] أخرجه البخاري، ح/1903 .
[3] أخرجه البخاري، ح/1899، ومسلم، ح/1079 .
[4] أخرجه البخاري، ح/1904 .
[5] أي شر ووقاية من الآثام والنار (فتح الباري 4/125).
[6] أخرجه البخاري، ح/1894، 1904، 7492، ومسلم ح/1151 .
[7] أخرجه البخاري، ح/1901 .
[8] أخرجه البخاري، ح/1909 .
[9] انظر: روضة الطالبين (2/207).
[10] انظر: الفروع (3/14).
[11] انظر: المحلى (4/373).
[12] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (25/105).
[13] انظر: زاد المعاد (2/38).
[14] أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وقال ابن حزم: (هذا خبر صحيح)؛ وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/16).
[15] أخرجه البخاري، ح/1914، ومسلم، ح/1082 .
[16] المهذب والمجموع (6/275).
[17] حديث صحيح أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم (انظر فتح الباري 4/144) ومختصر صحيح البخاري للألباني (1/444).
[18] صحيح أبي داود، ح/2454 .
[19] انظر مجالس شهر رمضان لابن عثيمين، ص 66 .
[20] حكاه النووي في المجموع (4/348).
[21] انظر المغني 4/361 363، والمجموع 6/349، وحقيقة الصيام لابن تيمية، ص 23 .
[22] انظر المجموع 6/349 .
[23] حكاه ابن المنذر في كتاب الإجماع، ص 15 .
[24] صحيح أبي داود، ح/380 .
[25] حكاه ابن قدامة وغيره، انطر المغني 4/397 .
[26] أخرجه البخاري، ح/304 .
[27] أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وصححه الإمام أحمد والبخاري والدارمي وغيرهم، انظر فتح الباري، 4/409 .
[28] أخرجه البخاري، ح/5694 .
[29] حقيقة الصيام، ص 23 .
[30] زاد المعاد، 2/60 .
[31] الفروع، 3/47 .
[32] انظر البحر المحيط للزركشي (6/140).
[33] أخرجه الدارقطني وصححه وأقره البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/73).
[34] أخرجه الطبراني والدارقطني قال ابن حزم: إسناده صحيح وصححه الألباني (انظر الإرواء
4/74).
[35] انظر الإرواء 4/75 .
[36] حقيقة الصيام، ص 37 .
[37] أخرجه البخاري، ح/6669 .
[38] أخرجه البخاري، ح/1960 .
[39] انظر حقيقة الصيام، ص 34 .
 

 

عبد الله الإسماعيل
 

 

المصدر: مجلة البيان