وقفات مع من يرى جواز كشف الوجه
سليمان بن صالح الخراشي
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -
وفيه
1- تنبيهات مهمة
أ - الألباني معذور.
ب - الألباني يرى أن تغطية الوجه أفضل.
ج- أمران يلزمان من يرى جواز كشف الوجه في البلاد التي تستر فيها
النساء وجوههن؛ كالسعودية.
2- أهم أدلة وجوب ستر الوجه.
3- تناقضات للشيخ الألباني -غفر الله له - في كتابيه: "جلباب المرأة"
و"الرد المفحم".
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين:
تعدُّ مسألة "كشف وجه المرأة" البوّابة الأولى التي عبر عليها
"التحرير والتغريب" إلى بلاد المسلمين؛ حيث كانت بداية ومرحلة أولى
لما بعدها من الشرور(1).
وقد كان المسلمون مجمِعين (عمليّاً) على أن المرأة تغطي وجهها عن
الأجانب. قال الحافظ ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً
يسترن وجوههن عن الأجانب"(2). ونقل ابن رسلان "اتفاق
المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه"(3). ومما
يؤكد هذا أنك لا تجد مسألة كشف الوجه من عدمه قد أخذت حيزًا كبيرًا في
مصنفات الأئمة، ولم تستغرق جهدهم ووقتهم، بل لا تكاد تجد -فيما أعلم-
مصنّفًا خاصًا بهذه المسألة؛ ولو على شكل رسالة صغيرة؛ مما يدل دلالة
واضحة أن هذه القضية من الوضوح بمكان، وأن عمل المسلمين كما هو قائم،
يتوارثه الخلف عن السلف. وهذا التواتر العملي يدلنا أيضًا على طبيعة
تلقّي العلماء لمثل هذه المسائل، وأنهم يرشدون أمتهم لما فيه العفة
والطهر والاستقامة على أرشد الأمور، وأفضل السبل.
ولم يبدأ انتشار السفور وكشف الوجه إلا بعد وقوع معظم بلاد المسلمين
تحت سيطرة الكفار في العصر الحديث، فهؤلاء الكفار كانوا يحرصون على
نشر الرذيلة ومقدّماتها في ديار الإسلام لإضعافها وتوهين ما بقي من
قوّتها. وقد تابعهم في هذا أذنابهم من العلمانيين المنافقين الذين
قاموا بتتبع الأقوال الضعيفة في هذه المسألة ليتكئوا عليها ويتخذوها
سلاحًا بأيديهم، في مقابلة دعاة الكتاب والسنة. لا سيما في الجزيرة
العربية، آخر معاقل الإسلام.
وحيث أن الشيخ الألباني رحمه الله أشهر من نصر القول بجواز كشف
المرأة لوجهها في هذا العصر، وتبنّى هذا القول الضعيف في كتابه "جلباب
المرأة"، فإن أنصار السفور قد فرحوا بزلّته هذه، وطاروا بها، وأصبحت
ترسًا لهم يواجهون به الناصحين.
فقد أحببت أن أبيّن في هذه الرسالة شيئاً من تناقضات الشيخ -غفر الله
له- يجهلها كثير من أولئك الذين اغتروا بترجيحاته؛ لكي يتبين لهم مدى
ضعف قوله هذا، وأنه قد جانَبَ الصّواب في هذه المسألة، فكانت زلّته
فيها سبباً في زلّة غيره وفتنتهم. وقد قدمتُ لذلك بتنبيهات مهمة،
وبذكر أقوى أدلة وجوب تغطية الوجه.
تنبيهات مهمة
1- أن الألباني رحمه الله معذور -إن شاء الله- في ما ذهب إليه من جواز كشف الوجه؛ لأنه من العلماء الثقات المجتهدين، وقد أداه اجتهاده إلى هذا القول الضعيف، قال صلى الله عليه وسلم: « إذا اجتهد الحاكم ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر » متفق عليه. فينبغي علينا حفظ مكانته، لكن مع عدم متابعته على زلته، ومع التنبيه على خطئه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا؛ قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور، لا يجوز أن يُتْبع فيها، مع بقاء مكانه ومنزلته في قلوب المؤمنين" (4).
2- إذا كان الألباني معذورًا، فما عذر من يتابعه لمجرد أن قوله وافق
هواه وشهوته؟! فهؤلاء غير معذورين، وهم ممن يتتبعون زلات العلماء بعد
أن استبان لهم الحق؛ متابعة لأهوائهم. ولتتأكد من هذا فإنك سوف تجد
بعض من تابعه في هذه المسألة لا يتابعه -وهو مصيب - في تحريمه للأغاني
مثلاً! أو في تحريمه لحلق اللحية! أو تحريم الإسبال! بل لا يتابعونه
في الشروط التي ذكرها - وهي حق - للحجاب الشرعي! لتعلم بعدها أنهم ممن
قال الله عنهم {
اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ
}.
3- أن الألباني رغم قوله بهذا القول الضعيف، فإنه يرى أن تغطية
المرأة لوجهها أفضل. قال رحمه الله: "نلفت نظر النساء المؤمنات إلى أن
كشف الوجه وإن كان جائزاً فستره أفضل"(5). وقال: "فمن
حجبهما -أي الوجه والكفين- أيضاً منهن، فذلك ما نستحبه وندعو
إليه"(6).
4- أن الألباني عندما اختار هذا القول الضعيف فإنه اجتهد كثيرًا في
البحث عن أي دليل يرى أنه يدل عليه. ولكنه في المقابل لا يذكر جميع
أدلة من أوجب تغطية الوجه؛ لأنه -في ظني- لا يستطيع أن يجيب عن أكثرها
لصراحتها! أما القائلون بتغطية الوجه فإنهم يذكرون أدلتهم، ثم يذكرون
أدلة الألباني جميعها ويجيبون عنها ويفندونها. وما هذا إلا دليل على
قوة موقفهم -ولله الحمد-(7)
5- أن الأوْلى -عندي- لمن يريد أن يناقش من يرون جواز كشف الوجه أن
لا يُشغل نفسه بالرد على شبهاتهم، إنما يكتفي بذكر أدلة وجوب تغطية
الوجه مما لا يستطيعون له ردًا، ولأنه ناقل عن الأصل. وقد ذكرت أهمها
كما سيأتي -إن شاء الله-.
6- أن الواجب على المسلم الذي يريد السلامة لدينه أن يلزم النصوص
المحكمة الصريحة في هذه المسألة وغيرها، ويدع تتبع النصوص المتشابهة؛
لكي لا يكون ممن قال الله فيهم {
فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ
}.
7- أنه يلزم من يرى جواز كشف المرأة لوجهها أمام الأجانب في البلاد
التي يسود فيها تغطية الوجه ما يأتي:
أ - أن يكون ذلك صادرًا عن اجتهاد منه وتأمل في الأدلة، لا عن اتباع
هوى وشهوة.
ب- أن لا يدعو إلى كشف الوجه؛ لأننا علمنا سابقاً أن تغطية الوجه
أفضل وأولى حتى عند القائلين بجواز كشفه -كالألباني-، فكيف يُدْعى من
يعمل بالفاضل إلى تركه ؟! وهل هذا إلا دليلٌ على مرض القلب، لمن تأمل
؟!
ولك أن تعجب إذا رأيت من يتحمس لنشر هذا الرأي الضعيف بين النساء
العفيفات المتسترات، ولا تجده يتحمس هذا الحماس لدعوة المتبرجات
الفاسقات إلى التزام الحجاب! مع أن المتبرجات يرتكبن (المحرم)
بالاتفاق، وأولئك النسوة المتسترات يفعلن الأفضل ! نعوذ بالله من زيغ
القلوب وانتكاسها.
أهم أدلة تغطية الوجه
1- أن جميع العلماء -سواءً القائلين بتغطية الوجه أو كشفه- متفقون على
أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم واجبٌ عليهن أن يغطين وجوههن عن
الأجانب. قال القاضي عياض: "فرض الحجاب مما اختصصن به -أي زوجاته صلى
الله عليه وسلم- فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز
لهن كشف ذلك"(8).
وقد قال تعالى: {
يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ
أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ
يُؤْذَيْنَ
}، ومعنى هذه الآية أن حجاب نساء المؤمنين كحجاب زوجاته صلى الله عليه
وسلم؛ لأن الأمر واحد للجميع، وقد اتفق العلماء بلا خلاف كما سبق على
أن حجاب نسائه صلى الله عليه وسلم هو وجوب تغطية الوجه. إذاً: فحجاب
نساء المؤمنين هو تغطية الوجه. وهو معنى قوله تعالى
{
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن
جَلاَبِيبِهِنَّ
}.
فالجلباب مع الإدناء يستر جميع بدن المرأة حتى وجهها، ويشهد لهذا
حديث عائشة -رضي الله عنه- في حادثة الإفك لما رآها صفوان بن المعطل
-رضي الله عنه-، قالت: "فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي
بجلبابي". (أخرجه البخاري4750).
2- قوله تعالى {
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ
حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ
}. في هذه الآية يتفق العلماء على أنها تدل على وجوب الحجاب وتغطية
الوجه، ولكن القائلين بجواز كشف الوجه يرونها خاصة بأزواج النبي صلى
الله عليه وسلم. وهذا ليس بصحيح؛ بل الآية تعم جميع النساء، ويدل لهذا
عدة أمور:
أ- أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ب- أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين كن أطهر نساء الدنيا
قلوبًا وأعظمهن قدرًا في قلوب المؤمنين، وهن مُحرّمات على غيره صلى
الله عليه وسلم؛ ومع هذا كله أُمرن بالحجاب طلباً لتزكية قلوبهن،
فغيرهن من النساء أولى بهذا الأمر.
ج- أن الله جعل الحكمة من الحجاب في هذه الآية أنه
{
ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ
}، وهذه علة متعدية مطلوب تحصيلها للمؤمنين في كل زمان ومكان. فلو
قلنا بأن الحجاب خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى هذا أن
نساء المؤمنين لا يحتجن إلى هذه الطهارة !! ومعناه أيضاً أنهن أفضل من
زوجاته صلى الله عليه وسلم !! فهل يقول بهذا
مسلم؟!
د- أن الله تعالى قال بعدها {
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ
إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ
أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنًَّ
} .قال ابن كثير في تفسيرها: "لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب
بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم". وهذا حكم عام لجميع
النساء، فكيف يقال -حينئذٍ- بأن أول الآية خاص بزوجاته صلى الله عليه
وسلم ؟!
3- قوله صلى الله عليه وسلم: «
من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم
القيامة
» فقالت أم سلمة رضي الله عنها: "فكيف يصنع النساء بذيولهن؟" قال:
«
يرخين شبرًا
» قالت:" إذاً تنكشف أقدامهن". قال: «
فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه
»(9).
ففي هذا الحديث الصحيح دليل على أنه كان من المعلوم والمتقرر في زمنه
صلى الله عليه وسلم أن قدم المرأة عورة، يجب عليها سترها عن الأجانب،
والألباني نفسه يوافق على هذا(10).
وإذا كان قدم المرأة عورة يجب ستره، فوجهها أولى أن
يُستر.
فهل يليق -بعد هذا- أن تأتي الشريعة بتغطية القدم وهو أقل فتنة وتبيح
كشف الوجه وهو مجمع محاسن المرأة وجمالها وفتنتها ؟! إن هذا من
التناقض الذي تتنـزه عنه شريعة رب العالمين.
4- قوله صلى الله عليه وسلم: «
لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها كأنه ينظر
إليها
» (أخرجه البخاري).
فقوله صلى الله عليه وسلم: «
كأنه ينظر إليها
» دليل على أن النساء كن يُغطين وجوههن وإلا لما احتاج الرجال إلى أن
تُنعت لهم النساء الأجنبيات، بل كانوا يستغنون عن ذلك بالنظر إليهن
مباشرة.
5- أحاديثه الكثيرة صلى الله عليه وسلم في أمر الخاطب أن ينظر إلى
مخطوبته(11)؛ ومن ذلك ما رواه المغيرة بن شعبة قال: أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها. قال:
«
اذهب فانظر إليها؛ فإنه أجدر أن يؤدم
بينكما
». قال: فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها وأخبرتهما بقول
النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك. قال: فسمعتْ ذلك المرأة
وهي في خدرها فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن
تنظر فانظر، وإلا فأنشدك، كأنها أعظمت ذلك. قال: فنظرت إليها،
فتزوجتها".(12)
ففي هذا الحديث دليل على أن النساء كن يحتجبن عن الأجانب، ولهذا لا
يستطيع الرجل أن يرى المرأة إلا إذا كان خاطباً. ولو كنّ النساء يكشفن
وجوههن لما احتاج الخاطب أن يذهب ليستأذن والدا المخطوبة في النظر
إليها. وأيضًا لو كنّ يكشفن وجوههن لما احتاج صلى الله عليه وسلم أن
يأمر الخاطب بالنظر إلى المخطوبة في أحاديث
كثيرة.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن خطب امرأة من الأنصار:
«
اذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار
شيئاً
» أخرجه مسلم.
إذًا استثناء النظر إلى المخطوبة دليل على أن الأصل هو احتجاب
النساء، وإلا لم يكن لهذا الإستثناء فائدة.
تناقضات الألباني -رحمه الله- في كتابيه " جلباب المرأة" و " الرد المفحم"
1- أن الألباني -عفا الله عنه - قرّر أن الأمر الوارد بالجلباب في قوله تعالى { يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ }، لا يشمل تغطية الوجه؛ لأن الجلباب هو ما يستر البدن مع الرأس فقط(13). ولو كان الأمر كما قرر الشيخ لقال الله تعالى (يتجلببن) ولم يقل { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ }؛ لأنه كيف يقال للمرأة: أدني الجلباب، وهو يغطي رأسها وبدنها ؟!
(فالإدناء) أمر زائد على لبس الجلباب؛ وهو تغطية الوجه؛ لقوله تعالى
بعده {
ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ
يُؤْذَيْنَ
} والوجه هو عنوان المعرفة.
2- قرر الألباني -عفا الله عنه - في كتابه بأن آية الحجاب
{
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ
حِجَابٍ
} عامة لكل النساء(14)، ومعلوم أن آية الحجاب نزلت في زينب
بنت جحش رضي الله عنها، وهي إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم، وحجابهن
الواجب هو تغطية الوجه باتفاق العلماء -وبإقرار الألباني نفسه-
(15). فيلزم أن يكون حجاب نساء المؤمنين هو تغطية الوجه
أيضاً؛ لأن الآية عامة باعتراف الألباني.
3- ذكر الألباني حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجت سودة بعدما
ضُرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها.."
الحديث، وفيه أن عمر رضي الله عنه عرفها لجسمها" ثم علق الألباني على
قولها "بعدما ضُرب الحجاب" قال: "تعني حجاب أشخاص نسائه صلى الله عليه
وسلم في قوله تعالى {
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ
حِجَابٍ
} وهذه الآية مما وافق تنـزيلها قول عمر رضي الله عنه كما روى البخاري
(8/428) وغيره عن أنس قال: قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله!
يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله
آية الحجاب"(16).
قلت: قول الألباني "تعني حجاب أشخاص نسائه صلى الله عليه وسلم" يناقض
ما ذكره بعد هذا من أن الوحي نزل بتأييد عمر في حجاب "أبدان" زوجاته
صلى الله عليه وسلم، ولم يؤيده في حجاب "أشخاصهن". قال الألباني: "في
الحديث -أي السابق- دلالة على أن عمر رضي الله عنه إنما عرف سودة من
جسمها، فدلّ على أنها كانت مستورة الوجه، وقد ذكرت عائشة أنها كانت
رضي الله عنها تُعرف بجسامتها، فلذلك رغب عمر رضي الله عنه أن لا
تُعرف من شخصها، وذلك بأن لا تخرج من بيتها، ولكن الشارع الحكيم لم
يوافقه هذه المرة لما في ذلك من الحرج"
(17)
قد يقال: بأن هذا سبق قلم من الشيخ، أراد أن يكتب: "تعني حجاب أبدان
نسائه صلى الله عليه وسلم" فكتب "تعني حجاب أشخاص نسائه صلى الله عليه
وسلم"
فأقول: هذا ما أظنه، أنه سبق قلم من الشيخ بدليل ما بعده. ومع هذا
ففيه تناقض شديد!! وهو ما أريد التنبيه عليه: وهو أن الشيخ هنا يرى أن
آية الحجاب {
فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ
} نزلت في حجاب البدن، ومنه تغطية الوجه -كما سبق-. ولكننا نراه في (ص
87 من جلباب المرأة) يقول تعليقاً على أثر أم سلمة رضي الله عنها
قالت: "لما انقضت عدتي من أبي سلمة أتاني رسول الله صلى الله عليه
وسلم فكلّمني بيني وبينه حجاب.." قال الألباني: "الظاهر أن الحجاب في
هذه الرواية ليس هو الثوب الذي تتستر به المرأة، وإنما هو ما يحجب
شخصها من جدار أو ستار أو غيرهما، وهو المراد من قوله تعالى
{
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ
حِجَابٍ
}"!! فهو هنا يرى أن الآية تدل على حجاب الأشخاص لا الأبدان؛ لكي يفر
من القول بتغطية الوجه، وهناك يرى أنها تدل على حجاب الأبدان ومنه
تغطية الوجه بدليل فعل سودة رضي الله عنها !! فتأمل هذا
التناقض!
ولو ذهب الألباني إلى القول الصحيح لسلم من هذا التناقض، والله الموفق.
4- ذكر الألباني -عفا الله عنه، كما سبق- أثر أم سلمة رضي الله عنها،
قالت: لما انقضت عدتي من أبي سلمة أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكلّمني بيني وبينه حجاب.." ثم قال : "الظاهر أن الحجاب في هذه
الرواية ليس هو الثوب الذي تتستر به المرأة، وإنما هو ما يحجب شخصها
من جدار أو ستار أو غيرهما، وهو المراد من قوله تعالى
{
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ
حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ
}" (18).
قلت: في هذا عدة أمور:
الأول: أن الألباني -عفا الله عنه - يقرّر هنا بأن آية الحجاب عامة لجميع النساء؛ لأن أم سلمة عندما كلمها النبي صلى الله عليه وسلم في الأثر السابق لم تكن من زوجاته صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن العلماء متفقون على أن هذه الآية نزلت -كما سبق- في زواجه
صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها، وحجاب زوجاته
بالاتفاق هو وجوب تغطية الوجه. فيلزم الألباني أن يقول به لجميع
النساء المؤمنات لأنه يرى -كما سبق- أن الآية عامة لجميع
النساء!
الثالث: إن قال الألباني كما سبق: نعم، هي عامة لجميع النساء، ولكنها
لا تدل على تغطية الوجه، وإنما تدل على ستر النساء لأشخاصهن عند سؤال
الرجال لهن المتاع. أقول: هذا تناقض عظيم تتنـزه الشريعة عنه. إذ كيف
تأمرهن بستر أشخاصهن عند سؤال المتاع، ثم ترخص لهن في كشف وجوههن أمام
الرجال على حد قولك؟!!
فما الداعي لحجاب الأشخاص أصلاً ما دامت الوجوه مكشوفة
؟!
أما من يرى تغطية الوجه -وهو القول الصحيح- فإنه لم يتناقض هنا، ولله
الحمد، لأن هذه الآية عنده تدل على تغطية الوجه لجميع النساء
المؤمنات.
والحجاب في الآية عنده يشمل تغطية الوجه ، وحجاب الجدار والستر ونحوه
.
5- يرى الألباني أنه لا فرق بين حجاب الحرة المسلمة والأمة المسلمة
فالواجب عليهن ستر أبدانهن ما عدا الوجه والكفين، ويشنّع على من قال
بالفرق بين حجاب الحرة وحجاب الأمة وهم جمهور الأمة. ثم نراه يصحح أثر
قتادة في تفسير آية {
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن
جَلاَبِيبِهِنَّ
} وهو قوله -أي قتادة- : "أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على
الحواجب"(19)
ولكن الألباني لم يكمل قول قتادة ! بل بتره كما سبق! فهو يقول بعد
الكلام السابق: "وقد كانت المملوكة إذا مرّت تناولوها بالإيذاء، فنهى
الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء" !
فقتادة كالجمهور يفرق بين حجاب الحرة والأمة. فيلزم الألباني حينئذٍ
أن يفرق بين حجابيهما، أو أن لا يحتج بأثر قتادة الذي يناقض قوله
!
6- أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء
المهاجرات الأول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن
فاختمرن بها" قال الحافظ ابن حجر: "اختمرن: أي غطين
وجوههن"(20) فلم يعجب هذا التفسير الألباني رحمه الله لأنه
يناقض قوله بجواز كشف الوجه. فقال مُخَطِّئًا الحافظ ابن حجر بأسلوب
غريب: "قوله "وجوههن" يحتمل أن يكون خطأ من الناسخ، أو سبق قلم من
المؤلف، أراد أن يقول "صدورهن" فسبقه القلم.." (21) !!
فانظر كيف يخطئ العلماء في سبيل إقرار رأيه
الضعيف؟!
وفاته -عفا الله عنه - أن الحافظ ابن حجر قال عند تعريف الخمر: "ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها"(22) ! فهو يعني ما يقول، ولم يخطئ كما يزعم الألباني !.
7- شنّع الألباني رحمه الله على القائلين بأن الخمار هو ما يغطي
الوجه والرأس، فلما أحرجوه واحتجوا عليه بأقوال شراح الحديث؛ كالحافظ
ابن حجر -كما سبق-، وبقول الشاعر:
قل للمليحة في الخمار المذهّب
أفسـدت نُسك أُخيَّ التقي المذهب
نـــور الخمار ونور خـدك تحتـه
عجبًا لـوجهــك كيــف لم يتلهــب
قال الألباني: "لا يلزم من تغطية الوجه به أحياناً أن ذلك من لوازمه عادة"(23)! فاعترف رحمه الله بأن الخمار يغطي الوجه ! إذاً: فلماذا كل هذا التشنيع ؟!
8- ذكر الألباني حديث أنس -في الصحيحين وغيرهما- : "أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما اصطفى لنفسه من سبي خيبر صفية بنت حيي قال
الصحابة: ما ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد؟ فقالوا: إن يحجّبها فهي
امرأته، وإن لم يحجّبها فهي أم ولد. فلما أراد أن يركب حجّبها حتى
قعدت على عجز البعير، فعرفوا أنه تزوجها. وفي رواية: وسترها رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه وجعل رداءه على ظهرها
ووجهها".
ثم ذكر قول شيخ الإسلام تعليقاً على هذا الحديث: "والحجاب مختص
بالحرائر دون الإماء كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم وخلفائه أن الحرة تحتجب والأمة تبرز"(24)
واستغربه !! لأن الألباني يرى أن نساء المؤمنين وإماءهم لا يجب عليهن
تغطية الوجه بل الرأس.
قلت: لا غرابة في كلام شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأنه من القائلين بأن
حجاب الحرائر -سواء كن زوجاته صلى الله عليه وسلم أو نساء المؤمنين-
هو تغطية الوجه، وأما الإماء فيكشفن وجوههن
ورؤوسهن.
9- زعم الألباني -عفا الله عنه- أن الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه
الله يذهب إلى أن الخمار هو غطاء الرأس فقط، وأن القواعد من النساء لا
حرج عليهن في وضعه !! ثم نقل قوله مبتورًا!
(25)
وفاته أن الشيخ ابن سعدي قال في تفسير قوله تعالى
{
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ
ثِيَابَهُنَّ
}: "أي الثياب الظاهرة؛ كالخمار ونحوه الذي قال الله فيه للنساء
{
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ
} فهؤلاء يجوز لهن أن يكشفن وجوههن لأمن المحذور منها
وعليها"(26) .
فإن سعدي رحمه الله كغيره من العلماء يرى أن الخمار غطاء الوجه مع
الرأس، لا الرأس فقط كما نسب إليه الألباني.
10- ذكر الشيخ الألباني رحمه الله أثراً صحيحاً عن عاصم الأحول قال:
"كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الحجاب هكذا، وتنقبت به. فنقول
لها: رحمك الله! قال الله تعالى {
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ
مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ
} هو الجلباب. قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول :
{
وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ
} فتقول: هو إثبات الحجاب"(27).
قلت: هذا الأثر الذي ذكره الشيخ ينقض قوله بجواز كشف الوجه!! لأنه
يدل على أن من المتقرر عند السلف أن المرأة تغطي وجهها عن الأجانب؛
كما فعلت حفصة بنت سيرين، وأن القواعد من النساء لهن أن يكشفن وجوههن
غير متبرجات بزينة. ولو كان يجوز للنساء أن يكشفن وجوههن -كما يرى
الألباني- لقال عاصم ومن معه لحفصة بنت سيرين: إنه يجوز لك كشف وجهك،
ولما احتاجوا أن يذكروا لها آية {
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ
}، فتأمل ! وفي هذا الأثر أيضاً دليل على أن الجلباب يُغطى به
الوجه.
11- يردد الألباني أن مذهب الإمام مالك جواز كشف
الوجه(28) ولم يذكر نصاً عن الإمام مالك على هذا، وهذا
خلاف ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن مذهبه عدم جواز ذلك. قال :
"إن كل شيء منها -أي المرأة- عورة حتى ظفرها ، وهو قول
مالك"(29). ومما يشهد لما نقله شيخ الإسلام أن الإمام مالك
ذكر في موطئه قول ابن عمر "لا تنتقب المرأة المحرمة" ثم أتبعه بقول
فاطمة بنت المنذر: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت
أبي بكر الصديق"(30) ليبين أن منع المرأة المحرمة من
النقاب لا يعني عدم ستر وجهها بغيره مما لم يُفصل على مقدار العضو.
والله أعلم .
هذا ما أردت بيانه من تناقضات الشيخ - رحمه الله - ؛ لكي لا يغتر أحد من المسلمين بقوله في هذه المسألة.
كشف وجه المرأة : هل هو من المسائل "الخلافية" أم "الاجتهادية" ؟!
هذه المسألة هي أكثر المسائل المطروقة في هذا الباب: وهي تقريباً أول مسألة تعرض للقارئ. فالبعض قد يعدها من قبيل "المسائل الخلافية" التي ينكر فيها على المخالف لثبوت النص بوجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الأجانب(31)، وأيضاً فقد ثبت فيها الإجماع العلمي لدى المسلمين. قال الحافظ ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب"(32) . ونقل ابن رسلان: "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه"(33)، ولهذا فإنه ينكر على من خالف هذا القول. مع الاعتذار للعلماء المتأخرين الذين اختاروا القول الآخر.
والبعض الآخر قد يعدها من قبيل "المسائل الاجتهادية" التي يسوغ فيها
الخلاف.
وعلى كلا القولين : فإنه يُنكر على من كشفت وجهها في البلاد التي
يعمل أهلها بالقول الأول؛ وهو وجوب تغطية المرأة لوجهها؛ لأنه على
القول بأنها من المسائل "الخلافية" التي ثبت فيها النص؛ فإنه ينكر على
من خالف النص، وعلى القول بأنها من المسائل "الاجتهادية" فإنه ينكر
على المخالف بسبب أن اختياره للقول الآخر وهو جواز كشف الوجه يسبب
فتنة لأهل هذه البلاد ولنسائهم.
فتوى الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في هذه المسألة:
سئل -رحمه الله-:
"فضيلة الشيخ، لا شك أن من شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن
يكون عالماً بشروطه. هل هو منكر أو غير منكر؟ وبعض الناس إذا رأى أحد
رجال الهيئة يعترض على امرأة كاشفة الوجه. يقول: لا يجب عليك أن تنكر؛
لأنها لا تخلو من حالتين: إما أن تكون مسلمة ترى عدم وجوب ستر الوجه،
وإلا كافرة فلا يجب في الأصل أن تتحجب. هل ما يقول هذا صحيح، أو غير
صحيح؟
والجواب: لا، هذا غير صحيح، لأن المعاصي قسمان: قسم لا تضر إلا
صاحبها فهذا ندعه ورأيه إذا كان أهلاً للاجتهاد. وقسم تضر غير صاحبها،
ولا شك أن كشف المرأة وجهها لا يختص ضرره بها هي، بل يضر غيرها؛ لأن
الناس يفتتنون بها، وعلى هذا يجب أن تنهاها سواء كانت كافرة أو مسلمة،
وسواء كانت ترى هذا القول أولا تراه، انهها وأنت إذا فعلت ما فيه ردع
الشر سلمت منه.
أما ما كان لا يضر إلا صاحبه؛ مثل رجل يشرب الدخان، وقال: أنا أرى
حلّه ولا أرى أنه حرام، وعلمائي يقولون إنه حلال، فهذا ندعه إذا كان
عاميًّا، لأن العاميّ قوله قول علمائه، فإذا قال: أنا أرى أنه ليس
بحرام نتركه لأن هذا لا يضر إلا نفسه. إلا إذا ثبت صحيًّا أنه يضر
الناس بخنقهم أو كان يؤذيهم برائحته، قد نمنعه من هذه
الناحية.
فاعرف هذه القاعدة: إن المعاصي قسمان: قسم لا تضر إلا صاحبها فهذه
إذا خالفنا أحد في اجتهادنا ندعه، وقسم تضر الغير فهذا نمنعه من أجل
الضرر المتعدي. لكن إذا خيف من ذلك فتنة تزيد على كشف هذا الوجه، فإنه
يُدرأ أعظم الشرين بأخفهما. ولكن إذا رأيت امرأة كاشفة مع ولي أمرها
تمسك ولي الأمر وتقول: يا أخي هذا لا يجوز هذا حرام هذا يضر أهلك ويضر
غيرهم. تكلمه بالتي هي أحسن؛ باللين. لا تتكلم مع المرأة نفسها؛ قد
يكون في هذا ضرر أكبر عليك أنت"(34) .
وسئل -رحمه الله-: "فضيلة الشيخ: هل ينكر على المرأة التي تكشف
الوجه، أم أن المسألة خلافية، والمسائل الخلافية لا إنكار فيها
؟
الجواب: لو أننا قلنا: المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق،
ذهب الدين كلّه حين تتبع الرخص لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف
بين الناس. نضرب مثلاً: هذا رجلٌ مسَّ امرأة لشهوة، وأكل لحم إبل، ثم
قام ليصلي، فقال: أنا أتبع الإمام أحمد في أن مسَّ المرأة لا ينقض
الوضوء، وأتبع الشافعي في أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وسأصلي على
هذه الحال، فهل صلاته الآن صحيحة على المذهبين ؟ هي غير صحيحة؛ لأنها
إن لم تبطل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بطلت على مذهب الإمام
الشافعي، وإن لم تبطل على مذهب الإمام الشافعي بطلت على مذهب الإمام
أحمد، فيضيع دين الإنسان.
المسائل الخلافية تنقسم إلى قسمين؛ قسم: مسائل اجتهادية يسوغ فيها
الخلاف؛ بمعنى أن الخلاف ثابت حقاً وله حكم النظر، فهذا لا إنكار فيه
على المجتهد، أما عامة الناس، فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم،
لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمرُّ عليك لك أن
تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي
-رحمه الله-: "العوام على مذهب علمائهم". فمثلاً عندنا هنا في المملكة
العربية السعودية أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فنحن نلزم نساءنا
بذلك، حتى لو قالت لنا امرأة: أنا سأتبع المذهب الفلاني وكشف الوجه
فيه جائز، قلنا: ليس لك ذلك؛ لأنك عامية ما وصلت إلى درجة الاجتهاد،
وإنما تريدين اتباع هذا المذهب لأنه رخصة، وتتبع الرخص
حرام.
أما لو ذهب عالم من العلماء الذي أداه اجتهاده إلى أن المرأة لا حرج
عليها في كشف الوجه، ويقول: إنها امرأتي سوف أجعلها تكشف الوجه، قلنا:
لا بأس، لكن لا يجعلها تكشف الوجه في بلاد يسترون الوجوه، يمنع من
هذا؛ لأنه يفسد غيره، ولأن المسألة فيها اتفاق على أن ستر الوجه أولى،
فإذا كان ستر الوجه أولى فنحن إذا ألزمناه بذلك لم نكن ألزمناه بما هو
حرام على مذهبه، إنما ألزمناه بالأولى على مذهبه، ولأمر آخر هو ألا
يقلده غيره من أهل هذه البلاد المحافظة، فيحصل من ذلك تفرق وتفتيت
للكلمة. أما إذا ذهب إلى بلاده، فلا نلزمه برأينا، ما دامت المسألة
اجتهادية وتخضع لشيء من النظر في الأدلة والترجيح
بينها.
القسم الثاني من قسمي الخلاف: لا مساغ له ولا محل للاجتهاد فيه،
فينكر على المخالف فيه لأنه لا عذر له"(35).
داعيًا الله له بالرحمة والمغفرة جزاء ما قدم لأمته من تقريب علوم
السنة بين أيديهم. سائله سبحانه أن يجمعني به والمسلمين في جنات
النعيم ، إخوانًا على سرر متقابلين. والله أعلم، وصلى الله وسلم على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الهوامش:
(1) لهذا تجد أن قاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة" ركّز عليها،
واتخذها ذريعة أولى لتغريب المرأة المسلمة.
(2) فتح الباري (9/235-236). (3) نيل الأوطار للشوكاني
(6/114).
(4) بيان الدليل على بطلان التحليل ( ص 203)، وانظر: الفتاوى ( 32 /
239 ) .
(5) جلباب المرأة، ص 28.
(6) السابق، ص 32.
(7) انظر أدلتهم في كتاب ( الصارم المشهور ) للشيخ حمود التويجري .
وكتاب ( إبراز الحق والصواب ) للمباركفوري . وكتاب ( عودة الحجاب )
لمحمد بن اسماعيل المقدم .
(8) فتح الباري (8/391). وأقره الألباني على هذا في : (جلباب المرأة،
ص 106).
(9) أخرجه الترمذي وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة
(1864).
(10) فقد صحح الحديث السابق وذكره في السلسلة الصحيحة تحت عنوان :
"قدما المرأة عورة" !
(11) انظر بعضاً منها في: "السلسلة الصحيحة" للألباني
(1/149-159).
(12) "السلسلة الصحيحة" للألباني (96).
(13) انظر "جلباب المرأة المسلمة"، (ص 82-88).
(14) جلباب المرأة ، ص 75. (15) كما في المصدر السابق، ص 106.
(16) جلباب المرأة ، ص 105. (17) السابق، ص105 - 106.
(18) جلباب المرأة ، ص 87. (19) الرد المفحم ، ص 51 - 52.
(20) فتح الباري (8/347). (21) الرد المفحم، ص 20.
(22) فتح الباري (10/51). (23) جلباب المرأة، ص 73.
(24) جلباب المرأة ، ص 95. (25) جلباب المرأة المسلمة ، ص111.
(26) تفسير ابن سعدي (5/445). (27) جلباب المرأة ، ص 110.
(28) كما في : جلباب المرأة، ص 89. والرد المفحم، ص 34-35.
(29) الفتاوى (22/110). (30) الموطأ (ص224) رواية يحي الليثي، دار
النفائس.
(31) انظر أدلة هذا القول في رسالة: "عودة الحجاب" للشيخ محمد بن
إسماعيل -وفقه الله-.
(32) فتح الباري (9/235-236). (33) نيل الأوطار للشوكاني
(6/114).
(34) لقاء الباب المفتوح (33-34/66-68). (35) لقاء الباب المفتوح
(49/192-193).