صبراً يا أهل الإنصاف

لقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بإنصاف أهل الذّمّة والمستأمنين، ونهى عن ظلمهم في أحاديث كثيرة، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة» (أبو داود، 3 (3052)).

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق -

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

ابتليت هذه الأمة بفئة جبانة ضعيفة، تدس في الخفاء، وتطعن في الخلف، وهم المعروفون بالمنافقين، الذين أظهروا الإسلام خداعا، وأبطنوا الكفر والعداوة والتحيز لفئة المشركين وصف غير المؤمنين من الكتابيين. وكان أبرز موقف للمنافقين تجاه القرآن الكريم: هو تجاوز القرآن والتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب اللّه وسنة رسوله، وذلك مع الإصرار والعناد والمجاهرة بالفسق والضلال. قال اللّه تعالى واصفا أحوال هؤلاء المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً . وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً . فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً . أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [سورة النساء: 60- 63].

ولذلك عندما نجاهد جميعاً كمسلمين من أجل تحقيق العدل والإنصاف في المجتمع، علينا أن نتعلم تلك الآداب ونحققها في نفوسنا أولاً، ونكون أكثر حذرًا من أن يستدرجُنا شرذمة النفاق الذين ليس لديهم من الدين إلا اسم يحمل في طياته الأهواء والعداوة لمن دعا إلى الاستقامة بالدين ورفعة الأخلاق في مجتمعاتنا. قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

عن معاذ بن أنس الجهنيّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من حمى مؤمنا من منافق -أراه قال- بعث اللّه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنّم، ومن رمى مسلما بشيء يريد شينه (أي عيبه وذمّه) به حبسه اللّه على جسر جهنّم حتّى يخرج ممّا قال» (أبو داود (4883) واللفظ له، وقال الألباني (3/924)، حسن). وعن سعيد بن زيد، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ من أربى الرّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حقّ» (أبو داود (4876) واللفظ له، وقال الألباني (3/923) صحيح)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطينَ، عند اللِه، على منابرَ من نورٍ عن يمينِ الرحمنِ عز وجل، وكلتَا يديهِ يمينٌ؛ الذين يعدلونَ في حُكمهِم وأهليهِم وما وُلّوا» (صحيح مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِه، فالإمامُ الذي على الناسِ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِه وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والمرأةُ راعيةٌ على أهلِ بيتِ زوجِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرجلِ راعٍ على مالِ سيدِه وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِه» (صحيح البخاري).

فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة وحكاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم، لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يقضى (تفسير القرطبي). وقد نظم الإسلام الحقوق الخاصة والحقوق العامة والدستورية، وقيد الأمة بقيود من أجل ضبط النظام وصون الحريات، وحفظ الأموال، وإعلاء كرامة الإنسان، ومن أهم هذه القيود النظامية: أداء الأمانات والحقوق المالية إلى أصحابها، وإصدار الحكم بالعدل والحق، وإطاعة اللّه والرسول فيما شرع وأمر، وإطاعة ولاة الأمور من العلماء والحكام في قضايا الدين وسياسة الدنيا.

وتلك وقفات لنُخبر بها الجاحدين، ونُذّكر بها المتقين المنصفين من أهل السنة والجماعة على طريق الحق. لقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بإنصاف أهل الذّمّة والمستأمنين، ونهى عن ظلمهم في أحاديث كثيرة، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة» (أبو داود، 3 (3052))، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنّة (أي لم يجد ريح الجنة) وإنّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما» (البخاري- الفتح، 6 (3166)).

وحرص الخلفاء الرّاشدون والصّحابة على ذلك، فها هو عمر بن الخطّاب -رضي اللّه عنه- يوصي بأهل الذّمّة قائلا: "أوصيكم بذمّة اللّه فإنّها ذمّة نبيّكم ورزق عيالكم". ومن إنصاف النّاس كما يقول ابن القيّم: "أن تؤدّي حقوقهم وألّا تطالبهم بما ليس لك، وألّا تحمّلهم فوق وسعهم، وأن تعاملهم بما تحبّ أن يعاملوك به، وأن تعفيهم ممّا تحبّ أن يعفوك منه، وأن تحكم لهم أو عليهم بما تحكم به لنفسك أو عليها" (زاد الميعاد).

آداب أهل الإنصاف: التّحلّي بصفة الإنصاف، وسلوك درب المنصفين يلزم معه التّأدّب بآداب خاصّة، وقد التزم بها أهل السّنّة والجماعة، وعلى من يسير على منهجهم أن يتأدّب بتلك الآداب، وأهمّها:

1- التّجرّد وتحرّي القصد عند الكلام على المخالفين: وذلك أنّه قد تلتبس المقاصد عند الكلام عن المخالفين، فهناك قصد حبّ الظّهور، وقصد التّشفّي والانتقام، وقصد الانتصار للنّفس أو للطّائفة الّتي ينتمي إليها النّاقد... وقد حذّر ابن تيمية من يردّ على أهل البدع من التباس المقاصد فقال: "... وهكذا الرّدّ على أهل البدع من الرّافضة وغيرهم، وإذا غلّظ في ذمّ بدعة أو معصية كان قصده بيان ما فيها من إفساد ليحذر العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها. وقد يهجر الرّجل عقوبة وتعزيرا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرّحمة والإحسان، لا للتّشفّي والانتقام". وقد انتبه ابن القيّم رحمه الله إلى هذا الأمر فوضع قاعدة لمن يريد أن يتجرّد من الهوى فقال: "وكلّ أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومن رزقه اللّه بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت الألفاظ من الحقّ والباطل، ولا تغترّ باللّفظ كما قيل في هذا المعنى:
 

تقول هذا جنى النّحل تمدحه *** وإن تشأ قلت: ذا قيء الزّنابير
مدحا وذمّا وما جاوزت وصفهما *** والحقّ قد يعتريه سوء تعبير


2- أهمية التبين والتثبت قبل إصدار الأحكام: وذلك امتثالا لقول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء: 94]. والتّبيّن والتّثبّت من خصائص أهل الإيمان، قال الحسن البصري رحمه الله: "المؤمن وقّاف حتّى يتبيّن"، وقال الإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله: "ومتى لم يتبيّن لكم المسألة لم يحلّ لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتّى يتبيّن لكم خطؤه، بل الواجب السّكوت والتّوقّف".

3- حمل الكلام على أحسن الوجوه، وإحسان الظن بالمسلمين: فالواجب على المسلم أن يحسن الظّنّ بكلام أخيه المسلم، وأن يحمل العبارة المحتملة محملا حسنا. فقد حثّ الرّسول صلى الله عليه وسلم على إحسان الظّنّ بالمسلم حين قال وهو يطوف بالكعبة: «ما أَطْيَبَكِ، وما أَطْيَبَ رِيحَكِ؟ ما أعظمَكَ وما أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ. والذي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ لَحُرْمَةُ المُؤْمِنِ عِنْدِ اللهِ أعظمُ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مالِهِ ودَمِهِ (وأنْ نَظُنَّ بهِ إِلَّا خيرًا)» (صحيح لغيره بصحيح الترغيب، الرقم: 2441). وقال سعيد بن المسيّب: "كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرّا وأنت تجد لها في الخير محملا".

4- ألّا ينشر سيّئات المخالف ويدفن حسناته: فقد ذكّر الرّسول صلى الله عليه وسلم عمر بحسنات حاطب فقال: «يا عمر، وما يدريك، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة» (صحيح البخاري). فكون حاطب من أهل بدر ترفعه ويذكر له في مقابل خطئه الفاحش، ولذا غفر له خطؤه.

5- النقد يكون للرأي وليس لصاحب الرأي: فالنّقد الموضوعيّ هو الّذي يتّجه إلى الموضوع ذاته وليس إلى صاحبه. وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم إذا حدث خطأ من أحد أصحابه أو بعضهم لا يسمّيهم غالبا وإنّما يقول: "ما بال أقوام"، "ما بال رجال". فعن عائشة أم المؤمنين: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذا بلغَه عن الرجلِ الشيءَ، لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقولُ، ولكن يقولُ: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا» (صحيح أبي داود الرقم: 4788).

6- الامتناع عن المجادلة المفضية إلى النزاع: وقد حذّر الرّسول صلى الله عليه وسلم من الجدل المفضي إلى الخصومة فقال: «إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم» (متفق عليه)، وقال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما: "لا تمار أخاك فإنّ المراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته...". قال مالك بن أنس: "المراء يقسّي القلوب، ويورث الضّغائن".

7- حمل كلام المخالف على ظاهره وعدم التعرض للنوايا والبواطن: وقد علّمنا ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حينما قتل أسامة بن زيد المشرك بعد أن قال: لا إله إلّا اللّه، فلمّا علم صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه، فقال أسامة: إنّما قالها متعوّذا. فقال صلى الله عليه وسلم: «هلّا شققت عن قلبه» (صحيح مسلم، رقم: 96)، (إنصاف أهل السنة والجماعة ومعاملتهم لمخالفيهم محمد بن صالح بن يوسف العلي (69-101) بتصرف).

وخِتاماً... أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وعليكم بالعلم والحلم، فلن تجد الأمم أعلى مراتب العدل والإنصاف إلا في أهل السنة والجماعة، سلفاً عن غيرهم من الصحابة والتابعين مما بلَّغوا وتعلَّموا من خير البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياسة وقيادة المجتمعات من البشر بكل أشكالها، وبما تحمل قلوبهم فيها من الخير أو الشر، روى أبي بن كعب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أدِ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (أخرجه الدارقطني)، قال المناويّ: "الإنصاف والعدل توءمان نتيجتهما علوّ الهمّة وبراءة الذّمّة باكتساب الفضائل وتجنّب الرّذائل". وعن كثير بن مرّة، قال: "لا تحدّث الباطل للحكماء فيمقتوك، ولا تحدّث الحكمة للسّفهاء فيكذّبوك، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تضعه في غير أهله فتجهل، إنّ عليك في علمك حقّا، كما أنّ عليك في مالك حقّا" (أخرجه الدارمي (384)). قال ابن القيّم: "طوبى لمن أنصف ربّه فأقرّ له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتّفريط في حقّه، والظّلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منّته وصدقته عليه، فإن قبلها فمنّة وصدقة ثانية، وإن ردّها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيّئة رآها من تخلّيه عنه وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربّه، وظلمه في نفسه، فإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه. ونكتة المسألة وسرّها أنّه لا يرى ربّه إلّا محسنا، ولا يرى نفسه إلّا مسيئا أو مفرّطا أو مقصّرا، فيرى كلّ ما يسرّه من فضل ربّه عليه، وإحسانه إليه، وكلّ ما يسوؤه من ذنوبه وعدل اللّه فيه" (الفوائد).

اللَّهُم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والحمد لله رب العالمين.

 

 

محمد خيري الحلواني