الأزمة الإيرانية سقوط القناع عن الوجه الحقيقي للولي الفقيه

إن إيران بأسسها الثورية ومناصبها المبتدعة وعلى رأسها منصب (الولي الفقيه) تَمرُّ بأزمة شرعية وتصارع من أجل البقاء. وإن خرجت من هذه الأزمة بتسويات معينة أو لصالح طَرَف على حساب الآخر؛ فإن ما حدث لن يمر مرور الكرام وإنما سيعيد تشكيل الخريطة السياسية الإيرانية..

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

 

خطبة (المرشد الأعلى) للثورة الإيرانية علي خامنئي في جامعة طهران يوم الجمعة الموافق لـ 19 من يونيو 2009م، وتعليقه على الاحتجاجات التي أعقبت الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية وضعت علامات استفهام كثيرة أمام مكانة المرشد الأعلى لدى الشعب الإيراني، بل حول ثبات بدعة ما يسمى بـ(الولي الفقيه) [1]، هذه البدعة التي نشأت على يد أحمد التراقي مؤلف كتاب "عوائد الأيام" في أصول الفقه، والمتوفى عام 1829م. وطبقها الخميني لأول مرة عام 1979م؛ ليكون أول مرشد أعلى في الجمهورية الإيرانية.
فما يسمونه بـ(الولي الفقيه) يُفترض أن يسمو فوق السياسة حتى لا ينحاز لطرف ضد طرف؛ ليكون ذلك الحَكَم الذي يفصل بين المتنازعين، ومن ثَمَّ يكون هو حارسَ الدين ومنقذ الشعب من أيَّة أزمة قد يتعرض لها وفقاً لِمَا تقتضيه هذه البدعة الدينية السياسية.

ولكن خامنئي بدلاً من ذلك جعل نفسه طرفاً في النزاع بانحيازه للرئيس المنتهية ولايته (محمود أحمدي نجاد) انحيازاً وضعه في صِدام مع ملايين الغاضبين والمحتجين على نتائج الانتخابات التي يرونها مزوَّرة. هذا الموقف من خامنئي بخطبته التاريخية التي فاقت التصورات في قسوتها أدخلت إيران فيما يمكن وصفه بالعملية الديناميكية؛ لإعادة تشكيل العلاقة بين المرشد الأعلى أياً كان هو والشعب. وهو الأمر الذي يهدد إلى حد كبير ركائز الاستقرار السياسي في النظام الإيراني على المديَيْن (المتوسط والبعيد).

فالمرشد الأعلى أو مرشد الثورة أو الولي الفقيه أياً كانت التسمية هو أهم منصب في إيران اليوم؛ لأنه القائد الأعلى بموجب الدستور الإيراني الحالي؛ وما رئيس الجمهورية إلا منفذ لسياساته؛ فقد ادعت المادة الخامسة من الدستور الإيراني أن ولاية الأمة في ظل غيبة الإمام [2] (المزعومة) تؤول إلى أعدل وأعلم وأتقى رجل في الأمة؛ ليدير شؤون البلاد. ومؤهلات الولي الفقيه وفقاً للدستور هي: العلم، والعدالة، والمروءة، والفقه الواسع بظروف العصر، والشجاعة، والفطنة، والذكاء، والقدرة على إدارة الأمور.

وهذه الصفات التي يتمتع بها الولي الفقيه تعطي له صلاحيات واسعة جداً في الجمهورية لا ينافسه فيها منصب آخر؛ إذ إن له الحق في تعيين وعزل نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور، وتعيين وعزل رئيس السلطة القضائية الذي بدوره يُعيِّن النصف الآخر من أعضاء مجلس صيانة الدستور! كما له الحق في تعيين وعزل رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، والقائد الأعلى لقوات الحرس الثوري، والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن، وكتطبيق عمليٍّ لهذه الصلاحيات وهذه المكانة نسرد حادثتين تاريخيتين تؤكدان أن المرشد هو رأس الدولة والمهيمن على مفاصل الحياة فيها؛ فقد قام الخميني بإقالة أبي الحسن بني صدر رئيس الجمهورية الأول عام 1981م عندما خالف تعليماته! وفي الحادثة الأخرى وجَّه الخميني رسالة شديدة اللهجة إلى علي خامنئي عام 1988م عندما كان رئيساً للجمهورية؛ وذلك لمَّا اعترض على بعض ممارساته حين أجاز قانون العمل بعد أن عارضه مجلس المحافظة على الدستور.

ومن ثَمَّ؛ فإنه ما من شك في أن علي خامنئي هو قائد إيران الحقيقي دستورياً وفعلياً، وشرعيته يستقيها من الفكر السياسي الشيعي وتطبيقاته العملية في عهد الخميني أولاً، وما تم غرسه في ضمير الشيعة من أوهام حول بدعة الولي الفقيه ثانياً. وبناءً عليه، كان يُفترض بخامنئي أن يكون محافظاً على حقوق الشعب الذي يؤمن بمصداقية و(قداسة) خامنئي (بحكم الصفات التي يُفتَرض أن يتحلى بها كما نص على ذلك الدستور) ولذلك؛ فهو أقرب السياسيين لهم كما ينبغي أن يكون، وهو الذي يلجأ إليه الشعب؛ لنيل حقوقه التي قد يعتدي عليها النافذون في الدولة.
ولكن خامنئي -وبحماقة سياسية لا يُحسد عليها- آثر أن يتصادم مع قطاع كبير من الشعب؛ ليضع منصب الولي الفقيه بذلك في مفترق طرق.

فما حدث في هذه الأزمة وخاصة بعد خطبة خامنئي وما تلاها من أحداث كشفت القناع عن وجه (الولي الفقيه) وهبطت بمكانته (المقدسة) وجعلت منه لاعباً سياسياً لا يختلف عن غيره من السياسيين المتنفذين، قد يصيب وقد يخطئ، وله مصالح يدافع عنها، كما له منافسون على منصبه، قد يزيحونه عنه متى حانت الفرصة لذلك. فتعبير خامنئي عن انحيازه لنجاد قبل الانتخابات كان خطأً تكرر للمرة الثانية، باعتبار أنه انحاز له في انتخابات 2005م ضد (علي أكبر هاشمي رفسنجاني) الذي حفظها له في نفسه، كما أمعن في الخطأ عندما بارك فوزه ونفى وجود تزوير في الانتخابات وهدَّد منافسيه، وحذر أنصارهم من التظاهر.

لذلك أصبح خامنئي خصماً لهؤلاء المحتجِّين الذين لا يُعَدُّون بالآلاف ولا بمئات الآلاف وإنما بالملايين! إذن هو خصم للشعب. ما حدث بعد الخطبة كان مفاجأة لخامنئي الذي راهن على مكانته، وظن أنه سيحسم الأمور ببضع كلمات أمام حشد من المصفِّقين والمكبِّرين؛ فقد تحدى المحتجون تحذيرات خامنئي، وخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات مليونية، واشتبكوا مع قوات الأمن، وسقط عدد من المحتجين ما بين قتيل وجريح أمام مرأى ومسمع من الرأي العام العالمي (بواسطة الصور الملتقطة عبر الجوالات والمبثوثة عبر مواقع الإنترنت كمَوقِعَي يوتيوب وتويتر). وماذا يعني هذا التحدي؟ إنه بكل بساطة يعني: أن كلمة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية لم تعد مسموعة كما كانت، أو كما ينبغي لها أن تكون.

وهذا التحدي الشعبي لخطبة خامنئي إنما هو تحدٍّ لِمَا زعمه الخميني من أن ولاية الفقيه كولاية الرسول عليه الصلاة والسلام، فالولي الفقيه بالنسبة للخميني معيَّن من قِبَل الإمام المهدي الغائب، ولذلك لا يجوز الاعتراض على قراراته بناءً على الحديث المنسوب إلى المهدي الذي يقول: "إن الراد على الفقهاء كالراد علينا، وكالراد على الله". وكانت هذه الكلمات موجهة في رسالة توبيخية من الخميني إلى خامنئي نفسه في الحادثة التاريخية السالفة الذكر.
وقد تعلَّم خامنئي من كبيرهم هذا (الخميني) أن الولي الفقيه ذو كلمة مسموعة ونافذة ولا أحد يجرؤ على كسرها، ولذلك كانت خطبته شديدة القسوة وذات نبرة تهديدية، ظناً منه أن الأزمة ستنتهي بكلمة منه، وسيبارك الشعب فوز نجاد، كما باركها هو، ولكن الرياح جرت على عكس ما اشتهى خامنئي و(خادمه) نجاد والمحافظون (خُدَّام الثورة). فمنافسو نجاد الذين يوصفون بالمعتدلين -وإن كانوا جميعهم من أبناء الثورة والمخلصين لها، كما قال خامنئي في خطبته- رفضوا نتائج الانتخابات التي أعلن من خلالها عن فوز المتشدد أحمدي نجاد وطالبوا بإلغائها وإعادة فرز الأصوات، كما وقفوا في وجه خامنئي وعلى رأسهم (مير حسين موسوي) ونالوا تأييد رفسنجاني الواسع النفوذ ومحمد خاتمي وعدد من علماء الدين الذين يوصفون بآيات الله.

وأبرزهم حسين منتظري أكبر مرجع ديني في حوزة قم الذي نطق بعد عشرين عاماً من العزلة والصمت وحذَّر من سقوط النظام، وأكد أن ما جرى تحت مرأى ومسمع خامنئي "يختلف عن الإسلام وطريق النبي عليه السلام في الحكم والأداء العلوي"، وإذا كان خامنئي بانحيازه للفائز بالتزوير، قد خالف الإسلام وطريقة النبي عليه الصلاة والسلام في الحكم، فأية شرعية دينية يتمتع بها؟ ولماذا يبقى أصلاً مرشداً للثورة؟ وهذا ما نعتقد أن رفسنجاني وغيره يدبِّرونه ضد خامنئي المتهاوي من على عرشه؛ ربما حفاظاً على أسس الثورة، وربما انتقاماً من خامنئي الذي أيَّد نجاد ضد رفسنجاني عام 2005 م.

كانت الحكمة السياسية تقتضي -كما أسلفت- ألَّا يتصادم خامنئي مع شعبه، وكان الأجدر به أن يكون نصيراً للقانون؛ فلو أنه تعاطف مع الاحتجاج الشعبي، وطالب بإعادة فرز الأصوات من أجل تطبيق القانون والوصول إلى الحقيقة فلربما حظي بشعبية أكبر و(كاريزما) قد تضاهي (كاريزما) الخميني في زمانه، ولكن الحماقة السياسية أعيت من يداويها؛ فقد أظهر خامنئي للشعب الإيراني حقيقة أنه لا يتوانى عن سحقه في سبيل استمرار هيمنته على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في إيران من خلال وصول مَنْ يراهم خاضعين له تماماً إلى السلطة واستيلائهم على مختلف المناصب الكبرى في الدولة.
ولا شك أن هذا يتعارض مع ما أسماه خامنئي في خطبته بـ(الديمقراطية الدينية) هذا المصطلح الذي قال عنه المراقبون: إنه غير موجود في أي علم من العلوم السياسية والاجتماعية، وإنه من التدليس الذي يُطبِّقه خامنئي على الشعب الإيراني؛ فأية ديمقراطية تمنع التظاهرات السلمية، وتقتل المشاركين فيها؟ وهل هناك شيء اسمه ديمقراطية دينية أصلاً؟ فإما أن ذلك جهل من خامنئي أو تدليس، وكلاهما لا ينبغي على المرشد أن يتصف بهما، كما أظهر خامنئي في خطبته كم هو متناقض مع نفسه؛ حيث أعلن عن إجراءات للتحقيق في صحة ادعاءات أنصار منافسي نجاد، وفي الوقت ذاته بارك فوز نجاد ونفى وجود تزوير، مؤكداً أن الانتخابات كانت نزيهة ولا تشوبها شائبة، مستدلاً على ذلك بأن التزوير لا يمكن أن يحصل في عشرة ملايين صوت بين نجاد وموسوي أشد المنافسين له.

وعلى الرغم من أن خامنئي قال: "إن الانتخابات لم تَشُبها شائبة"، نجد أن مجلس صيانة الدستور (أكبر مؤسسة تشريعية في إيران) يعلن أن ثَمَّةَ انتهاكات انتخابية في خمسين إقليماً، ولكن المجلس الذي يُعيِّن خامنئي نصف أعضائه، والنصف الآخر يُعيِّنُهم رئيس القضاء المعيَّن -أصلاً- من قِبَل خامنئي لا يمكن أن يتصادم مع كلمة المرشد الأعلى، فزعم أن هذه الانتهاكات لا تؤثر في الانتخابات؛ ومع ذلك يُعلِن عن إعادة فرز عشوائي لـ10% من الأصوات.. لماذا هذا الإعلان طالما أن هذه الانتهاكات لا تؤثر؟
ولماذا هذا التراجع طالما أن هذه الانتخابات بنظر المجلس هي الأصح في تاريخ الثورة؟ وكذلك ما فائدة إعادة الفرز هذه في حين أن خامنئي بارك فوز نجاد، وسيتم الاحتفال بتنصيبه رئيساً لإيران للمرة الثانية؟ ألم يكن من المفترض أن ينتظر خامنئي نتيجة إعادة الفرز احتراماً لهذه الإجراءات القانونية؟ هذه تناقضات واضحة أسقطت القناع الذي يغطي الوجه الحقيقي للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية.

إن إيران بأسسها الثورية ومناصبها المبتدعة وعلى رأسها منصب (الولي الفقيه) تَمرُّ بأزمة شرعية وتصارع من أجل البقاء.
وإن خرجت من هذه الأزمة بتسويات معينة أو لصالح طَرَف على حساب الآخر؛ فإن ما حدث لن يمر مرور الكرام وإنما سيعيد تشكيل الخريطة السياسية الإيرانية..
ولكن ما شكل هذه الخريطة الجديدة؟ لعلَّ الأيام القادمة ستظهر تفاصيلها، والتي يبدو أنها لن تكون لصالح النظام وبدعة (الولي الفقيه).
____________________________________________________________________

البيان تنشر -مـلـف خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد).
(1) ولاية الفقيه بدعة شيعية في بدايات القرن التاسع عشر طرحها عالمهم (أحمد التراقي) في كتابه (عوائد الأيام)، وتبناها الخميني عام 1979م بثورته على الشاه آنذاك، وعارضها علماء شيعة كبار منهم أحمد الطبطبائي القمي، وموسى الموسوي، و محمد جواد مغنية. انظر كشف حقيقتها في كتاب: محمد مال الله (نقد ولاية الفقيه) الناشر دار الصحوة بالقاهرة، ط عام 1409هـ -البيان-.
(2) غيبة الإمام خرافة أشاعها التشيُّع الصفوي، وقد ناقشها بموضوعية وعلمية الباحث الشيعي الاثني عشري الأستاذ (أحمد الكاتب) في كتاب له: عن نفيه الإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر) وإبطال زعم وجوده؛ ولذلك تعرض إلى نقد ومهاجمة القوم وتكفيرهم إياه، وتعرض كتابه للنقد الانفعالي من عشرات منهم دون أن يتمكن أي واحد أن يبطل قوله -البيان-.

 

 

أحمد أبا الخيل
 

المصدر: مجلة البيان