علامات حسن الخاتمة

إن حسن الخاتمة هو: أن يوفق العبد قبل موته للابتعاد عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة..

  • التصنيفات: الموت وما بعده -


الحمد لله الكريم الفتاح، أهل الكرم والسماح، المجزل لمن عامله بالأرباح، سبحانه فالق الإصباح وخالق الأرواح، أحمده سبحانه على نعم تتجدد بالغدو والرواح، وأشكره على ما صرف من المكروه وأزاح، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة بها للقلب انفساح وانشراح، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أرسل بالهدى والصلاح، اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ما بدا نجم ولاح. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أجارنا الله وإياكم من النار. آمين. عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: من الآية131].

أيها المسلون عباد الله: إن حسن الخاتمة هو: أن يوفق العبد قبل موته للابتعاد عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، ومما يدل على هذا المعنى ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله. قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته» (رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً عسله قيل: وما عسله؟ قال: يفتح الله عز وجل له عملاً صالحاً قبل موته، ثم يقبضه عليه» (رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).

عباد الله: إن العبد المؤمن يبشر عند موته برضوان الله، ورحمته، وجنته، واستحقاق كرامته تفضلاً منه تعالى، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم، وذلك لن يكون إلا لمن وفقه الله تعالى للعمل الصالح، أما من عمل غير ذلك فإنه يبشر بعذاب الله وسخطه. ومما يدل على هذا أيضاً ما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقلت: يا نبي الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت؟ فقال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه» (صحيح مسلم رقم: 2685). قال النووي رحمه الله: "معنى الحديث أن المحبة والكراهية التي تعتبر شرعاً هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة، حيث ينكشف الحال للمحتضر، ويظهر له ما هو صائر إليه".

أيها المسلمون: إن الشارع الحكيم قد جعل علامات يستدل بها على حسن الخاتمة، فأيما امرئ مات بإحداها كانت بشارة له، ويا لها من بشارة، ومن هذه العلامات:
النطق بالشهادة عند الموت: فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم: 2673).

ومنها الموت برشح الجبين: فعن بريدة أنه كان بخراسان فعاد أخاً له وهو مريض فوجده قد مات وإذا هو يعرق جبينه فقال: الله أكبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَوْتُ الْمُؤْمِنِ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» (أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة.وصححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز).

الموت ليلة الجمعة أو نهارها: لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» (رواه الترمذي وأحمد، وقال الألباني في تلخيص أحكام الجنائز: والحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح).

الاستشهاد في ساحة القتال: قال الله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170]. وعن المقداد بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ» (رواه الترمذي وصححه،وابن ماجة، وأحمد، وصححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز).

الموت غازياً في سبيل الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ. قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ» (أخرجه مسلم). قوله: «وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ»: أي بداء البطن وهو الاستسقاء وانتفاخ البطن. وقيل: هو الإسهال، وقيل: الذي يشتكي بطنه.

الموت بالطاعون: فعن حفصة بنت سيرين قالت قال لي أنس بن مالك بم مات يحيى بن أبي عمرة قالت: قلت: بالطاعون قال: فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» (أخرجه البخاري ومسلم).

الموت بداء البطن: لقوله صلى الله عليه وسلم: «... وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ» (أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ له).

الموت بالغرق والهدم: لقوله صلى الله عليه وسلم: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (أخرجه البخاري ومسلم).

موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة فما تحوز له عن فراشة فقال: مَنْ شُهَدَاءُ أُمَّتِي؟ قالوا: قتل المسلم شهادة قال: إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ قَتْلُ الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ، وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ، وَالْبَطْنُ، وَالْغَرَقُ، وَالْمَرْأَةُ يَقْتُلُهَا وَلَدُهَا جَمْعَاءَ» (رواه أحمد والدارمي، وصححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز).

الموت بالحرق، وذات الجنب (هي ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع) وفي ذلك أحاديث، منها: عن جابر بن عتيك مرفوعًا: «الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ» (رواه أبو داود والنسائي ومالك وأحمد وصححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز).

الموت بداء السل: لقوله صلى الله عليه وسلم: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهَادَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ، وَالْحَرِقُ شَهَادَةٌ، وَالْغَرِقُ شَهَادَةٌ، والسِّلُّ شَهَادَةٌ، وَالبطنُ شَهَادَةٌ» (رواه الطبراني في الكبير).

الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» (أخرجه البخاري ومسلم). وفي رواية للإمام أحمد: «مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ» (أحمد، وصححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز).

الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» (رواه أبو داود الترمذي والنسائي وأحمد، وصححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز).

الموت مرابطًا في سبيل الله: لقوله صلى الله عليه وسلم: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» (أخرجه مسلم).

الموت على عمل صالح: لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (رواه أحمد، وصححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز).

أيها المسلمون: إن هذه العلامات هي من البشائر الحسنة التي تدل على حسن الخاتمة، ولكننا مع ذلك لا نجزم لشخص ما بعينه أنه من أهل الجنة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كالخلفاء الأربعة.. نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الخاتمة، وأن يرزقنا الجنة، وأن يبيّض وجوهنا يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

الخطبة الثانية:
الحمدُ لله معزِّ من أطاعه واتقاه، ومذِلِّ من خالف أمره وعصاه، أحمده ربّي وأشكره على ما أسبغ من نعَمِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، لا إلهَ ولا ربَّ سواه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله اصطفاه مولاه، اللّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

عباد الله: إن آخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها، فمن كان مقيماً على طاعة الله عز وجل بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكراً، وتسبيحاً، وتهليلاً، وعبادة، وشهادة. فتعالوا بنا أيها الأحبة في الله: ننظر كيف كانت ساعة الاحتضار على سلفنا الصالح رضوان الله عليهم الذين عاشوا على طاعة الله، وماتوا على ذكر الله، يأملون في فضل الله ويرجون رحمة الله، مع ما كانوا عليه من الخير والصلاح.

فهذا عبد الله بن جحش رضي الله عنه عندما خرج لمعركة أحد دعا الله عز وجل قائلاً: "يا رب إذا لقيت العدو فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده فأقاتله فيك، ويقاتلني، ثم يأخذني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً، قلت: يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك؟، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت". وبعد المعركة رآه بعض الصحابة مجدوع الأنف والأذن كما دعا.

وهذا عمير بن الحمام عندما خطب رسول الله في أصحابه حاثاً لهم على الاستشهاد في سبيل الله في معركة بدر قال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض».فسمع عمير بن الحُمام هذا الفضل العظيم، وقال: والله يا رسول الله! إني أرجو أن أكون من أهلها. فقال: «فإنك من أهلها». فأخرج عمير تمرات من جعبته ليأكلها ويتقوى بها، فما كادت تصل إلى فمه حتى رماها وقال: إنها لحياة طويلة إن أنا حييت حتى آكل تمراتي، فقاتل المشركين حتى قتل.

ولما احتضر عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال لمن حوله: أخرجوا عني فلا يبق أحد. فخرجوا فقعدوا على الباب فسمعوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ثم قُبض رحمه الله.

عباد الله: هذه بعض صور لحسن الخاتمة لسلفنا الصالح، فماذا عن زماننا أيها الأحبة في الله، ما من زمان إلا وفيه أناس صالحون، وعباد زاهدون، فماذا عن هؤلاء في آخر حياتهم تعالوا بنا نذكر بعضاً من هذه الأمثلة. يروى أن أحد الصالحين حدث له حادث سير وبينما هو في سكرات الموت إذا به يقرأ القرآن ثم يختم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله. فيا لله ما أحسنها من خاتمة. وها هو رجل آخر يموت وهو صائم لله رب العالمين، وثالث يموت في سبيل الله، وآخر وهو ساجد لله رب العالمين، وهكذا لا يزال زماننا ملئ بالصالحين والخيرين.

أيها المسلمون: إن حسن الخاتمة لها أسباب، لمن أراد أن يوفقه الله لحسن الخاتمة، وإن من أسباب حسن الخاتمة النية الصالحة، والإخلاص لله؛ لأن النية والإخلاص شرطان للأعمال المقبولة. ومن أسباب الخاتمة الحسنة المحافظة على الصلوات جماعة، فعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى البردَين دخل الجنة» (أخرجه البخاري ومسلم). والبردان: هما الفجر والعصر، ومن داوم عليهما وصلاَّهما فهو بالقِيامِ بِغيرهما من الصّلوات أولى.

ومن أسباب التوفيق لحسن الخاتمة الإيمان والإصلاح، الإصلاح للنفس، والإصلاح للغير، كما قال تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [الأنعام: 48]. ومنها تقوى الله في السر والعلن، بامتثال أمره واجتناب نهيه والدوام على ذلك، كما قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

ومِنها اجتناب الكبائر وعظائم الذنوب، قال الله تبارك وتعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31]. ومنها لزوم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع طريق المهاجرين والأنصار والتابعين لهم رضي الله تعالى عنهم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. ومِن الأسباب البعد عن ظلم الناس وعدم البغي والعدوان عليهم في نفس، أو مال، أو عرض، ففي الحديث: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرم الله» (البخاري، كتاب الإيمان)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واتَّق دعوةَ المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبين الله حِجاب» (متفق عليه).

ومن أسباب التوفيق لحسن الخاتمة الإحسان إلى الخلق وكف الشر عنهم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]. ومن أسباب حسن الخاتمة الدعاء بذلك للنفس، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، ودُعاء المسلم لأخيه المسلم بحسن الخاتمة مستجاب بظهر الغيب، وفي الحديث: «ما من مسلم يدعو لأخيه بالغيب إلا قال الملك: آمين، ولك بمثله».

عباد الله: اتقوا الله حق التقوى وراقبوه حق المراقبة فإن اليوم عمل بلا حساب، وغداً حساب بلا عمل، واسعوا إلى تحصيل أسباب حسن الخاتمة فإنها بداية الخير والسعادة، فإن العبد المؤمن يبشر بالجنة عند موته. اللهم إنا نسألك حسن الخامة، اللهم اختم لنا بالشهادة في سبيلك، اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي يكون سبباً في توفيقنا لحسن الخاتمة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين..
 

المصدر: موقع إمام المسجد