جمهورية الضباط في مصر

بعد تجربة الانقلاب على الرئيس محمد مرسي في 3 يوليو الماضي فبالإمكان التأكيد على أن جمهورية العسكر في مصر لن تنتهي إلا بوجود معارضة مصرية متحالفة وقوية، وليس المعارضة التي سرعان ما تحالفت مع العسكر خوفا على مكاسبها وتهميشها في ظل نظام قمعي يحكم البلاد..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -


بعد عام 1991م وسعت القوات المسلحة توغلها في كل مجالات الدولة، وجرى تعيين الضباط المتقاعدين في مناصب وزارية ورئاسة هيئات حكومية وشركات مملوكة للدولة بالإضافة إلى منحهم رواتب ومكافئات كبيرة، وتسهيل سبل التجارة والتحصل على مشاريع الدولة مقابل أمر واحد وهو الولاء لنظام الرئيس الحاكم.  وكلما حاولت الأحزاب المدنية تحقيق تقدم باتجاه تحقيق إرادة الشعب عن طريق الانتخابات كانت خلايا الجيش في مؤسسات الدولة لها بالمرصاد لتفشل أي طموح للشعب المصري بالحصول على مفاتيح السلطة في وطنه. ووفقا لما كتبه الباحث في معهد كارنيغي للسلام يزيد صايغ في ورقة بحثية بعنوان"جمهورية الضباط في مصر" فإن الجمهورية المصرية الثانية لن تقوم لها قائمة إلا بعد القضاء على جمهورية الضباط.


بعد فوزه في الانتخابات تسلم الرئيس محمد مرسي منصب رئاسة الجمهورية رسميا في 30 يونيو2012 من المجلس العسكري الذي كان يمثل العقبة الوحيدة في وجه أي إصلاح في مصر، والسبب في ذلك ليس فقط السياسات الخارجية التي تملي على قادة مصر منذ تولى العسكر السلطة عقب ثورة عام 1952م،  لكن العسكر يسيطرون على نسبة كبيرة من اقتصاد الدولة المصرية وفيه مغانم كثيرة لهم وهي بمثابة رشوة للحفاظ على النظام الحاكم. فبالإضافة إلى حقهم في الحصول على الوظائف الكبيرة في الدولة بعد التقاعد وتوريث أبنائهم الكثير من الوظائف  في أجهزة الأمن، فلديهم فنادقهم الخاصة ومستشفياتهم الخاصة وحتى أماكن تسوقهم ومكانتهم المرموقة في المجتمع، ويمكن القول بأنهم نظام اجتماعي يختلف كليا عن النظام الاجتماعي الشعبي المصري، ولا أحد ينافسهم في ذلك. كما أنهم يسيطرون على ميزانية الدفاع والمساعدات العسكرية الأمريكية التي تقدر بــ1.3 مليار دولار تذهب كلها في خزانة العسكر دون رقيب أو حسيب. ومن وجهة نظر صايغ فإن الطريق لإرجاع المؤسسة العسكرية المصرية إلى حجمها الطبيعي ضمن نظام الدولة سيحتاج سنوات طويلة.

لم يكتفوا بهذا الدور فقط، بل ذهب العسكر إلى أبعد من ذلك بالتدخل في شؤون الدولة المدنية حيث خرجت تصريحات من قادة هذه المؤسسة لوضع خطوط حمراء أمام كل حكومة تتشكل وذهب العسكر أيضا إلى إجبار لجان صياغة الدستور على وضع قوانين وتشريعات تزيد من الحصانة القانونية عليهم.


بعد عام 1991 ذهب نظام مبارك لأبعد حدود لكسب ولاء الضباط، فقد كان يجري تعيينهم في وظائف حكومية بعد تقاعدهم مما يوفر لهذه الفئة الحصول على مصدرين للدخل وبمرتبات خيالية، في حين أن الملايين من أبناء مصر يرزحون تحت خط الفقر.

يقول يزيد صايغ إن بدل "الولاء" الذي كان يصرفه النظام لهؤلاء  كان ولا يزال حافزا قويا للصفين الثاني والثالث من الضباط، فبالنسبة للضباط الذين يتقاعدون برتبة لواء ويحصلون على مبلغ مقطوع يصل إلى (6670) دولار، ومعاش تقاعد شهري يصل إلى (500) دولار، لابد أن يشكل احتمال حصولهم على رواتب شهرية تتراوح بين (16670 إلى 166670) دولار، حافزا قويا على استمرار ولائهم. في ثمانينيات القرن الماضي حينما كان عبد الحليم أبو غزالة وزيرا للدفاع سعى إلى جعل الفائدة تشمل جميع الضباط من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي للجيش. لكن في عهد محمد حسين طنطاوي الذي عينه مبارك فإن فئة قليلة هي التي حصلت على أكبر قدر من المكاسب.

ووفقا لشهادات من داخل القطاع الحكومي فإن الكثير من الضباط من ذوي الرتب الدنيا لا يتم ترقيتهم بعد رتبة "رائد" إذا تبين وجود توجهات سياسية لهم أوغير جديرين بالثقة.  ويواصلون خدمتهم كالمعتاد حتى سن الأربعين عاما يحصلون على التقاعد. ومن المفارقات العجيبة في دولة الضباط المصرية أن احتياجات القوات المسلحة المصرية للضباط بقت ثابتة ولم تتغير منذ انتهاء حالة الحرب مع الكيان الصهيوني عام 1979م حيث بلغ عدد الجنود في الخدمة الفعلية 468500 وفي الاحتياط 479000 و72 ألف في القوات شبه العسكرية المرتبطة بالقوات المسلحة. كما يتم تعيين عدد كبير من الضباط التنفيذيين والإداريين في وزارة الداخلية ومديرية المخابرات العامة التي تتبع الرئيس.

من الأمور التي زادت عدد الضباط الكبار، الترقية التلقائية التي يحصل عليها الضباط من رتبة عميد إلى رتبة لواء، حيث تزيد المكافئات الشهرية ونهاية الخدمة والبدلات الأخرى وكذلك يزيد عدد الألوية المتاحين للتعيين في الجهاز المدني الحكومي والشركات التجارية المملوكة للدولة.

ويرتكز هذا الأمر إلى آلية " الاستدعاء"، وهي عقود مدتها ستة أشهر قابلة للتجديد، ويتم إصدارها لجميع الضباط الكبار عند التقاعد، وتمنحهم هذه العقود فرصة للبقاء بالزي العسكريين ويمكن أن تجدد هذه العقود لعشر سنوات.


في عهد مبارك ظهرت ثلاثة عوامل دفعته إلى تعزيز جمهورية الضباط، وكان أولها خشيته من صعود أحد الشخصيات العسكرية البارزة التي يمكن أن تنافسه على الحكم، حيث أقال في عام 1989م وزير الدفاع أبو غزالة  الذي كان يتمتع بشعبية قوية، ولكن مع تعيين طنطاوي الذي يصفه بعض قيادات الجيش بأنه" كلب مبارك" حسب ما نقل عنهم في برقية للسفارة الأمريكية في العام 2008 نشرها موقع "ويكليكس" تم استقطاب الصف الأول من قادة الجيش إلى نظام المحسوبية .

ويرجع السبب الثاني إلى تقريب قيادات الجيش منه، بعد محاولة استهدافه في العاصمة الإثيوبية أديس بابا في العام 1995م ، مع العلم أن الأجهزة الأمنية في مصر يبلغ عددها 1.4 مليون أثناء الإطاحة بمبارك، حيث ارتفعت ميزانية وزارة الداخلية ثلاثة أضعاف خلال السنوات القليلة الماضية مقارنة بموازنة وزارة الدفاع. ففي الوقت التي بلغت فيه ميزانية وزارة الدفاع عام2012 ، 4.25 مليار دولار، بلغت ميزانية وزارة الداخلية 3.7 مليار دولار في نفس العام.

أما العامل الثالث الذي جعل الجيش من أكبر المستفيدين من موارد الدولة المصرية هو حينما أعلن مبارك عن حملة كبرى لخصخصة المشاريع الاقتصادية الحكومية، وفي الحقيقة كانت لعبة كبيرة لتوزيع ثروات الدولة على ضباط الجيش تحت ذريعة الخصخصة.


عقب الإطاحة بمبارك في فبراير 2011 وتسلم المجلس العسكري لمقاليد السلطة سعى إلى إقناع عناصر الجيش بأنه يدافع عن مقدرات المؤسسة العسكرية ككل وليس فقط مصالح كبار الضباط والشريحة العليا منهم. وبالرغم من مواقفه المتحفظة والتي كانت دفاعية في كثير من الأحيان فإنه قبل بالانتخابات لعدم امتلاكه للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه مصر، لكن ما أن شعر بخطر وقوة الإسلام السياسي كشر عن أنيابه وفتح صفحة جديدة كانت بدايتها استغلال مقدراته الأمنية والإعلامية للإطاحة بالرئيس محمد مرسي  الذي جاء بانتخابات شهد الغرب والشرق على نزاهتها. وللتذكير فقط فإن طنطاوي شغل منصب وزير دفاع لمدة تزيد عن عشرين عاما وهي أطول مدة يقضيها وزير دفاع في مصر منذ عهد محمد علي وتأسيس الدولة المصرية الحديثة، وهذا الأمر يبرر الكثير عن مدى ولائه لنظام مبارك والضباط المحيطين به.

وعن القوة العسكرية للجيش المصري في الوقت الحالي يقول الخبيران البارزان في هذا المجال كليمنت هنري وروبرت سبرنغبورغ ،" ليس الجيش المصري قوة محترفة منيعة كما يصوره الكثيرون، فهو مترهل وتتكون نواته من ضباط مدللين تم تسمينهم ضمن نظام المحسوبية الذي أقامه مبارك، أما تدريبهم فيتسم بعدم الانتظام في حين تعاني معداته من افتقار شديد إلى الصيانة، كما يعتمد على الولايات المتحدة في الحصول على التمويل والدعم اللوجستي".


إن التجارب الأخيرة التي كانت للجيش المصري في الميدان، كانت المشاركة في عملية تحرير الكويت عام 1991 ، وبالرغم من كونها مساهمة محدودة إلا أن ضباط أمريكيون وصفوها بأنها تجربة "خائبة"، ويقول يزيد الصايغ واصفا هذا التراجع :" هذا التراجع  في الاحتراف المهني لدى القوات المسلحة المصرية وفاعليتها العملياتية ناتج إلى حد كبير عن التحول الهام الذي شهدته جمهورية الضباط بعد العام 1991م".

يوجد في مصر 27 محافظة يفرض السيطرة عليها محافظين يعينهم رئيس الجمهورية،  80 % من هؤلاء لهم خلفيات عسكرية، ويوجد نمط سائد في هذه العملية، حيث يتم تسليم مناصب المحافظين إلى قادة المناطق العسكرية السابقون في القوات البرية، ففي الوقت الذي يحصل فيه هؤلاء على مناصب المحافظين في القاهرة والسويس وسيناء، فإن الدفاع الجوي وحرس الحدود والبحرية يكون من نصيبهم المحافظات الغربية والجنوبية والإسكندرية ومحافظة البحر الأحمر. إلى جانب ذلك يشغل العسكر أيضا نسبة كبيرة من الوظائف الثانوية مثل نائب المحافظ ومدير مكتب المحافظ والأمين العام والأمين العام المساعد للمجلس المحلي ويتكرر هذا بشكل واسع النطاق في مصر. وبالإضافة إلى ما سبق فإن المتقاعدون الضباط يديرون الجامعات ومجالس الكليات ومراكز البحوث المتخصصة كما يعملون مدراء وموظفين في المعاهد القومية للمقاييس، بالإضافة إلى الإذاعات والتلفزيون والمجلس القومي للشباب والهيئة العامة للتنمية الصناعية والكثير من المؤسسات المدنية.


للجيش المصري أربعة أذرع اقتصادية أولها الصناعات العسكرية التي تتبع وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع والمشاريع المدرة للدخل بما فيها الفنادق وعقود الأشغال العامة المدنية التي تتولاها هيئة الهندسة العسكرية ودائرة الأشغال العامة العسكرية ودائرة المياه التابعة لها.

يوجد في وزارة المالية مكتب خاص للتدقيق في حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها، ولا تخضع بياناته لأي سلطة ولا حتى البرلمان المصري، وينفق جزء كبير من العوائد على بدلات الضباط ومساكنهم أويتم صرفه لتحسين مستويات المعيشة لديهم. ويوجد 150 شركة مملوكة للدولة في مصر يديرها ويستفيد من إيراداتها دولة الضباط، ويبلغ رواتب الضباط المتقاعدين العاملين في إدارات تلك الشركات مابين 100 ألف إلى 500 ألف جنيه شهريا إلى جانب بدلات شهرية  لا تقل عن 10 آلاف جنيه.


في نهاية المطاف فإن الدخول ضمن السلك العسكري في مصر ميزة لا يتمتع بها إلا قلة في الشعب المصري بسبب الشروط المجحفة التي من ضمنها أن نسبة ترقية جندي متطوع تبلغ عشرة بالمائة  من نسب الضباط الجدد وإذا تم ذلك فإن هؤلاء لا يتم ترقيتهم بعد رتبة نقيب.

وبعد تجربة الانقلاب على الرئيس محمد مرسي في 3 يوليو الماضي فبالإمكان التأكيد على أن جمهورية العسكر في مصر لن تنتهي إلا بوجود معارضة مصرية متحالفة وقوية، وليس المعارضة التي سرعان ما تحالفت مع العسكر خوفا على مكاسبها وتهميشها في ظل نظام قمعي يحكم البلاد، كما أن الفساد الإعلامي والاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه مصر هو عامل مساعد كبير في المحافظة على استقرار جمهورية العسكر التي تستغل هذا الأمر أبشع استغلال.


8/22/2013 م

إعداد مجلة البيان

أعدّه: أحمد أبو دقة

المصدر: أوراق كارنيغي