العفة عما في أيدي الناس
والعفة تعني البعد عما حرم الله من الأقوال والأفعال، وكذلك البعد عن فعل ما يخرم المروءة، وعما ينبغي أن يتنزه عن فعله أمام الناس مما لم يرد نصاً بتحريمه، وكذلك الزهد عما في أيدي الناس من حطام الدنيا، وعدم التطلع إلى ذلك.
- التصنيفات: تزكية النفس -
الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من الأخلاق المحمودة، والصفات النبيلة: العفة عما في أيدي الناس، فلقد قد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: « »؛ كما في حديث عبد الله بن مسعود عند مسلم.
بل لقد كان من أوليات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى العفاف؛ فقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة أبي سفيان مع هرقل، وفيه أن هرقل قال لأبي سفيان: "فماذا يأمركم؟" -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة" (رواه البخاري).
والعفة تعني البعد عما حرم الله من الأقوال والأفعال، وكذلك البعد عن فعل ما يخرم المروءة، وعما ينبغي أن يتنزه عن فعله أمام الناس مما لم يرد نصاً بتحريمه، وكذلك الزهد عما في أيدي الناس من حطام الدنيا، وعدم التطلع إلى ذلك.
وحديثنا -في هذه الكلمة المختصرة- عن الزهد عما في أيدي الناس من الأموال ونحوها؛ قال تعالى لأزهد الخليقة على الإطلاق: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]. وقال في آية أخرى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طـه:131].
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله سائل عن عمل إذا فعله أحبه الناس، فقال له: « » (رواه الطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم [944]).
وثبت من حديث سهل بن سعد مرفوعاً: « » (رواه الطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب، وحسنه الألباني في السلسلة [831]).
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمررضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: « » (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
وقال الحسن: "لا تزال كريما على الناس ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك". وقال أيوب السختياني: "لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم".
وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس، والاستغناء عنهم؛ كما قال ابن رجب: "فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك، وأما من كان يرى المنة للسائل عليه ويرى أنه لو خرج له عن ملكه كله لم يف له ببذل سؤاله له وذلته له، أو كان يقول لأهله ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم، فهذا نادر جدا من طباع بني آدم، وقد انطوى بساط ذلك من أزمان متطاولة.
وأما من زهد فيما في أيدي الناس وعف عنهم فإنهم يحبونه ويكرمونه لذلك ويسود به عليهم؛ كما قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم.
وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا:
وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذاب
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
راجع: جامع العلوم، صـ(300-301).
وُيخص بالذكر هنا الدعاة إلى الله فإن عليهم أن يكونوا أعزة، وأن يستغنوا بما عند الله عما في أيدي الناس، فالأنبياء بلغوا دين الله ونشروه في العالمين، ولم يرجو من وراء ذلك لا جزاءاً ولا شكوراً، ولا مدحاً ولا ثناءاً، ولا مالاً ولا جاهاً، ولا شيئاً من حطام الدنيا، بل كانوا كما قال الله عنهم أنهم قالوا جميعاً: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109].
ذلك أن الناس إذا علموا أن الداعية ينظر إلى أموالهم أو ينظر إلى شفاعتهم وجاههم ويستعظمه في نفوسهم ويرجو من ورائه مقاصد؛ فإنهم في الغالب لا يقبلون منه، ولا يتأثرون بخطابه.
فعلى الداعية إلى الله أن يكون عزيز النفس، غنياً بالله، وبما عند الله، وأن يزهد عما في أيدي الناس، وأن لا يتطلع إلى ذلك، فما جاءه من غير استشراف ولا تطلع، ولا سؤال فلا بأس عليه أن يأخذه، مع أن الأولى والأكمل له أن لا يقبل العطاء من الناس؛ فقد جاء عن عمر رضي الله عنه: أنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عطاءه، فقال: يا رسول الله! أعطه من هو أحوج إليه مني. -أي: أنا في غنىً عن هذا والمحتاجون كثير-، فقال: « » (رواه النسائي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم [2209]). أي: فأنت تملكه وليس عليك في ذلك شيء؛ لأنه جاءك من غير مسألة.
والله نسأل أن يرزقنا العفة عما حرم الله، وعما في أيدي الناس. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.