رؤية إسلامية لأحوال العالم

محمد قطب إبراهيم

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

بتصرف من كتاب رؤية إسلامية لأحوال العالم

 

كيف انحدرت الأمة من مستواهاالرفيع إلى ماهي عليه الأن حتى صارت ذلك الغثاء الذي أخبرنا عنه رسول اللهصلى الله عليه وسلم: « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا : أمن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله مهابتكم من صدور أعدائكم, وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»

ولقد خُيِّل لبعض المستضعفين المنهزمين أمامالحضارة الغربية, الذين استعبد الغزو الفكري قلوبهم وأرواحهم، أن ضعفالمسلمين وتأخّرهم كان نتيجة حتمية لتمسكهم بالإسلام!!


وأن الإسلامكان حركة تقدمية يوماً ما! أي بالنسبة لوقته! وأنه فعل ما فعل في النفوسبسبب أنه كان بالنسبة لوقته حركة تقدمية, فدفع الحياة كلها إلى الأمامولكن دوره انتهى كحركة تاريخية وموقف تقدمي, لأنه بقي مكانه فسبقه"التطور"، فأصبح من ثم حركة رجعية! لم يعد صالحاً لمواكبة التطور الحديث؛بل صار معوقاَ ينبغي طرحه والبحث عن بديل منه, والبديل هو الحضارةالغربية .

إن الذي تخلّف لم يكن هو الإسلام.. وإنما " المسلمون"!!

وقد تخلّفوا لا لتمسكهم بالإسلام, ولكن لتخليهم عنه, وتفريطهم فيه.. أماالإسلام فما زال هو الدين الحق, وما زال هو الطريق الواصل, وما زال هوالطريق المستقيم.

تخلّف المسلمون لبعدهم عن حقيقة الإسلام, وإنبقيت لهم بعض مظاهره.. لقد بقي لهم أنهم ينطقون بأفواههم "لا إله إلا اللهمحمد رسول الله". فهل يعون معناها أو يعرفون مقتضياتها؟


وبقي لهم أنهم يؤدون بعض العبادات, فهل أدركوا المقصود بها, أو رعوها حق رعايتها؟


وبقي لهم بعض "التقاليد" الإسلامية, فهل تصمد التقاليد الخاوية من الروحللمعركة الضارية التي توجه إلى الدين عامة والإسلام على وجه الخصوص؟


وبقي لهم تمنيات بأن ينصر الله دينه, ويعيد إليه أمجاده, فهل تطفي التمنيات لتغيير الواقع السيء وإنشاء البديل ؟!

نستطيع أن نقول أن كل مفاهيم الإسلام قد فسدت في حس الأجيال المتأخرة منالمسلمين, تحوّلت "لا إله إلا الله" من منهج حياة كامل إلى الكلمة التيتُنطق بالأفواه، وتحوّلت العبادة بعد أن انحصرت في الشعائر التعبدية،وخرجت منها الأعمال والأخلاق إلى أداء آلي تقليدي خاوِ من الروح. وتحوّلتعقيدة القضاء والقدر من قوة دافعة إلى النشاط والحركة مع التوكل على الله, إلى قعود عن النشاط والحركة مع تواكل سلبي مريض، وتحوّل التوازن الجميلبين الدنيا والآخرة وإلى إهمال للدنيا من أجل الخلاص في الآخرة، فأُهملتعمارة الأرض وطلب العلم وطلب التمكين والقوة، وعمّ الجهل والفقر والمرض،ورضي الناس بذلك كله على أنه قدر ربّاني لا قبل لهم بتغييره، بل لا يجوزالعمل على تغيير خوفاًَ من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله!

أهذا هو الإسلام؟! أم هذه صورة مناقضة لحقيقة الإسلام؟ وهل يمكن أن يؤدي الشيء ونقيضه إلى نتيجة واحدة ؟!

إذا كان الإسلام يؤدي في حياة الناس إلى التمكين والقوة والنظافة ونقاءالأخلاق والتقدم العلمي والتقدم الحضاري، ومقاومة انحرافات البيئة والتغلبعليها.. فهل يمكن للصورة البديلة أن تؤدي إلي النتائج ذاتها؟! أم أنهاتؤدي إلى الضعف والتخلف والخضوع لانحرافات البيئة والعجز عن تقويمها؟


وهذا حدث بالفعل.. فجاء الأعداء من كل حدب وصوب يحتلون أرض الإسلام, يمزّقونهاتمزيقاَ, ويقتلون كل ما بقي من قيم في حياة المسلمين. ثم جاء الغزو الفكريليقول للناس: إن السبب في كل ما حل بهم هو تمسكهم بالإسلام!! أي إسلام هذاالذي كانوا يتمسكون به؟!


حقيقة إنهم كانوا "متمسكين" بشيء ما! وإنهمكانوا يتوهمون أن ما هم متمسكون به هو "الإسلام"! ولكن متى كان الوهم يغنيعن الحقيقة أو يؤدي في عالم الواقع ما تؤديه الحقيقة ؟!


مثل الوهمالذي كانوا متمسكين به والحقيقة كمثل ورقة النقد الزائفة يحسبها المخدوعبها ورقة حقيقة حتى إذا ذهب بها إلى السوق لم يستطع أن يحصل بها على شيءمما يريد، وعاد بالخيبة والحسرة إن لم يتعرض لإلقاء القبض عليه وتوقيعالعقوبة عليه!


ولقد كان المسلمون متمسكين بأوهام يحسبونها حقيقة.

أوّل هذه الأوهام أن الإيمان هو التصديق والإقرار وأن العمل ليس داخلاَ في مسمىالإيمان !! وبهذا الوهم حسبوا أنفسهم مؤمنين وهم لا يعملون بمقتضى الإيمان!!

وتوهموا أنهم حين يؤدون الركعات المفروضة بأية صورة ويصومونالأيام من استطاع إليها سبيلاَ- فقد أدوا الزكاة المفروضة, ويحجون الحجةالمفروضة -من أستطاع إليها سبيلاً- فقد أدوا كل العبادة المفروضة.

ومن ثم خرجت أخلاقيات "لا اله إلا الله" من دائرة العبادة, وأصبح من المستساغعند كثير منهم أن يؤدوا الركعات المفروضة في المسجد ثم يخرجوا ليكذبوا علىالناس ويغشوهم ويخدعوهم, ويخلفوا وعودهم معهم, ولا يخلصوا في أعمالهم, ولا يتقنوا حرفتهم, ولا يأمروا بالمعروف ولا ينهوا عن المنكر, ولا يعمل علىوقاية أنفسهم وأهليهم من النار باجتناب ما حرم الله, ولا يعاشروا زوجاتهمبالمعروف, ولا يهتموا بأمر المسلمين, ولم يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فيسبيل الله.. وفي حسهم أنهم أدّوا العبادة!!

هل كانت مثل تلك"العبادة" تصلح زاداَ للدنيا أو الآخرة ؟!  حين تؤدى على هذه الصورة يسقطوزرها ولكن لا يثاب الإنسان عليها، إنما يكون الثواب في الآخرة على قدر مافي العبادة من صدق. أما في الدنيا فلا يكون لها أثر حقيقي، لذلك قال اللهتعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْسَاهُونَ }

ومن الأوهام كذلك أن أنهم توهّموا أنهم ماداموا"مسلمين" فسينصرهم الله, وسيوفقهم وسيقضي لهم حوائجهم وينجح مقاصدهم, مهمايكن حالهم, ومهما تكن حقيقة أعمالهم!! غفلة كاملة عن السنن الربانية!

لقد قال الله تعالى للمؤمنين: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنتَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. ولم يقللهم: مادمتم مؤمنين فسأنصركم, وأثبت أقدامكم مهما تكن أحوالكم, وأوضاعكموأعمالكم !!

ولقد هزِم المؤمنون -وفيهم رسول الله صلى الله عليهوسلم- في وقعة أحد حين عصوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وهُزموا يومحنين -وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذالك- حين أعجبتهم كثرتهم فلمتغن عنهم شيئاَ وهم خير القرون.. فكيف بهاتيك القرون المتلفتة الغارقةبالبدع والمعاصي؟! أفكان الله ناصرهم وهم لا ينصرونه؟! لمجرد دعواهم أنهممؤمنون؟ أفكان الله موفّقهم وهم يعصونه, ولا يقومون بواجبهم نحوه؟ أفكانمنجح مقاصدهم وقلوبهم مشغولة بذكره غافلة عن أمره ونهيه؟!

 

  {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}

كيف فسدت مفاهيم الإسلام في حس تلك القرون المتأخرة ؟


لا شك أن هناك أسباباَ كثيرة تضافرت حتى زحزحت المسلمين عن حقيقة دينهم, وهميحسبون على الدوام أنهم "متمسكون" بالدين ! وحتى إن أدركوا أنهم مقصرون-ولابد أن يدركوا ذلك بين الحين والحين-، أسرع إليهم من يوهمهم أنهم فيمغفرة الله مهما فعلوا, حتى وقعوا فيما وقعت به بنو إسرائيل: {فَخَلَفَمِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَاالأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}

{وَرِثُواْالْكِتَابَ } ! أي أخذوه وراثة واتخذوه تراثاً! ولم يشعروا أنه كتابهم هم, المنزّل إليهم ليعملوا بمقتضاه! إنما هو كتاب الآباء والأجداد وهم مجردورثة له, غير مكلّفين بالعمل بما جاء به!!

لقد كانت هناك زحزحةمستمرة -استمرت من عمر الأمة عدة قرون- تبعد الناس رويداَ رويداَ عن حقيقةالدين, وتأتي الصحوة عابرة, على أيدي العلماء والدعاة والمصلحين, ثم تعودالأمة إلى غفوتها أكثر انحرافاًَ من ذي قبل, وأكثر بعداً عن حقيقة الدين.


وفي النهاية تحقق النذير: تداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها, بينما هم كثير كثير.. ألف مليون من البشر.. أكبر عدد وصولاً إليه فيالتاريخ ..

وفي القرنين الأخيرين كانت الكارثة التي لا تزال تعيش الأمة عقابيلها إلى هذه اللحظة.


ظلت الصليبية الصهيونية تتآمر على الدولة العثمانية حتى قضت عليه وفي النهايةأسقطتها. وفتت العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة هزيلة ضعيفة, تتصارع فيمابينها وتشاحن بما يحقق مصالح الأعداء دائماً, ويحقق لهم السيطرة علىمقدرات المسلمين.


ونُحِّيت الشريعة الإسلامية عن الحكم في كل البلادالتي دنستها أقدام الصليبين, تشفياً وحقداً من ناحية, وزعزعة للدين منأصوله من ناحية أخرى.


فهم يعرفون أنهم حين ينقضون عروة الحكم تنقض بعدها بقية العرى, كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: « لتنقضن عرى هذا الدين عروة عروة, كلّما نقضت عروة تمسك الناس بالتي بعدها , فأولهن نقضاَ الحكم وآخرهن نقضاَ الصلاة ».

وفي كل حين تهجم الصليبية هجمة أو تهجم الصهيونية هجمة, فيعيدون تفتيت الدويلات التي فتتوها من قبل, ليحيلوها إلى تراب تسحقه أقدامهم! ويفتعلون الأزمات لتحقيق أهدافهم, و "الأبطال" جالسون على مقاعدهم, يكذبون على شعوبهم ويموّهون عليها, في ظل "البطولات" المزعومة.. حتى تنفذ أغراض السادة, فيركلوا الأبطال الزائفين بأقدامهم ويستهلكوهم, ولا يعتبر منهم أحد بما فعل بمن سبقه من "الأبطال"!!

{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ . وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}

تلك نبذة سريعة عن مأساة الأمة في القرون الأخيرة التي لا تزال تعيش عقابيلها حتى اللحظة.. وما أبعد الشقة بين الأجيال التي شهد لها خالقها بقوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 

والأجيال التي حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « غثاء كغثاء السيل »، وسنّة الله لا تتبدل ولا تتحول ولا تحابي أحداً من الخلق {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}