الاستراحاتُ مضيعةٌ للأوقاتِ

انتشرت الاستراحات في أنحاء المملكة السعودية، وصارت هناك مخططات وأحياء مخصَّصة لها، بل لا نبالغ إذا ذهبنا في القول، أنَّ هناك استراحة مقابل كل خمسة منازل، وهذه الاستراحات، إمَّا للاستخدام الخاص، أو للتَّأجير اليومي، أو الشَّهري.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


انتشرت الاستراحات في أنحاء المملكة السعودية، وصارت هناك مخططات وأحياء مخصَّصة لها، بل لا نبالغ إذا ذهبنا في القول، أنَّ هناك استراحة مقابل كل خمسة منازل، وهذه الاستراحات، إمَّا للاستخدام الخاص، أو للتَّأجير اليومي، أو الشَّهري.

وإذا كانت نسبة كبيرة من الاستراحات، تستخدم لإقامة المناسبات الاجتماعية، أو التَّرفيهية، إلا أنَّ عدداً منها أضَّحى مواقع للرَّذيلة، وتجمُّعاً للمشبوهين.

إنَّ الاستراحات لم تعد من الكماليَّات، بل أصبحت تقليداً اجتماعياً، أفرزه التَّفاخر، والبحث عن سبل إضافية للتَّرفيه، وغيرها من الأسباب التي أدَّت إلى انسلاخ بعضنا عن القيم التي جبل عليها المجتمع.

الإسلام لا يمنع من التَّرويح عن النَّفس، فالإسلام دين واقعي تعايشي، فالله خلق الإنسان، ويعلم ما يريحه وما يسعده، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14]. ومما يريح الإنسان ويسعده، المكان الفسيح، والخضرة النَّاضرة، والزُّهور الجميلة، والرِّفقة الصَّالحة، الذين ينتقون الكلام، كما ينتقى أطايب الثَّمر، وقد كان النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، يدخل بستاناً لأبي طلحة الأنصاريِّ رضي الله عنه، يسمَّى: بيرحاء، وكان مستقبل المسجد، يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب، ويجلس في ظلال شجرها، يروَّح عن نفسه.

وعن حنظلة بن الربيع الأسيدي قال: لقيني أبو بكر فقال: "كيف أنت يا حنظلة؟" قلت: "نافق حنظلة!!" قال: "سبحان الله!! ما تقول؟" قلت: "نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنَّار والجنَّة كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، عافسنا الأزواج، والأولاد، والضَّيعات، نسينا كثيراً"، قال أبو بكر: "فوالله إنَّا لنلقى مثل هذا"، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقلت: "نافق حنظلة يا رسول الله!!" قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وما ذاك؟» قلت: "يا رسول الله!! نكون عندك، تذكرنا بالنَّار والجنَّة كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج، والأولاد، والضَّيعات نسينا كثيراً". فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن!! يا حنظلة ساعة وساعة» ثلاث مرات. (رواه مسلم).

نعم، هناك فئة كبيرة من المجتمع السُّعودي، يستخدمون الاستراحات استخداماً شرعيَّاً، ومنضبطون بالضَّوابط الشَّرعية، من غضِّ البصر، والمحافظة على الصَّلوات، وتجنُّب الغيبة والنميمة، والبعد عن الاختلاط، وجميع المحرمات.

لكنَّ!! الأغلب أنَّ ما يجري في الاستراحات، أمور يندى لها جبين الحياء، سهرٌ حتَّى الفجر، مسلسلاتٌ وأفلام، غيبةٌ ولحومٌ مسمومة، تعميره وشيشة، انترنت ومواقعُ إباحيَّة، تحليلٌ ونقدٌ لكلِّ فرد، أكلٌ وشربٌ وإسرافٌ، نومٌ عن الصَّلوات، وعند البعض خمورٌ ونساء والعياذ بالله.

سئل فضيلة الشَّيخ محمَّد بن صالح العثيمين، عن شباب يجلسون في استراحة، وبينهم وبين المسجد تقريباً كيلو، أو كيلو إلا ربع، ويصلُّون في الاستراحة، فهل تجب عليهم صلاة الجماعة؟ وبماذا تنصحهم على ضياع أوقاتهم بغير ثمرة ولا فائدة؟

فأجاب فضيلته بقوله: "أنشأ النَّاس ما يسمَّى بالاستراحات، وفيها شيء من الأشجار والنَّبات، وصاروا يجلسون فيها، من بعد صلاة العصر إلى منتصف الليل، أو قريباً من منتصف الليل، والغالب أنَّهم لا يحصلون على فائدة؛ إلا مجرد ضياع الوقت، وأنس بعضهم ببعض، وما أشبه ذلك، وقد تشتمل هذه الجلسات على شيء محرم، فقد سمعنا أنَّ في بعض هذه الاستراحات، توضع الدُّشوش التي لا يشكُّ أحدٌ اليوم، في أنَّها تفسد الأخلاق، وتدمِّر الأديان، لأنَّها تلتقط ما يبثُّ في البلاد الفاسدة، من بلاد الكفر وغيرها. فيكون عندهم هذا الدُّشُّ، ثم يبقون يشاهدون ما يجلبه من المفاسد والمناكر؛ لأنَّهم يمارسونها ويشاهدونها، ومن المعلوم أنَّ من اعتاد على شئ هان عليه، ويقال في المثل السائر: مع كثرة الإمساس يقلُّ الإحساس....." إلى أن قال الشيخ رحمه الله: ".... وكذلك أوجِّه النَّصيحة إلى من يضع الدُّش في هذه الاستراحات، أقول له: اتق الله في نفسك، ولاتكن سبباً لفساد الأخلاق، ودمار الأديان، بما يشاهد في هذه الدُّشوش، كما أنَّني بالمناسبة أحذر صاحب كل بيت، من أن يضع في بيته مثل هذا الدُّش؛ لأنَّه سوف يخلفه بعد موته، فيكون وبالاً عليه في حياته، وبعد مماته. وإني أسأل واضع الدُّش في بيته، وهو يرى هذه المناكر التي تبثُّ منه، هل هو بهذا ناصح لأهل بيته أو غاش لهم؟ والجواب: أنَّه غاش لهم، إلا أن يكون ممن طبع الله على قلبه فلا يحسُّ، لكن!! سيقول: أنَّه غاش لهم، فأقول له: اذكر قول الرسول صلي الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية؛ فيموت حين يموت؛ وهو غاش لها؛ إلا حرَّم الله عليه الجنَّة» (متفق عليه). فأنت الآن إذا مت، وقد وضعت لأهلك هذا الدُّش، الذي لا يشكُّ أحدٌ أنَّه غش في البيت، لأن البيت فيه نساء، وفيه سفهاء صغار، لا يتحاشون الشَّيء المحرم، فأنت بهذا من يموت، وهو غاشٌّ لرعيَّته، فتكون أهلاً للوعيد الشَّديد الذي جاء في الحديث".

إنَّ من حقِّ الرَّجل أن يكون له أصدقاء، يجتمع بهم، ويتسلَّى معهم، فالنَّفس البشريَّة تحتاج للصَّديق دائماً، حتَّى وإن كان هناك زوجة، تملئ كيانه، وأطفال يلهون بوقته، يلاعبهم، ويحتضنهم ....

نعم، وفوق كلِّ هذا، الزَّوج بحاجة للأصدقاء، ولا ننكر هذا الحق له، ولكن!!

تكمن المشكلة، في زيادة الأمر عن حدِّه المعقول والمقبول، فالرَّجل الذي يقضى معظم وقته في الاستراحة، والذي يقضيه من وقته في الاستراحة، لا أبالغ إن قلت: أنَّه أكثر من الوقت الذي يقضيه في بيته، وبجانب إنسانة، يقال عنها: زوجة .

فأحدث هذا السُّلوك اللاإنساني واللاحضاري، عند الزَّوجات فراغاً عاطفيَّاً، قد يقودهنَّ للانحراف، والبحث عمَّن يملأ لهنَّ هذه العاطفة، بطرق غير مشروعة، وفي الفترة الأخيرة، صارت النِّساء والزَّوجات، يجعلن لهنَّ استراحات كالرِّجال، يسهرن ويتعللن كما يفعل الرِّجال، وبالتَّالي سيؤدِّي الأمر إلى اختلال نظام البيت، وضياع الأسرة والأولاد، لأنَّ الولد سيقلد أباه، وسيبحث عمَّن يسامره،

ويسهر معه، وستقلِّد البنت أمَّها، لأنَّه كما قال الأول:

 

إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضارباً *** فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهم الرَّقص


أجمِل! وأحسِن! بربِّ البيت، الذي يأخذ استراحة لجميع أفراد أسرته، ثمَّ في نهاية كلِّ أسبوع، وبعد جدٍ واجتهادٍ للأولاد في المدارس، وسط الأسبوع، يخرجون جميعاً للاستراحة، تحت رعاية وإشراف أبيهم وأمِّهم، يشرفون عليهم إشرافاً تربويَّاً، ويوجِّهونهم توجيهاً صالحاً، هذه هي الحياة السَّعيدة والهنيَّة، لأنَّ سعادتك أخي الكريم، هي في حديقة منزلك، مع زوجتك وأولادك، فلا تبحث عنها في حدائق، وبيوت الآخرين...

وفي الختام:

أتوجَّه بنصيحة لمالك ومؤجر الاستراحات، فأقول له: سخّر استراحتك للخير، وحافظ على سفينة مجتمعك من الغرق عبرها، واجعلها مشروع بناء، وشكر لله على نعمته؛ لا مشروع هدم، وإفساد للشَّباب، والأسر، اتق الله في السِّرِّ والعلانية، واعلم بأنَّ الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، مطّلع على نيَّتك وقصدك، وقد شرع لك الكسب الحلال؛ فلا يكن همُّك جمع المال من أي وجه كان، تحرَّ المال الحلال في كسبك، فإنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وكلُّ جسم نبت من السُّحت فالنَّار أولى به، وأنّى يُستجاب دعاء من غُذي بالحرام ؟! وأنّى تُقبل صدقة من تصدَّق من مال حرام ؟!

أخي المبارك:

تذكَّر أنَّ من قواعد الدِّين العظيمة، أنَّ دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فاحذر أن تؤجِّر استراحتك لمن يغلب على ظنّك أنَّه سيستعملها فيما يغضب الله؛ فتقع في الإثم والعدوان لأنَّك شاركت صاحبه، وعاونته، على معصية الله، حيث يسرت له فعل الشَّرِّ، وأعنته عليه، وسهلته له، وأصبحت متعاوناً معه، وخالفت أمر ربك سبحانه القائل: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

فما شعورك يوم تقف بين يدي مولاك جلّ وعلا، ويوم لا ينفع مال ولا بنون، ثمَّ تجدُ صحيفتك مليئة بالسَّيئات، بسبب استراحتك، وأنت لا تعلم، فاحذر يا أخي العقوبة العاجلة والآجلة، لأنَّها تحصل بسبب ما كسبت يداك من الذُّنوب والمعاصي، فهي كالنَّار تحت الرَّماد، ولا تدري متى تحلُّ بك نقمة الله، فإنَّه سبحانه مطَّلع على سائر عملك، وما تضمره نيتك، وهو يمهل ولا يهمل، فالمسارعة المسارعة إلى التَّوبة النَّصوح، قبل فوات الأوان، وعضِّ يد النَّدم.

أسألك اللهمَّ أن تحفظ مجتمعنا، من الذُّنوب والمعاصي، وأن تديم عليه النِّعم، وتجنبه النِّقم، وترزق الجميع ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.


سعد العثمان