بين الاتباع والأدب
جَمَعَتْ هذه الدُّرر بيْن الحِرْص على الحقِّ واتباع الدليل، وبين العِلم والأدب وتقدير أهل العِلْم وطلبته، ممَّا فيه تنبيهٌ وتذكِرة لطلبة العِلم والدعاة إلى الله تعالى؛ عسى الله أن يرزقَنا اتباعَ الحق بدليله مع حُسْن أدب، ووافِرِ احترامٍ لأهل العلم؛ فالعلم رَحِمٌ بيْن أهله ملعونٌ مَن قطَعَه!!
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرفِ المرسَلين، محمَّد بن عبد الله، وعلى آله وصَحْبه ومَن والاه..
أمَّا بعدُ:
فمِن المعلوم أنَّ اتِّباع الحقِّ بدليله مِن أوْجب الواجبات، وقد حَرَص عليه وتمسَّك به المهتدون إلى الصِّراط المستقيم، ولكن في بعض الأحايين يُسيء قومٌ الأدبَ، ويتجرَّؤون على أهل العِلم وطلبته؛ بدَعْوَى الحرص على الحقِّ واتباع الدليل، وهذا موطنٌ زلَّتْ فيه أقدام، وضلَّت فيه أفهام، وتَهارَشَ فيه الصِّغار تهارُشَ الحُمُر، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، وإني ذاكرٌ بعضًا مِن دُرر العلماء المحقِّقين من سلفِنا الصالحين، جَمَعَتْ هذه الدُّرر بيْن الحِرْص على الحقِّ واتباع الدليل، وبين العِلم والأدب وتقدير أهل العِلْم وطلبته، ممَّا فيه تنبيهٌ وتذكِرة لطلبة العِلم والدعاة إلى الله تعالى؛ عسى الله أن يرزقَنا اتباعَ الحق بدليله مع حُسْن أدب، ووافِرِ احترامٍ لأهل العلم؛ فالعلم رَحِمٌ بيْن أهله ملعونٌ مَن قطَعَه!!
وقد راعني أوَّل ما راعني كلامُ الإمام العلاَّمة يحيى بن شرَف الدين النووي رحمه الله تعالى حيث قال رحمه الله تعالى في شرْح حديث هِنْد بِنْت عُتْبَةَ امْرَأَة أَبِي سُفْيانَ [1]: "ومذهبُ أصحابِنا أنَّ نفقةَ القريب مُقدَّرة بالكفاية كما هو ظاهرُ هذا الحديث، ونفقة الزوجة مُقدَّرةٌ بالأمدادِ على الموسِر كلَّ يوم مُدَّان، وعلى المعسر مدٌّ، وعلى المتوسِّط مُدٌّ ونصف، وهذا الحديث يَرُدُّ على أصحابِنا" [2]. وقال أيضًا: "ومذهبُنا أنه لا يَنتقض الوضوءُ بشيء مِن المأكولات، سواء ما مسَّتْه النار وغيره غير لحم الجَزُور، وفي لحم الجَزُور بفتح الجيم -وهو لحم الإبل- قولانِ: الجديد المشهور لا ينتقض، وهو الصحيح عندَ الأصحاب، والقديم: أنَّه ينتقض وهو ضعيفٌ عندَ الأصحاب، ولكنَّه هو القويُّ أو الصحيحُ مِن حيث الدليلُ وهو الذي أعتقدُ رُجحانَه، وقد أشار البيهقيُّ إلى ترجيحِه واختياره والذب عنه، وسترَى دليلَه إنْ شاء الله تعالى" [3]. فجَمَع رحمه الله تعالى بين العِلْم بالحديثِ ومدلولِه والعِلم بقولِ الأصحاب، وبيْن الاتِّباعِ للحقِّ بدليله والتعظيم للحديثِ والسُّنة، والأدبِ مع الأصحابِ والأئمَّة مِن أهل العِلْم وطلاَّبه. فيا لها مِن كلمة لو تأمَّلها المتأمِّل وتدبرها المتدبِّر! وهذا الحَديثُ يَرُدُّ على أَصْحابِنا!
ولو قال طالبُ العلم: وهذا الحَديثُ يَرُدُّ على أَصْحابي؛ على أشياخي، على طائفتي، على جَماعتي، على حِزبي، بلْ على نفْسي، لكان قوَّامًا بالقسط ناجيًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، مع حُسْن التأدُّب مع العلماءِ والأئمَّة والدُّعاة إلى الخير، فقد يكون لهم عُذرٌ وأنت تلوم، مِن مثل: عدمِ العِلم بالحديث، أو نِسيانه، أو فَهْمه على غيرِ وجهه، أو تضعيفه عندَه، أو أي احتمالات أُخرى مما ذَكَره شيخُ الإسلام رحمه الله تعالى في رسالته الفذَّة (رفْع الملام عن الأئمة الأعلام)، وهي عُمدةٌ فيما نتكلَّم فيه من الجَمْع بيْن كمال الاتِّباع وحُسْن الأدب مع العلماء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فيجبُ على المسلمين بعدَ مُوالاةِ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم موالاةُ المؤمنين كما نطَق به القرآن، خصوصًا العلماء الذين هم ورثةُ الأنبياء، الذين جَعَلهم الله بمنزلةِ النجوم، يُهتدَى بهم في ظلمات البرِّ والبحر، وقدْ أجمع المسلمون على هِدايتهم ودِرايتهم؛ إذ كلُّ أُمَّة قبل مَبْعَث نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شِرارُها، إلاَّ المسلمين فإنَّ علماءهم خيارُهم؛ فإنَّهم خُلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أُمَّته، والمحيون لما مات مِن سُنته، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نَطَق الكتاب وبه نطقوا. وليعلم أنَّه ليس أحدٌ مِن الأئمة المقبولين عندَ الأمة قَبولاً عامًّا يتعمَّد مخالفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيءٍ من سُنته؛ دقيق ولا جليل، فإنَّهم متفقون اتِّفاقًا يقينيًّا على وجوبِ اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أنَّ كل أحد مِن الناس يُؤخَذ من قوله ويترك، إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا وُجِد لواحدٍ منهم قولٌ قدْ جاء حديثٌ صحيح بخلافه، فلا بدَّ له مِن عُذر في ترْكه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادةَ تلك المسألة بذلك القوْل.
والثالث: اعتقاده أنَّ ذلك الحُكم منسوخ. وهذه الأصناف الثلاثة تتفرَّع إلى أسباب متعدِّدة" [4]، وفصَّل فيها القول شارحًا وموضِّحًا بما لعلَّك لا تظفر به في غيرِه من المصنَّفات.
وليس غائبًا عنك ما قالَه العلاَّمة المحقِّق ابن القيم رحمه الله تعالى عن الإمام الهَرَوي صاحب (منازل السائرين)، الذي شرَحه ابنُ القيِّم في (مدارج السالكين) قال: "والذي أوْجَب للشيخ هذا القَدْر: الاسترسال في القَدَر، والفناء في شهود الحقيقة الكونية، فإنَّه مِن الراسخين فيه، الذين لا تأخذهم فيه لومةُ لائم، وهو شديدٌ في إنكار الأسباب، وهذا موضعٌ زَلَّتْ فيه أقدام أئمَّة أعلام، ولولا أنَّ حقَّ الحقِّ أوجبُ مِن حقِّ الخَلْق لكان في الإمساكِ فُسْحةٌ ومُتَّسَع" [5]. انظرْ إلى القاعدة واحفظْها: "ولولا أنَّ حقَّ الحقِّ أوجبُ مِن حقِّ الخَلْق، لكان في الإمساكِ فُسْحةٌ ومُتَّسَع"، يا له مِن عِلْم، ويا له مِن اتِّباع، ويا له مِن أدَب!
ويقول: "شيخُ الإسلام (الهَرَوي) حبيبُنا، ولكنَّ الحقَّ أحبُّ إلينا منه، وكان شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله يقول: عَمَلُه خيرٌ مِن عِلْمه، وصَدَق رحمه الله فسِيرتُه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البِدع لا يشقُّ له فيها غُبار، وله المقامات المشهورة في نُصْرة الله ورسوله، وأبَى الله أن يكسوَ ثوبَ العِصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا يَنطِق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وقدْ أَخْطَأَ في هذا البابِ لَفْظًا ومَعْنًى" [6]. وبدأ يُوجِّه ويوضِّح ويُفصِّل أوْجُهَ الخطأ في اللفظ والمعنى.
وانظر إلى قول الإمام المبجَّل إمام أهل السُّنة؛ أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "لم يَعْبُرِ الجسرَ إلى خرسان مِثْلُ إسحاق، وإنْ كان يُخالِفُنا في أشياءَ، فما زال الناسُ يخالف بعضُهم بعضًا"، فجَمَع بين الثناء على العالِم واحترامه، وبيْن احتمال الخِلاف معه، فالعالِم الحق يحرِص على اتِّباع الحقِّ، ولا يَجْبر أحدًا على اتِّباعه، فالناس مراتب في العلم والإدراك، والفهم والاستنباط؛ "فما زال الناسُ يخالف بعضُهم بعضًا"، وانظر يا رعاك الله كلامَ البيهقي على هذا الأثر: عن ثوبانَ رضي الله عنه قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في غير رمضان، فأصابَه غمٌّ آذاه، فتقيَّأ، فقاء، فدعاني بوَضوء، فتوضَّأ، ثم أفْطَر، فقلت: يا رسولَ الله، أفريضةٌ الوضوءُ مِن القَيْء؟ قال: لو كان فريضةً لوجدتَه في القرآن، قال: ثم صام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغد، فسمعتُه يقول: هذا مكان إفطاري أمس» (الخلافيات للبيهقي: 2/351، منكر) قال البيهقي: "هذا حديث منكر، ولا يَنبغي لأحدٍ مِن أصحابنا أن يُعارِضَهم بذلك؛ لكيلا نكونَ وهم في الاحتجاج بالمناكيرِ سواءً، أعاذنا الله مِن ذلك بمَنِّه" [7].
ويقول الشيخ فكري الجزار حفظه الله تعالى: "وإذا كنتُ قدْ قدمتُ أنَّه لم يَكُن همِّي عيبَ مُصنَّف أو صاحِب كتاب، فكذلك لم تمنعْني شهرةُ الكِتاب أو صاحبه مِن النظرِ فيه مع عظيمِ تقديري وإعجابي، بل واقتدائي بأئمَّتنا مِن السَّلف عليهم رحمة الله تعالى ولكن التقدير والإعجاب ليسا تَقديسًا؛ إذ لا يجوز التقديسُ إلا في حقِّ كتاب الله تعالى الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، وهذا كما قال محقِّق (التنبيه) [8] في حقِّ مؤلِّفه (ابن بري): "ولم يصرفه [9] اشتهارُه [10] في الآفاق، ولا إعجاب المِصريِّين به [11] عن النظرِ فيه، والاشتغال بنقْدِه" [12]، [13]. فجمَع أيضًا بين كمال الاتِّباع والحِرْص على تحرِّي الصواب، مع حُسْن الأدبِ والإجلال للعلماء والمصنِّفين. وهذا كثيرٌ جدًّا في كلام أئمَّتنا وسِيرتهم العَملية، لو استقصينا البحْثَ فيه ما أتينا إلا بقَطْرةٍ مِن بحْر، ولمستزيدٍ أن يستزيد، ومَن عمِل بما عَلِم أورثه الله عِلْمَ ما لا يَعْلَم.
فإلى طُلاَّب العلم وشُدَاته أقول: احْرِصوا على الاتِّباع نعَمْ؛ فإنَّ خطر البدعة والتقليد لديكم معروف، ولكن يَنبغي أن يكونَ هذا بعلمٍ، بالنصِّ ودَلالاته، وأقوالِ العالِم وإشاراته، كل هذا مع حسن أدب، وإقامة العُذْر، مِن غير اتِّهام أو تجريح، وليكن غرَضُكم: معرفة الحقِّ، وعُذر الخَلْق. ولا يَظُننَّ ظانٌّ، أو يفهمنَّ فاهمٌ أنِّي أريد ألاَّ يُردَّ على مُبطِل بُطلانُه، أو على مُفتَر افتراؤُه، أو أنِّي أنفي التحذيرَ مِن الباطِل وأهلِه، ولكن كلامي هذا في حقِّ مَن عُرِف باتِّباعه للسُّنة، وحمْله وتأديته للعِلم عن أهله. فلكلِّ جَوَادٍ كَبْوة، ولكلِّ صارمٍ نَبْوَة، ومَن ذا الذي تُرضَى سجاياه كلها؟! وخصوصًا في وقت الفِتنة [14]، فإنَّ مِن طبيعتها التَّشتيت، والْتباس الأمور، فقدْ يخفَى بعض الواقع على العالِم، فيُفتي أو يتكلَّم بحسب ما انتهى إليه عِلمُه، وإنْ كان الواجب عليه التحرِّي قدْرَ طاقته؛ ليجمعَ بين فِقه الشَّرْع وفَهْم الواقع، فلا ينبغي أن تُوضع السيوف على رِقابهم، أو يُساموا بالألْقابِ التي لا تَليق بأهلِ العِلْم، مِثل أن يُقال: إنَّهم ليس عندهم تصوُّر كامل، أو إنَّهم قَصَّروا أو فرَّطوا، أو اضطربوا، أو... أو... أو...، فكثيرٌ مِن العلماء والدُّعاة المعاصرين المعروفين باتِّباعهم للسُّنة وحِرْصهم على طلبِ العِلم ونشْره، قد نِيل مِن أعراضهم، واعْتُدي عليهم، و... و...؛ كل هذا بحجَّة الاتِّباع للسُّنَّة والاقتداء بالسَّلف الصالِح، وعدم تقديس المشايخ، واتِّباع الدليل، وقدْ أدَّى ذلك ببعض أهل العِلم إلى تفضيلِ العُزْلة، وترْك ساحةِ الدَّعْوة، والابتعاد عن أذَى الخَلْق، وكفَى بهذا ضررًا على العِلم وأهله، والدعوة وأهلها! إضافةً إلى كثيرٍ مِن المفاسد ليس هذا محلَّ بسْطِها.
فها أنا قدْ أخبرتُك ناصحًا ومحذِّرًا، بلهْ مرشدًا، بأنَّ الاتِّباعَ كلَّ الاتِّباع يكون مع حُسْن الأدب، بعدَ العِلم بالنصِّ ودَلالاته، وفَهْم أقوال العلماء وأئمَّة العلم، فلا تَغيبنَّ عنْك هذه العبارة النووية: "وهذا الحَديثُ يَرُدُّ على أَصْحابِنا"، وليكنْ شِعارك ودَيْدنك: معرفة الحق، وعُذْر الخَلْق.
وفي هذا بلاغ لمُعتبِر، وحسبُك مِن القِلادة ما أحاط بالعُنق.
وصلَّى الله على عبدِه ورسوله محمَّد، وعلى آله وصحْبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
____________________
[1] نص الحديث كما في صحيح مسلم: عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «دخلتْ هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيح، لا يُعطيني من النَّفقة ما يَكفيني ويكفي بنيّ إلا ما أخذتُ مِن ماله بغير عِلْمه، فهل عليَّ في ذلك من جُناح؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: خُذي مِن ماله بالمعروف ما يَكفيك ويكفي بنيك».
[2] شرح مسلم للنووي (12 / 7).
[3] المجموع شرح المهذب (2 / 57).
[4] رفع الملام عن الأئمة الأعلام (1 / 8 – 9).
[5] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2 / 44).
[6] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3 / 366).
[7] الخلافيات (2/ 351).
[8] (التنبيه والإيضاح عمَّا وقع في الصحاح).
[9] الضمير عائد على ابن بري مؤلف (التنبيه).
[10] الضمير عائد على كتاب (الصِّحاح).
[11] خص المصريين لاشتهار الكتاب بينهم، ولأنهم قوم المؤلف.
[12] انظر: (التنبيه والإيضاح) مقدمة المحقق (49).
[13] التنبيهات في التصحيفات والتحريفات (ص: 20).
[14] وهذا مِثل ما جرَى في مصر هذه الأيَّام مِن أحداث لا تَخْفَى.
رضا جمال