محرقة رابعة وحدت الشعب المصري ضد الانقلاب
الانقلاب في مصر محاصر شعبيا وغير قادر على تحقيق أهدافه، فالشعب المصري الغاضب في حالة ثورة حقيقية، والمصريون استوعبوا الضربة وامتصوها ويواصلون تحديهم حتى ينتهي الانقلاب بكل آثاره.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لم يكن أحد يتخيل أن يحدث في مصر إزهاق أرواح المعتصمين السلميين بهذه الطريقة الدموية التي شاهدناها في رابعة والنهضة وما بعدهما. هذا الكم من الضحايا لم يكن في حسبان أحد، حتى الذين شاركوا في الاعتصامات في القاهرة وباقي المحافظات لم يتوقعوا أن يهاجمهم الجيش المصري بهذه الطريقة.
لقد ثبت خطأ كل الحسابات التي بنت تقديراتها على أن قادة الانقلاب لن يستخدموا العنف في فض اعتصامي رابعة والنهضة لما سينتج عنه من خسائر بشرية كبيرة.
كان هناك ثقة متوهمة في أن الجيش المصري لن يطلق الرصاص على المصريين وأن ما يصدر من أركان الانقلاب ومن تحالفوا معهم مجرد تهديدات غير قابلة للتنفيذ.
فوجئ المصريون صبيحة الأربعاء 14 أغسطس 2013 بمحرقتين مروعتين في رابعة والنهضة، لم تشهد مصر مثلهما عبر تاريخها.
في رابعة حاصرت القوات المهاجمة المنطقة من كل الاتجاهات، ولم تترك للمعتصمين منفذا للهرب.
بدأ الهجوم بخنق المعتصمين بقنابل الغاز، من القوات على الأرض ومن المروحيات التي كانت تطوف في سماء المكان.
كان الرصاص يحصد الجميع. لم يفرق بين رجل وامرأة، ولا بين كبير وصغير.لم يهرب المعتصمون. وكيف يهربون وهم يريدون الشهادة؟لم يستطع المستشفى الميداني بإمكاناته المتواضعة إسعاف المصابين الذين كان القناصة يصطادونهم من كل الاتجاهات،فنزف معظمهم حتى الموت.
انشغل كثير من المعتصمين بتكفين الشهداء ولكن قوات الانقلاب لم تترك الجثامين لأهلها، فجرفت الجرافات الكثير منها وأشعلوا فيها النيران لتحترق مع المكان الذي تحول إلى رماد.
هاجمت قوات الانقلاب المستشفى الميداني والقاعات وأجهزوا على المصابين وقتلوا من وجدوه وعددهم بالآلاف، وفيما يبدو أن التعليمات الصادرة لهم أنهم لا يريدون مصابين.
وفي تصرف جنوني أشعلت القوات المهاجمة النيران في المكان، لحرق الجثث لتشويهها وتغيير معالمها حتى لا يتعرف عليها الأقارب والأهل، وكـأنهم ينتقمون من المعتصمين أحياء وأمواتا.
عشرات الخيام داخل ساحة المسجد احرقوها بمن فيها الذين رفضوا الخروج صمودا أو خوفا من الرصاص الذي كان يطير فوق الرؤوس وشوهدت هذه الجثامين مرصوصة في أماكنها وهي تحترق.
وقامت جرافات الجيش بجمع مخلفات رابعة ومعها الجثامين وتحميلها على ناقلات ودفنها في أماكن غير معلومة، وهذا ما يجعل قضية المفقودين من أبرز المآسي التي ستطفو على السطح في الأيام القادمة.
ويعيش الكثير من العائلات المصرية الآن معاناة البحث عن ذويهم في السجون والمعتقلات وفي المستشفيات ولدى الأصدقاء، ومن هؤلاء المفقودين الإعلامي نور الدين عبد الصمد الذي أعلنت عائلته عن فقده وعدم العثور عليه حيا أو شهيدا أو معتقلا، وآخر معلومة وصلتهم من رابعة قبل حرق المسجد أنه كان مصابا برصاصة.
لم يكن مع معتصمي رابعة ما يدافعون به عن أنفسهم غير التكبير، وظلت التكبيرات تنطلق من منصة رابعة إلى أن أسكتها المقتحمون بقتل من عليها ثم حرقها وتدميرها.
في ميدان النهضة تعاملت القوات المهاجمة بنفس الطريقة الوحشية، إذ تعرض المعتصمون للهجوم بالمدرعات والطائرات، وقتل جنود الانقلاب أعدادا لا حصر لها، وقاموا بحرق الخيام.
ومن باب الحرب النفسية أتوا بكاميرات الفضائيات الموالية للانقلاب لتصوير بعض المعتصمين وهم يحترقون والنار مشتعلة في أجسادهم دون أن يتدخل أحد لإطفائها.
طريقة الحرق هذه عندما رأيناها في الصباح على الهواء مباشرة ظننا أنها تمت بدون قصد، ولكن عندما تكشفت عمليات حرق الشهداء والمصابين في رابعة تأكد أن العملية مقصودة، ورسالة متعمدة لنشر حالة من الذعر لإرهاب وتخويف المعارضين للانقلاب.
أمام الزحف الانقلابي في النهضة هرب بعض المعتصمين داخل الجامعة وهربوا من المحرقة، ولجأ حوالي 10 آلاف معتصم إلى كلية الهندسة المجاورة للاعتصام وظلوا بها تحت الحصار الأمني حتى ساعة متأخرة من الليل، عندما انسحبت القوات الانقلابية تحت الضغط لفك الحصار من المظاهرات في المناطق المجاورة كالمهندسين والهرم.
مطاردة المتظاهرين
استمر الانقلابيون في ممارسة الفظائع بملاحقة المظاهرات في كل أنحاء البلاد ومواجهة الاحتجاجات السلمية بالرصاص والأسلحة المختلفة والاستعانة بالبلطجية في قتل المتظاهرين السلميين، وكانت أكبر مذبحة للمتظاهرين في ميدان رمسيس يوم الجمعة 16 أغسطس عندما قتلت القوات الأمنية أكثر من 200 شهيد وأصابت المئات بالقوات الراجلة والمدرعات والطائرات المروحية، وانتهت هذه الموقعة باقتحام مسجد الفتح واعتقال من فيه، رجالا ونساء.
ولمزيد من التخويف تم اعتقال نحو 250 سيدة وفتاة من كل الأعمار في ذلك اليوم وإيداعهن أحد معسكرات الأمن، أفرجوا عن بعضهن بعد أسبوع وحبسوا باقيهن بقرارات من النيابة.
تعامل الانقلابيين مع الداخل والخارج
الذين خططوا للانقلاب قرروا استخدم أكبر قدر من القتل والتدمير وارتكاب الفظائع للسيطرة على الداخل بالإرهاب والقمع للسيطرة على حركة الاحتجاج، ولتحييد الخارج تم طمئنة أمريكا والغرب من خلال الإشارات التي تؤكد أن الانقلابيين في خدمة المصالح الغربية بتصدير شعار "مكافحة الإرهاب" وبدا هذا واضحا منذ البيان الذي تلاه الفريق عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو، وطالب فيه الشعب بالنزول إلى الشارع ليعطيه تفويضا لمكافحة "العنف والإرهاب المحتمل".
وأخطر التنازلات التي قدمها قادة الانقلاب ما قدموه للكيان الصهيوني من اللقاءات والاتفاقات الأمنية والقيام ببعض الإجراءات في سيناء من ملاحقات وهدم أنفاق وأشياء أخرى، جعلت قادة إسرائيل من أشد الداعمين علانية للانقلاب في مصر.
أخطر الإشارات التي قدمها الانقلابيين تلك التي توحي بأنهم ليس لديهم ثوابت عقدية، ولا يحترمون المقدسات الإسلامية، وتجلى هذا في الحملة على المساجد الآتي:
1- حرق مسجد رابعة بشكل كلي.
2- العدوان على المساجد حيث سلطوا البلطجية لاقتحامها في الإسكندرية والمنصورة ورمسيس.
3- إغلاق المساجد بالشمع الأحمر كما في دمياط والإسماعيلية.
4- منع صلاة الجمعة لمنع المظاهرات كما حدث في الفت برمسيس ومصطفي محمود بالمهندسين والنور بالعباسية.
5- استهداف الملتحين في كمائن الجيش والشرطة والمنتقبات في بعض الأماكن.
6- إهانة قيادات الإخوان المقبوض عليهم واستمرار الحملة الإعلامية ضد كل المظاهر الإسلامية.
حركة الاحتجاجات
حركة الشارع الآن أوسع من أن تحتويها قيادة منظمة كالإخوان أو التحالف الوطني لدعم الشرعية، فالدماء وصور الفظائع أشعلت الغضب في الشارع المصري ضد الانقلاب،وتسببت هذه الفظاعات في انضمام قطاعات واسعة من الشعب لحركة الاحتجاج، الأمر الذي جعل الانقلاب محاصر بالاحتجاجات.
ومع شراسة المواجهة الأمنية للاعتصامات والمظاهرات، بدأ الشعب المصري يغير من أساليب الحركة، من خلال الآتي:
1- توسيع حركة الاحتجاج في كل المدن بأنحاء الجمهورية.
2- ترك التظاهر المركزي في المنطقة المكشوفة بالعاصمة مؤقتا، تجنبا للخسائر، خاصة في شريط وسط البلد، الممتد من القصر العيني مرورا بالتحرير ثم رمسيس وانتهاء بالعباسية.
3- تسيير المظاهرات في الأحياء القديمة بالقاهرة الكبرى والمناطق المغلقة التي لا يستطيع الأمن دخولها.
4- تنظيم المظاهرات الليلية لكسر حظر التجوال الذي يفرضه الانقلاب.
5- تطوير الأداء الإعلامي لكسر التعتيم الذي تفرضه سلطات الانقلاب بنقل حركة الاحتجاج بالفيديو عبر الانترنت والفضائيات المساندة.
6- بث الأفلام التي توثق جرائم القتل والانتهاكات ضد المعتصمين والمتظاهرين السلميين، وقد تسببت هذه الفيديوهات في تغيير مواقف الكثيرين الذين كان لهم مواقف سلبية تجاه حكم الإخوان وبعضهم أيد الانقلاب في البداية.
الوضع على الأرض
لم تحقق المذابح في رابعة والنهضة ورمسيس وغيرها أهدافها في السيطرة على حركة الاحتجاج في الشارع كما كان يظن مخططو الانقلاب، ولم ينه فض الاعتصامات التحركات المنظمة للمتظاهرين.
يمكن القول أن هناك حركة عفوية في كل المحافظات يقودها شباب جديد بعقول جديدة، يصعب السيطرة المركزية عليها، وهذه العقليات بدأت في تخطيط تحركاتها كما ونوعا وفقا لظروف كل منطقة، بما يحقق أقصى مكاسب دون الدخول في صدامات.
ولم يؤثر في قوة الاحتجاجات ما تعلنه سلطات الانقلاب يوميا من اعتقالات لقيادات الإخوان، فحركة الشارع لا يتحكم فيها حزب أو جماعة.
من يتابع المظاهرات اليومية في كل مكان في مصر يجد أن حركة الاحتجاج تزداد اتساعا وينخرط فيها المزيد من القطاعات التي ربما لم تنزل الشارع من قبل.
في المقابل يعاني الانقلاب من العزلة الشعبية ولم توفر له جبهة الإنقاذ وحركة تمرد الغطاء الشعبي اللازم للوقوف ضد حركة الرفض، بل انفضت الهالة التي صورها الأعلام للإنقاذ وتمرد ولم يعد معهم أحد.
ويمكن تلخيص أهم العقبات التي تواجه الانقلاب فيما يلي:
1- يبدو الانقلاب الآن بدون مؤيدين سوى بعض النخبة المعزولة في التلفزيون المصري والفضائيات الخاصة التي يمتلكها دستة أشخاص من أعوان الرئيس المخلوع حسني مبارك.
2- الشعب المصري لم يستسلم ويواصل الاحتجاج ويصعب احتواء المظاهرات.
3- عجز الانقلاب عن إقناع الرأي العام المحلي والدولي بأن ما قام به ليس انقلابا، فالرئيس المنتخب لازال قيد الاعتقال ولا أحد يستطيع مقابلته، والدستور الذي استفتي عليه الشعب المصري تم تعطيله.
4- استعان الانقلاب بوجوه ليس لها قبول على الإطلاق، سواء في قصر الاتحادية برئاسة المستشار عدلي منصور أو في الحكومة برئاسة حازم الببلاوي.
5- اعتماد الانقلاب على مستشارين كبار السن يخدمون في الأجهزة الأمنية لا يعرفون غير أساليب قمعية قديمة منذ الخمسينات والستينات، لم تعد قابلة للتطبيق في عالم اليوم.
6- الوقت ليس في صالح الانقلاب لعمل شرعية جديدة من خلال كتابة دستور جديد والاستفتاء عليه، خاصة مع وجود الصراعات بين القوى المشاركة في الانقلاب.
7- رغم إغلاق الفضائيات الإسلامية لم يستطع الانقلاب فرض التعتيم الإعلامي الكامل، حيث تضامنت فضائيات عربية مع الثورة المصرية وتبنت أنصار الشرعية ضد الانقلاب.
8- النشاط الإعلامي على الانترنت وبث وثائق الإدانة المصورة ساهم في تفوق الرافضين للانقلاب على أنصار الانقلاب والفوز في معركة كسب العقول، ولعبت شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة فيس بوك وتوتير دورا محوريا في فضح ممارسات الانقلابيين.
9- تمسك حركة الرفض للانقلاب بالسلمية أكثر ما يحبط التخطيط الانقلابي، فكل القوى الإسلامية أعلنت رفضها للعنف وعجزت سلطات الانقلاب عن إثبات اتهاماتها وبالتالي فشلت فكرة الحرب ضد الإرهاب التي يعتمد عليها الانقلابيون.
الخلاصة:
قادة الانقلاب أرادوا تكرار ما فعله عبد الناصر. استخدموا القتل والحرق معتمدين على طابور التضليل الإعلامي لشيطنة الإخوان وتشويه التيار الإسلامي.
في المقابل لم يكرر الإخوان خطأ عبد القادر عودة في 1954 عندما صرف الجماهير المحتشدة في عابدين، ورفض مرشد الإخوان الدكتور محمد بديع صرف المعتصمين في رابعة، ليس لأنه وعى درس التاريخ وأراد ذلك، وإنما لأن المعتصمين ما كانوا سيسمعوا كلامه.
الفارق هذه المرة، أن قادة الانقلاب يكررون أفكارا قديمة ولم يعوا أن الزمن تغير، وأن معركتهم ليست مع الإخوان وإنما مع الشعب المصري الذي يشعر بالإهانة، وهو الذي لن يقبل بأن تصادر إرادته ويتسلط عليه أشخاص بالقوة، بعيدا عن الصندوق الانتخابي.
الانقلاب في مصر محاصر شعبيا وغير قادر على تحقيق أهدافه، فالشعب المصري الغاضب في حالة ثورة حقيقية، والمصريون استوعبوا الضربة وامتصوها ويواصلون تحديهم حتى ينتهي الانقلاب بكل آثاره.
الانقلابيون في مصر لن يستطيعوا الاستمرار في حرب الشعب، وهم كمن يريد بناء بيت فوق فوهة بركان.
8/27/2013 - عامر عبد المنعم
مجلة البيان