من يتخفّى خلف النقاب؟!

أمير سعيد

لم يعد هناك وقت كافٍ للمغادرة، لا مناص من إيجاد وسيلة للفرار؛ فالانقلابيون قد اقتربوا جداً من القصر، الوقت يمضي، ولم يعد لـ "الزعيم" فترة كافية للتفكير، في مثل هذه المواقف تصبح الخيارات ضيقة، الارتباك سيد، والتفكير مشلول.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


لم يعد هناك وقت كافٍ للمغادرة، لا مناص من إيجاد وسيلة للفرار؛ فالانقلابيون قد اقتربوا جداً من القصر، الوقت يمضي، ولم يعد لـ "الزعيم" فترة كافية للتفكير، في مثل هذه المواقف تصبح الخيارات ضيقة، الارتباك سيد، والتفكير مشلول.

بحاسة المرأة؛ أبرقت في رأس "سيدة القصر" فكرة، أشارت على "الزعيم" بأن يغادر القصر فوراً مرتدياً النقاب... جرحته رجولته برهة لكنه سرعان ما راجع الأمر فوراً، ما الذي يمكن أن يحصل لو ظفروا بي؟! سيشهرون بي؟! ليس مهماً، ستكون رأسي قد اقتربت من المقصلة، إنني لم "أناضل" إلا لكي أعيش مرغداً ناعماً، وإذا ضاعت الحياة فلن أبحث عن "السمعة".

إنني من جذور أناس يعشقون الحياة، أي حياة، جاء في القرآن عنهم {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة من الآية:96]، حياةٌ نكرة، كيفما كانت، المهم أن تكون حياة لا ممات!

لكن ماذا عن سمعة النقاب نفسه؟! لا تهم أبداً، بالعكس، لئن نجوت لأمنعنه والحجاب كله، المهم أن أظفر بالبقاء على قيد الحياة!

لطيفة هانم أوساكي، "سيدة القصر" هي صاحبة الاقتراح، زوجة "الزعيم" مصطفى كمال، المسمّى "أتاتورك" كلقب يعوض عنه جهالة الأب؛ فأُمُّه "زبيدة" لم تخبره باسم أبيه؛ فهو من جذور يهود الدونمة الذين غادروا من الأندلس واستوطنوا بتركيا، وهم طائفة لا تحدُّها أخلاق، ولا يردُّها دين.

نفذ مصطفى كمال "أتاتورك" هذه النصيحة على الفور، ونجا يومها من موت محقق، كان ذلك في العام 1923م، وعاد قوياً، يُؤسس لدولة "تركيا الحديثة"، ودعا بعد ذلك نساء تركيا إلى "الحداثة" وخلع الحجاب لاعتبارهما في نظر "أتاتورك" صنوان لا يفترقان، ولم تكن لطيفة هانم أول المستجيبات، لكنها من بعدُ فعلت، وانحسر الحجاب في تركيا.

لم يحاسب "أتاتورك" أو "أبو الترك" وِفقاً لمعناها بالتركية، ولا زوجته لإهانتهما الحجاب، لكن آيبك كاليسلار، الكاتبة التركية التي روت تلك القصة في روايتها "لطيفة هانم"، هي التي حوسبت؛ فقبل ستة أعوام، سيقت إلى المحكمة بتهمة "إهانة الذات الأتاتوركية" من قبل القضاء التركي!

العلمانيون العرب ما فتِئوا يتهمون خصومهم من "الإسلاميين" بأنهم يرتدون النقاب من أجل التخفي، وقد رددوا ذلك مراراً، وسمُّوا أشخاصاً بأعينهم يفلتون من أيدي الشرطة بسبب تخفيهم بملابس النساء!

سِيق الآلاف إلى السجون في أكثر من بلدٍ عربي ولم تضبط السلطات أحدهم يرتدي نقاباً، ولا حتى يمتلك ملابس نقاب في "مخبئه"، فيما عُثر على "بدلة رقص"، وملابس نوم نسائية في غرفة وزير داخلية سابق بالوزارة في إحدى "دول الربيع العربي"، وتم عرضها في التليفزيونات شِبه الرسمية، لكن مع ذلك فالمتهم دوماً هم "الإسلاميون"... أما الوزير فحالة فردية!

يحمل اتهام العلمانيين لـ"الإسلاميين" بالتخفي بالنقاب رغبة جموح في تلويث هذا الغطاء الذي ترتديه المرأة المسلمة تعففاً عن أعين أصحاب القلوب المريضة، بنفس القدر الذي توازيها رغبة شاردة في تلويث "المتهم" ذاته بنقصان الرجولة عند اللقاء والمواجهة.

وبعد أن استمرؤوا "إدانة النقاب والحجاب" وصفوهما في أغانيهم العنصرية التي تصنف المصريين لشعبين، بأن شعبهما المنبوذ تختفي نساؤه خلف "ستارة"!

لكن الحقيقة الدامغة أن أول من "شرعن" لارتداء الرجال النقاب كان أبا العلمانية في الإقليم كله، مصطفى كمال "أتاتورك"، ولم يقتدِ به إلا أمثاله من الجبناء، أما الشجعان الشرفاء فلا، لم يفعلوا ولن يكونوا.

وإذا كان "أتاتورك" قد حارب الحجاب والنقاب -الذي أنقذه ذات يوم، بل أمر زوجته العلمانية بدورها بخلعه- باسم الحداثة؛ فإن خصومه اليوم ينوعون أسبابهم، وفي تلك المرحلة يذهبون إلى ذريعة التخفي والتستر والهروب من "العدالة" كمُبرِّر لإلغائه، مثلما يفعلون ذلك في المساجد؛ فحيثما نَصب نابليون بونابرت في العام 1798م مدافعه فوق مسجد السلطان حسن؛ وقصف بها صحن الجامع الأزهر رفضاً منه لتدخل "الدين في السياسة" وقهراً لـ"ثورة المساجد" التي انطلقت منها حينئذ؛ فإن أحفاده بأرضنا يفعلون الشيء ذاته ويزيدون "إن هذه المساجد تستخدم كمخازن للأسلحة"، بينما الكنائس وقلاعها لا تفعل!

إن رواد المساجد، والعائذات بالحجاب ليربؤوا ويربأن عن تلويثها وتلويثه، أما خصومهم العلمانيون؛ فكل غايةٍ دنيئةٍ تُبرِّرها وسيلة وضيعة، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:21].