جئتم متأخرين !!

محمد جلال القصاص

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -

في القرن التاسع عشر الميلادي بدأ مشروع الحداثة، أو ما يسمونه (التجديد)، وبدأت تدخل على الأمة أفكار جديدة مثل الوطنية و (تحرير المرأة)، والأحزاب السياسية، وبدأ الكلامَ نصارى الشامِ وأعضاء البعثات العلمية إلى فرنسا. وكانت الهجمة على التراث الإسلامي تأخذ عدة محاور؛ فبعض المحاور كانت سياسية وبعضها كانت عسكرية وبعضها كانت دينية، إلا أنه كانت هناك يد (خفية) تنسق بين الجهود أو بالأحرى تستثمر الجهود وتفسح الطريق لدعاة (الإصلاح) الجدد.

 

تلقت الدعوة قبولا من الجماهير وذلك بسبب جرثومة الإرجاء التي نخرت في عظام الأمة، فكان من السهل على الأمة تقبل العلمانية.

 

ويلحق بهذا أيضا ـ من الأسباب ـ ضعف الدولة العثمانية التي كانت تمثل النموذج الديني للدولة ونجاح النموذج العلماني في أوروبا.

 

ومن أقوى الأسباب أن الخطاب (التجديدي) انطلق من المؤسسة الدينية الأقوى يومها، أعني الأزهر، وفي شخص (الشيخ) محمد عبده الذي كان يعمل مفتيا في الدولة المصرية المحتلة وآخرون مثل (الشيخ) علي عبد الرزاق وغيره.

 

قد كان للأمر مبررات تقبلها الجماهير، فالكل كان يطمع (للرقي) و (التحضر)... الخ. كما هو الحال في أوروبا المستعمِرة.

 

ومضت السنون ولم تحصل الأمة على شيء مما تكلم به المثقفون... دعاة (الإصلاح)، والعسكريون... (الثوار الأحرار) و (العرب الأمجاد). وازداد الطين بلة، وفشلت مشاريع الإصلاح القديمة كلها على أرض الواقع. فلا اتحد العرب، ولا تقدمت الشعوب وارتقت، ولا استطاعت العلمانية أن تثبت فكريا فضلا عن عمليا.

 

وها نحن نشهد من جديد (عودة الحجاب) في مصر التي بدأ فيها المشروع التغريبي، رغم أن العصا غليظة. وهاهي الجماهير تقف كلها مع التيار الإسلامي في كل الدولة الإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص. ولا أدل على ذلك من انتخابات الجزائر والبحرين ومصر وفلسطين وغيرهم، وها هي الجماهير تتعاطف مع ما يحدث في العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين وتكسر بذاك الحواجز الجغرافية المصطنعة. بما يعني أن المشروع (الإصلاحي) لم يعد يصلح، بعدما كذبه الواقع وانكشف عواره أمام الجماهير.

 

وأمَرُّ من هذا كله هو أننا نجد أن الصراعات في العالم بدأت تتجدد على خلفيات دينية. إذ أن العالم كله اليوم يشهد صحوة دينية عند أصحاب الديانات الثلاثة. فالمد الكنسي يزداد يوما بعد يوم. والانتخابات الأخيرة في أمريكا شاهد على ذلك.

 

ففي استطلاع للرأي أجري في أمريكا قبل الانتخابات الأخيرة بثلاثة أشهر تقريبا وُجِد أن 70 % من الأمريكيين المسجلين على قائمة اللوائح الانتخابية الأمريكية قالوا: "إن الرئيس الأمريكي المقبل يجب أن يحدد سياسته بناءً على قناعات دينية" (المجتمع: العدد 1627 ص: 28).

 

وفي الانتخابات الأخيرة رأينا عقد ما يشبه المؤتمرات الانتخابية في الكنائس، وتصويت جماعي من المنظمات الدينية لجورج بوش.

 

ورأينا المناظرات الأمريكية بين المرشحين تنتهي بدعوات مثل "فليحمِ الرب أمريكا".

 

نعم؛ اختيار الشعب الأمريكي لبوش تعبير واضح عن صحوة دينية لدى الشعب الأمريكي.

 

والأمر ليس خاصا بأمريكا وحدها وإنما بكل عباد الصليب. والأمر بالنسبة لأوروبا أشد وضوحا. ولا يخفى على أحد منع الحجاب في فرنسا وتطاول الأوربيين الشرقيين على شخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

 

وغني عن القول أن اليهود تُحركهم معتقدات تَوراتية وأنهم ما جاءوا إلى فلسطين إلا لتحقيق نبوءات تَوراتية. يشهد لذلك عَلَمُهم ذو الخطين الأزرقين (النيل والفرات)، وخارطة إسرائيل الكبرى على الكنيست (الإسرائيلي)، والعملة اليهودية تشهد بذلك.

 

كل هذا يعطي جملة واحدة يفهمها كل متابع، وهي أن الصراع بدأ يتجدد عقديا، وأن العلمانية شدت رحالها عن العالم.

 

بعد كل هذه الآيات البينات على فشل المشروع التغريبي... أو كما يسميه أصحابه (التجديدي).. (الإصلاحي). نجد أن البعض قاموا يعيدون الكرة من جديد، ويطالبون بحرية المرأة في قيادة السيارة والسفر للخارج، وأن التفسخ والعري هو رغبة (بنات البلاد)، وإنهاء تسلط الرجل. وإلى متى ؟... إلى آخر هذه الشنشنة القديمة.

 

ونقول لهؤلاء جميعا: جئتم متأخرين!!

 

فقد فشل أسلافكم في مصر وتونس والشام، ولفظتهم الجماهير...

 

جئتم متأخرين فقد شبّت الصحوة وأصبحت فتية، ولم تعد الجماهير تنصت للمؤسسة الدينية الحكومية في أغلب البلاد بل لا تنصت إلا لشيوخ الصحوة هنا وهناك.

 

جئتم متأخرين فعدونا ـ الذي تدعونا للمشي خلفه ـ اليوم على أرضنا يغتصب نساءنا ويقتل شبابنا ويشرب بترولنا ويأكل زرعنا، ولم يأت بسبب الحكم الديني المتخلف كما تزعمون بل بسبب الحكم العلماني الذي إليه تدعون.

 

جئتم متأخرين، وأسفر وجهكم وهو كالح يذكرنا بماضي أليم لم نجن من ورائه شيئا، ولم نعد نصدقكم.