خنق الغوطة؛ اضطراب النظام وتردد الغرب

أمير سعيد

لم يرد بشار الأسد أن يُريَ العالم مشهد الدم في مجزرة تغرق المئات بالدم؛ فاختار وسيلة أكثر "أناقة" للقتل بخلاف حلفائه العسكريين.
مجزرة بلا دم! هكذا الغرب "يغضب"، بل يوحي بذلك، لكن ما فاقها من مجازر اعتبر "استخداماً مفرطاً للقوة".

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


لم يرد بشار الأسد أن يُريَ العالم مشهد الدم في مجزرة تغرق المئات بالدم؛ فاختار وسيلة أكثر "أناقة" للقتل بخلاف حلفائه العسكريين.

مجزرة بلا دم! هكذا الغرب "يغضب"، بل يوحي بذلك، لكن ما فاقها من مجازر اعتبر "استخداماً مفرطاً للقوة".


الآلاف في العالم العربي قضوا خنقاً وقنصاً وحرقاً في أيام وجيزة، في مقاتل جماعية فاقت كل جرائم الكيان الصهيوني المباشرة، أما غير المباشرة؛ فتلك أيضاً صنيعة يديه لكن بقفازات محلية.

لكن هل أغضب الغرب خنق مئات الأطفال في الغوطة الشرقية بسوريا ضمن شهداء كادوا أن يلمسوا رقم الألفين؟

المئات يرتقون كل أسبوع في سوريا في جريمة السفاح بشار المتصلة منذ عامين، ولم يصل رجع صدى صرخات وزفرات وشهقات السوريين من الأمم المتحدة ودول مجلس الأمن الدائمة وغير الدائمة إلا عبارات "القلق" بمستوياتها الدبلوماسية المتدرجة. ألأن النظام الفاشي السوري قد جمع ضحايا الأسبوع في يوم واحد، أم لأنه قد "تجرّأ" وارتكبها بالقرب من الحدود مع "إسرائيل" مستخدماً سلاحاً غير تقليدي، أم لأنه بدأ يتجاوز الخطوط الحمر؟!

للغرب سببه أو أسبابه في رفع سقف احتجاجه المعلن على جريمة الغوطة الشرقية، إلى حد التلويح بالتدخل العسكري لأول مرة في سوريا بعد أكثر من عامين من التواطؤ والمعارضة الكلامية لجرائم النظام السوري، ولصافرة الإنذار التي أطلقها ما يبرِّرها أو يقود إليها استراتيجياً، فرد الفعل الغربي ربما متفهم بحسب معطياته المبدئية الراهنة، وجرائم النظام السوري أيضاً متوقعة، غير أن شدتها وتركيزها الآن حول دمشق له أكثر من احتمال؛ فالبعض كرئيس أركان الجيش السوري الحر إسليم إدريس ذهب إلى أن المقتلة لم تكن إلا رداً على محاولة قتل الرئيس السوري نفسه أوائل الشهر الجاري، وهي الرواية التي راجت في الأسبوعين الماضيين ولم يتسنّ التأكد من صحتها، والبعض يراها كحالة اعتيادية يعتمدها المحشورون في زوايا العسكرية باللجوء إلى المجازر لصدمة العدو وحمل المدنيين على الرحيل من مناطق القتال ودفع المقاتلين إلى البروز في ساحة مكشوفة، لاسيما أن النظام السوري مشرب بالقلق الشديد من وضع ريف دمشق المحيط بالعاصمة والذي لم يفلح في تحقيق النصر فيه على الثوار مع شدة الحصار المضروب من النظام على المنطقة في كسر قوته، ويُعزِّز ذلك التهاوي المستمر في قدرة جيش بشار على الصمود مع اتساع رقعة القتال خصوصاً مع عدم تمكنه من حسم معركة حمص، وفتح جبهة الساحل على مِصراعيها، وتحقيق الثوار لانتصارات واضحة في الشمال.

وغير بعيد عن هذا الانزعاج البالغ من قبل النظام النصيري من اقتراب الثوار من معقل الرئيس بشار، القرداحة، ورمزية ذلك، وخشيته من تأثير سقوطها على معنوية ما تبقى ما شيعته وجيشه وشبيحته، والأكثر إزعاجاً اهتزاز ثقة القيادة النصيرية في قدرتها على الاحتماء بالحاضنة العلوية في الساحل وإنشاء دويلة نصيرية عاصمتها طرطوس أو حمص.

قادة النظام السوري باتوا يعلمون أن الوقت ليس في صالحهم، لذا كانت الجريمة هي إحدى أدواتهم للهروب إلى الأمام ملتحفين بصمت العالم على ما حصل في مصر من مذابح متكررة، وهو الصمت الذي شجع النظام السوري على اتِّقاء مهاجمته غربياً استناداً إلى قاعدة المعاملة بالمثل!

وعلى مبعدة يُمسِك الساسة الغربيون بعدساتهم لسبر أغوار المشهد السوري، ولعلهم لاحظوا أن ميليشيا "حزب الله" والقوات الإيرانية لم تعد تعيد المناطق "المحررة" كالقصير وبعض قراها، وبعض المناطق في الوسط والشمال إلى قوات النظام السوري، إما أثرةً أو "إشفاقاً"، وكلاهما يعنيان أن الثقة في طاقة جنود بشار تتهاوى كل يوم، وأن سوريا ربما بدأت التقسيم بالفعل ليس بيد "الإرهابيين" أعداء النظام مثلما يحلو له أن يتهمهم، وإنما من قبل حلفاء بشار أنفسهم، وهذا حال مقلق للغرب لدلالاته الموحية بأن القوات الإسلامية التي تحقق انتصارات هنا وهناك ربما صارت يوماً ما قادرة على إلحاق الهزيمة بنظام بشار بشكلٍ "قاسٍ"، وأن هذا يعني أن حاجة الجميع للتدخل غدت ملحّةً سياسياً، وإن اقتضى الأمر فعسكرياً!

قبل أسبوعين قلتُ بتغريدة أن: "الاقتراب من القرداحة يذكر بالاقتراب من بانيالوكا -عاصمة صرب البوسنة-، والتي اضطر الغرب للتدخل لصالح الصرب بمعاهدة دايتون؛ فسرعة اقتحامها (أصبح ضرورة للثوار)"، ولربما صار على الغرب أن يتدخل؛ فوفقاً لهذا التفسير عليه أن يتدخل لصالح نظام بشار وإن أعلن العكس، أو بنقيضه، عليه أن يتدخل لإطاحة بشار وتسليم السلطة إلى نظام ضعيف ويمكن "ضبطه" من الساسة والعسكريين، والنظام القديم.

لكن؛ هل هذا سابق لأوانه... ربما؛ فلا يمكن الجزم بأن الغرب عازم على التدخل الآن، وتصريح وزير الدفاع الأمريكي هيغل بأن "الرئيس طلب من وزارة الدفاع تزويده بخيارات. وكالعادة وزارة الدفاع مستعدة ولطالما كانت مستعدة لتزويد رئيس الولايات المتحدة بكل الخيارات لكل الاحتمالات"، والذي كشف عن تحريك بعض القطع البحرية ليس حاسماً في هذا الصدد، لا؛ بل إنه أحياناً يكون علامة على عدم جدية الأمريكيين مثلما كان الحال في اجتياح "حزب الله" لبيروت قبل خمسة أعوام، والتي أدرك وقتها تيار المستقبل أنه قد استند إلى هواء مع تحريك الأمرييكين لحاملة طائرات في المتوسط باتجاه بيروت ثم تراجعهم بلا سبب!

وأيّاً كان المذهب الذي يتخذه المراقبون حيال تلويحات واشنطن باستخدام القوة في سوريا، ومدى النظر إليها بجدية أو استخفاف، إلا أن المشكلة السورية بدت أنها مقدمة على لحظة مصيرية، وإن فداحة الجريمة التي ارتكبت في الغوطة تُعبِّر عن اهتزاز في القيادة السورية أكثر من تعبيرها عن قبضة فولاذية حاضرة؛ فلقد جاء الرد على المقتلة التي استهدفت أطفالاً بالغالبية بإسقاط طائرة في الغوطة ذاتها، وتحرير مدينة أريحا في ريف إدلب الاستراتيجية بعد معارك ضارية ضمن عملية "كسر القيود"، وتكبّد الإيرانيين من الحرس الثوري فضلاً عن النظاميين السوريين خسارة فادحة في الأرواح.