دمعة على أفريقيا
رحل عن دنيانا الفانية رجل ليس ككل الرجال بل كان أمة بمعني الكلمة، إنه الدكتور عبد الرحمن حمود السميط، الذي أفنى حياته كلها في أفريقيا يكافح الجهل والمرض، وينشر قيم الخير والفضيلة كلها، ويدعو الناس بالحسنى إلى الإسلام حتى دخل الأفارقة إلى الإسلام على يديه فرادى وجماعات، حيث أسلم منهم أكثر من 11 مليون نصراني ووثني.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - تراجم العلماء -
بعد نحو 30 عاماً من العطاء الذاخر بالخير في أدغال أفريقيا ووسط أحراشها، رحل عن دنيانا الفانية يوم 15/8/2013 رجل ليس ككل الرجال بل كان أمة بمعني الكلمة، إنه الدكتور عبد الرحمن حمود السميط، الذي أفنى حياته كلها في أفريقيا يكافح الجهل والمرض، وينشر قيم الخير والفضيلة كلها، ويدعو الناس بالحسنى إلى الإسلام حتى دخل الأفارقة إلى الإسلام على يديه فرادى وجماعات، حيث أسلم منهم أكثر من 11 مليون نصراني ووثني.
نَذَر الفقيد حياته لخدمه الإسلام والمسلمين ولم يبحث عن كرسي أو مال، كان الراحل سفيراً لأهل الكويت والخليج إلى إفريقيا، قال في حوار مع مجلة (نون): "كيف ألقي عصا الترحال وهناك الملايين ممن يحتاجون للهداية، وأنا بحاجة إليهم يوم القيامة ليشهدوا لي لعلي أدخل الجنة بدعاء واحد منهم".
في مقال له في مجلة الكوثر في أكتوبر 2003 قال الفقيد: "لستُ نادماً على المضي قدماً في هذا الطريق لأنني اخترته بقناعه تامةً ورضا بقضاء رب العالمين، ولكنني أشفق على إخواني الذين اختاروا زينة الحياة الدنيا التي صرفت أبصارهم عن اللذة الحقيقة التي تحف بها المشاق والمكاره".
وكان أكثر ما يؤثر في السميط إلى حد البكاء حينما يذهب إلى منطقة ويدخل بعض أبنائها في الإسلام ثم يصرخون ويبكون على آبائهم وأمهاتهم الذين ماتوا على غير الإسلام، وهم يسألون: أين أنتم يا مسلمون؟ ولماذا تأخرتم عنا كل هذه السنين؟ كانت هذه الكلمات تجعله يبكي بمرارة، ويشعر بجزء من المسؤولية تجاه هؤلاء الذين ماتوا على الكفر.
نعم لقد أفنى الفقيد عمره في خدمة الإسلام وفي مساعدة الفقراء والمحتاجين وخاصة في قارة أفريقيا فأطلقوا عليه لقب خادم فقراء أفريقيا، كان سبب اهتمام الفقيد السميط بأفريقيا هو اطلاعه على دراسة ميدانية أكدت ان ملايين المسلمين في القارة السوداء لا يعرفون عن الإسلام إلا خرافات وأساطير لا أساس لها من الصحة، وعلى أثر ذلك آثر أن يترك عمله الطبي طواعية، ليجسد مشروعاً خيرياً رائداً في مواجهة (غول الفقر)، واستقطب معه فريقاً من المتطوعين الذين انخرطوا في تدشين هذا المشروع الإنساني، الذي تتمثل معالمه في مداواة المرضى، وتضميد جراح المنكوبين، ومواساة الفقراء والمحتاجين.
تعرض الفقيد للمرض والاغتيال مرات عديدة ومع ذلك لم يهجر دول القارة الأفريقية لينعم برغد العيش في بلده الكويت، بل ما كان يعود لبلده إلا زائراً أو مستشفياً، وكان الفقيد قد أدخل المستشفي بتاريخ 19/12/2011 إثر تعطل عمل الكلى ثم أصيب بجلطة في الدماغ أدخلته حالة من الغيبوبة فتخللت تلك المدة عدة إشاعات أثيرت حول وفاته كانت في كل مرة تجمع القلوب من حوله، وتطلق الألسنة بالدعاء له، بما يحقق إجماعا من الأمة على رجل لم يتحقق لأحد غيره في زماننا هذا، ولا شك أن رحيله سوف يترك فراغاً كبيراً لا يعوض في مجال الدعوة والعمل الخيري في أفريقيا.
لقد كان الفقيد السميط مهموماً بفقراء أفريقيا كثيراً وكان يخشي عليهم من التنصير المحموم مبينا أن التنصير في أفريقيا ما زال هو سيد الموقف، مشيراً إلى ما ذكره د. دافيد بارت خبير الإحصاء في العمل التنصيري بالولايات المتحدة من أن عدد المنصرين العاملين الآن في هيئات ولجان تنصيرية يزيدون على أكثر من 51 مليون منصِّر، ويبلغ عدد الطوائف النصرانية في العالم اليوم 35 ألف طائفة، ويملك العاملون في هذا المجال 365 ألف جهاز كمبيوتر لمتابعة الأعمال التي تقدمها الهيئات التنصيرية ولجانها العاملة، ويملكون أسطولا جويا لا يقل عن 360 طائرة تحمل المعونات والمواد التي يوزعونها والكتب التي تطير إلى مختلف أرجاء المعمورة بمعدل طائرة كل أربع دقائق على مدار الساعة، ويبلغ عدد الإذاعات التي يملكونها وتبث برامجها يومياً أكثر من 4050 إذاعة وتلفزيوناً، وأن حجم الأموال التي جمعت العام الماضي لأغراض الكنيسة تزيد على 300 مليار دولار، وحظ أفريقيا من النشاط التنصيري هو الأوفر.
ومن أمثلة تبرعات غير المسلمين للنشاط التنصيري -كما يرصدها الفقيد- رحمه الله تبرعات صاحب شركة مايكروسوفت بلغت في عام واحد تقريبا مليار دولار، ورجل أعمال هولندي تبرع بمبلغ 114 مليون دولار دفعة واحدة وقيل أن هذا المبلغ كان كل ما يملكه، وفي أحد الاحتفالات التي أقامها أحد داعمي العمل التنصيري في نيويورك قرر أن يوزع نسخة من الإنجيل على كل بيت في العالم وكانت تكلفة فكرته 300 مليون دولار حتى ينفذها، ولم تمر ليلة واحدة حتى كان حصيلة ما جمعه أكثر من 41 مليون دولار.
وُلِد الشيخ السميط يرحمه الله في الكويت عام 1947، حصل على البكالوريوس في الطب والجراحة من جامعة بغداد في يوليو عام 1972 ثم على دبلوم أمراض المناطق الحارة من جامعة ليفربول عام 1974 ثم على دبلومتين في التخصص في الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي من جامعة ماكغل في مونتريال في كندا عامي 1974 و1978، كما قدم أبحاثا في سرطان الكبد إلى جامعة لندن عام 1979 و1980 وفي العام 1983 قرر التفرغ للعمل الإغاثي في قارة أفريقيا التي تحظى باهتمام كبير من قِبَل الدول الكبرى لكونها تقع في قلب العالم وتمثل منجما لمعظم معادنه وثرواته، حيث تضم قارة أفريقيا 54 دولة وتبلغ مساحتها 30 مليون كيلو متراً مربعاً ويبلغ إجمالي عدد سكانها 783 مليون نسمة نصفهم تقريبا من المسلمين حيث يبلغ عدد مسلمي قارة أفريقيا 350 مليون نسمة ويمثل الزنوج 70% من عدد السكان بينما يمثل المغول والحبش والقوقاز والأقزام النسب الباقية الأخرى، ورغم الغنى الهائل والوفرة في كل شيء فإن الفقر والمجاعات تنتشر في أرجائها حيث أن خيرها يذهب عادةً للغرب كما أن القارة أصبحت مجالا للتنافس بين الهيئات الإغاثية بكل توجهاتها لاسيما النصرانية والإسلامية.
في حوار أجراه معه أحمد منصور في برنامجه (بلا حدود) عام 2005 قال الشيخ السميط: أنه عاش في أفريقيا 26 سنة حتى تلك الساعة وأضاف: أنا أعتقد أنني أنا وزوجتي وأولادي وجدنا السعادة هناك، كان بإمكاننا نعيش في كندا، كان بإمكاننا نعيش في أوروبا وعُرِضت علينا فرص رفضناها ورفضت حتى الإقامة في الكويت مؤخراً بعد ما شعرت أنني قضيت فترة من حياتي كان بالإمكان نقضيها في عمل خيري أفضل لذلك قررت أن أنتقل إلى إفريقيا وأشعر بالراحة، وقال: عندما أرى إنسانًا يرفع يديه يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله لأول مرة في حياته أشعر أنني أعظم من أكبر ملك في الدنيا أو أعظم رئيس لدولة في الدنيا، عندما أرى يتيمًا من أيتامي حفظ سورة من القرآن أو جاءني يركض وهو فرحان أنه تفوق في الدراسة أيضًا يأتيني هذا الشعور، عندما أرى قرية بكاملها اعتنقت الإسلام أحس كأن أحدًا أعطاني أموال الدنيا كلها ولن تدخل السعادة علي بمال بقدر ما يدخل السعادة لي هذه القرية أو ذاك اليتيم أو هذا الطالب".
عاش الشيخ السميط حياته كلها لفقراء أفريقيا فأصبح قديساً ومحبوباً لدى كل الناس أجاد الكثير من لغات ولهجات أهل أفريقيا، وفى حبه لأفريقيا وأهلها ورفضه لحياة رغيدة في بلده النفطي الثري الكويت قال الشيخ السميط: أنا ليس لدي تليفزيون، أنا أستطيع أضع تليفزيون لكن أنا رفضت إني أركب تليفزيون أو راديو أو جرائد، أنا أريد أن أعيش لهؤلاء وفقط ليس لي غير هؤلاء".
يا له من رجل خلق من طينة خاصة غير طينة كل رجال هذا، البلد يا له من عالم جليل، يا له من إنسان نبيل، يا له من داعية غريب الأطوار دعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة فجذب قلوب كثيرين إلى دين الإسلام، ما قام به الرجل في أفريقيا لم تقم به منظمات وهيئات ومؤسسات دعوية كثيرة في العالم، كان حينما يذهب إلى شمال كينيا لمدة 15 إلى 19 ساعة تتكسر سيارته في الطرق الوعرة الممطرة وتتقطع نعاله فيمشي حافياً على الصخور التي تجرح قدميه فيسيل منها الدم علما بأنه كان مصابا بمرض السكر ليصل إلى قرية نائية في كينيا كان يصلها القساوسة المبشرون في نصف ساعة بالطائرة ومع ذلك تغلب عليهم بدعوته السمحة التي تقبلها بسطاء وفقراء أفريقيا.
إنجازات الشيخ السميط كثيرة جداً فعلى سبيل المثال لا الحصر قام الرجل خلال 31 عاما قضاها في حقل الدعوة والعمل الخيري ببناء ما يقارب من 5700 مسجد ورعاية 18000 يتيم وحفر حوالي 9500 بئراً ارتوازية في أفريقيا، وقام بإنشاء 860 مدرسة و 4 جامعات و204 مركز إسلامي، قام ببناء 124 مستشفى ومستوصفاً و840 مدرسة قرآنية، قام بدفع رسوم 95 ألف طالب مسلم وطباعة 6 ملايين نسخة من المصحف وتوزيعها على المسلمين الجدد، وطبع وتوزيع 605 ملايين كتيب إسلامي بلغات أفريقية مختلفة، و قام ببناء وتشغيل 102 مركز إسلامي متكامل وعقد 1450 دورة للمعلمين وأئمة المساجد نفذ عدداً ضخماً من مشاريع إفطار الصائمين لتغطي حوالي 40 دولة مختلفة وتخدم أكثر من مليوني صائم، قام بتأسيس لجنة مسلمي مالاوي في الكويت عام 1980 ولجنة مسلمي أفريقيا وهي أول مؤسسة إسلامية متخصصة عام 1981 ولجنة الإغاثة الكويتية التي ساهمت بإنقاذ أكثر من 320 ألف مسلم من الجوع والموت في السودان وموزمبيق وكينيا والصومال وجيبوتي خلال مجاعة عام 1984.
ذات يوم جمع 100 ألف دينار لمساعدة إحدى الدول الأفريقية بعد صلاة الجمعة وتولى الفقيد أيضا منصب أمين عام لجنة مسلمي إفريقيا منذ تأسيسها التي أصبحت أكبر منظمة عربية إسلامية عاملة في إفريقيا، وألف الفقيد السميط العديد من الكتب هي (لبيك أفريقيا) و(دمعة على أفريقيا) و(رحلة خير في أفريقيا... رسالة إلى ولدي) و(العرب والمسلمون في مدغشقر) و(التبشير المسيحي بين المسلمين- دراسة علمية) و(إدارة الكوارث للعاملين في المنظمات الإسلامية) وقبائل البوران وقبيلة الدينكا ودليل مراكز الإغاثة وغيرها من المؤلفات كما كتب مئات المقالات في مجال الدعوة الإسلامية في صحف ومطبوعات مختلفة.
وترك الراحل بحوثا إسلامية ومؤلفات أخرى أبرزها بحث بعنوان (دور الإعلام في العمل الخيري) وحصل الراحل على وسام النيلين من الدرجة الأولى من جمهورية السودان عام 1999 وعلى جائزة الشيخ راشد النعيمي حاكم إمارة عجمان عام 2001 وعلى الدكتوراه الفخرية في مجال العمل الدعوي من جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان عام 2003 ووسام فارس من رئيس جمهورية بنين عام 2004. كما نال الفقيد السميط جائزة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم للعلوم الطبية والإنسانية في الإمارات عام 2006 ووسام فارس العمل الخيري من إمارة الشارقة عام 2010 وجائزة العمل الخيري من مؤسسة قطر- دار الإنماء عام 2010. وحاز الفقيد السميط أيضا على شهادة تقديرية من مجلس المنظمات التطوعية في جمهورية مصر العربية وعلى جائزة العمل الخيري من الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي للعمل الخيري والإنساني وعلى جائزة الشارقة للعمل التطوعي والإنساني عام 2009.
رحم الله أبا صهيب وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وخالص العزاء لحكومة وشعب الكويت وال السميط ومكلوميه في عموم أفريقيا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
سليم عثمان أحمد