الحق للقوة، والقوة بالحق

كن قويًّا بالحقِّ يعرف لك حقَّك كلُّ أحد: العلم قوة، والعقل قوة، والفضيلة قوة، والاجتماع قوة، والثروة قوة، فاطلب هذه القوى بالحقِّ تنَلْ بها كلَّ حقٍّ مفقود، وتحفظ كلَّ حقٍّ موجود.

  • التصنيفات: طلب العلم -

 

كن قويًّا بالحقِّ يعرف لك حقَّك كلُّ أحد: العلم قوة، والعقل قوة، والفضيلة قوة، والاجتماع قوة، والثروة قوة، فاطلب هذه القوى بالحقِّ تنَلْ بها كلَّ حقٍّ مفقود، وتحفظ كلَّ حقٍّ موجود.

الوالدان يفضِّلان العالم من أولادهما على الجاهل، والغنيَّ على الفقير، والقويَّ على الضعيف، يُكرمانه بذلك بالمكالمة والمعاملة، فيكون بين إخوته الذين هم دونه كأنه من طبقة غير طبقتهم، فهل يلام غيرهما على مثل هذا التفضيل والتكريم.

الإخوة أنفسهم يعتزون بأخيهم القويِّ بالعلم أو المال أو العقل أو الأخلاق أو العصبية، ويفضِّلونه على أنفسهم، وإن كان أصغر منهم سنًّا، ولا يوجد أفراد من الناس بينهم من المساواة مثل ما يكون بين الإخوة، ولا سيما إذا كانوا أشقَّاء، أفلا يكون غيرهم أجدر بتفضيل القوي وتكريمه؟

الجماعات كالأفراد في احترام القوة وحفظ حقوق أهلها، وتكريمهم وتفضيلهم على أمثالهم، سواء كان أهلها أفرادًا أم جماعات، فالعشائر في القبيلة الكبيرة، والعناصر في الأمة العظيمة، تتفاضل فيخضع ضعيفها لقويِّها، ويعترف له بحقِّ التقدم عليه وبغير ذلك من الحقوق، ومكان كلٍّ منهما من الآخر كمكان الأخ من أخيه، فما قولك في القبائل والشعوب الأجنبية بعضها مع بعض، وكلٌّ منها غريب عن الآخر، يرى مصلحته غير مصلحته؟ وربما كانت قوته آفة عليه، لا منفعة له.

القويُّ بأيِّ نوع من أنواع القوَى أكثر حقوقًا من الضعيف؛ لأنه أقدر على كسب الحقوق، فإنما يكسب الناس ما يكسبون بصفاتهم ومواهبهم التي يكونون بها أقوى استعدادًا ممن عداهم.

المباراة والتنازع بين الأقوياء والضعفاء من السنن الاجتماعية في البشر، وأعدل أحوال القويِّ مع الضعيف أن يرضى بحفظ حقِّه الذي يكسبه بقوته من الطرق المشروعة، فلا يبغي على الضعيف بغير حقٍّ مشروع، وأفضلها أن يكون إمامًا له ومرشدًا، وحاميًا له من اعتداء غيره وعضدًا، وشرُّها أن يبغي عليه، ويهضم حقوقه، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24].

إنما كانت المباراة والمنافسة سنة من سنن الفطرة؛ لأنَّ الله أودع في نفس الإنسان حبَّ الكمال والسبق والتفوق، فهو بذلك يزكي نفسه ويطهِّرها من أدران النقائص التي تشينها عند المعاشرين والأقران، وبه يحملها على ما يعدُّ في بيئته من معالي الأمور، وكرائم الشيم، وبه يوسع دائرة وجوده بالنعرة والتعصب والترقية لكلِّ ما ينسب إلى نفسه، كالأهل والعشيرة والقوم، والأمة والدولة والوطن، والمذهب الديني والعلمي والسياسي والصناعة، يباري في كلِّ ذلك من يخالفه وينافسه، ويلحُّ في ذلك، ويبالغ بقدر ما يرى من المزاحمة والمعارضة من المخالفين، فإذا فترت المزاحمة من المخالف فترت الهمة، وضعفت العزيمة، وانحطَّ شأن الأفراد والجماعات والأقوام، فمن استطاع أن يجعل جماعة أو قومًا بمعزل عن المباراة والمنافسة مع غيرهم، فقد استطاع أن يقضي عليهم بالضعف والخمول، وإضاعة الحقوق الموجودة، واكتساب المزايا والفواضل المفقودة.

المباراة والمنافسة من الفضائل، ومعارج الارتقاء للشعوب والقبائل، لولا ما يعرض فيها من البغي، واعتداء حدود الحقِّ والعدل، فلو أنَّ الناس يتبارون في المسابقة إلى الخير والفضل، متحريًا كلُّ فريق منهم أن يكون أكمل من الآخر من غير بغي عليه ولا عدوان لكان ارتقاء البشر أسرع وأقرب، ولكنَّ القوة تغري صاحبها بالطغيان، وتجمح به في البغي والعدوان، فالحقُّ يُكتسب بالقوة، ويحفظ بالقوة.

وأنواع القوة كثيرة -كما أشرنا إلى ذلك في صدر المقالة- ولبعض القوى من الغنى والفائدة في بعض المواطن ما ليس للأخرى، وأعلى القوى وأشرفها وأغناها قوى النفس: العقل والعلم والأخلاق، فإذا وُجدت تبعها غيرها إلا الكثرة، وإذا فُقدت لا يُغني عنها غيرها حتى الكثرة، وإنَّ القويَّ ليُقوِّي الضعيف بمباراته ومعارضته، ويقضي عليه بإهماله ومحاسنته، بأهون مما يقضي عليه بسحقه وإبادته.

الأمثلة لما ذكرنا من الأصول والقواعد الاجتماعية كثيرة، تراها بين يديك في سائر الأقوام وتقرأها في تاريخهم، إنما نسخ الإسلام بعض الأديان، وأضعف البعض الآخر في البلاد التي دخلها بعدم معارضتها، وترك أهله لمنازعة أهلها. وقد حدث في الإسلام مذاهب كثيرة ما بقي منها إلا ما جرى بين أهلها التعارض والتنافس، ولولا بادرة العصبية التي بدرت من المأمون في مقاومة اللغة الفارسية لذابت وتلاشت في اللغة العربية بقوة الإسلام، كما زالت اللغة القبطية من مصر. واضطهدت اليهود في أوروبا قوى الكثرة والسلطة، فلجأ هؤلاء إلى قوة الرأي والحيلة، فقلبوا سلطة الملوك، وصار لهم مكانة عالية في أعظم الممالك الأوروبية وأرقاها.

تزاحمت الشعوب الأوروبية وتنافست، فارتقت وعزَّت، وصار بعضها قريباً من بعض في القوى الكسبية، كالعلوم والفنون والصناعات والأخلاق والاجتماع والاتحاد، وبقي التفاوت عظيماً في قوتي الكثرة والثروة، اتفقوا على تأمين الشعوب الضعيفة بالقلة -كسويسرة- من بغي القوة بالكثرة، وتحالف المتقاربون في القوى الحربية؛ ليأمن القويُّ من بغي الأقوى، فالقاعدة التي بني عليها هذا التحالف هي أن المزاحمة والمنافسة في السبق والتفوق في كماليات الحياة، تقضي بطبعها إلى المناصبة والمقاومة، وهذه تقضي إلى البغي والعدوان، ولا حول دون البغي والعدوان إلا تكافؤ قوى الأقران...

نحن أمة مؤلفة من شعوب شتى، لا جامعة لها كلها إلا اعتقادها أن ارتباط بعضها ببعض يكون لها قوة عامة، يعتزُّ بها كلُّ واحد منها، وتكون مباراته ومنافسته للآخر من غير بغي ولا عدوان سببًا لقوة الوحدة العامة بقوة أفرادها.

يجب أن تتبارى عناصرنا في تقوية أنفسها بالعلم والثروة، وأن يعلم كلُّ عنصر منها أنَّه إذا بقي متخلفًا عن إخوته، فإنَّ أمه الدولة تفضل عليه إخوته من العناصر الأخرى في جميع أعمالها، كما تفضل أُمُّ الأولاد ولدها العالم على الجاهل.. بل أقول إنه ينبغي للولايات وللألوية وللأقضية أن تتبارى وتتنافس في العمران، بل ينبغي للمدن والقرى وللشركة والأفراد في البلد الواحد أن تتبارى في ذلك، فالمباراة هي السائق القوي للارتقاء السريع مع اتقاء البغي من بعضهم على بعض...

وجملة القول: إن هذا العصر هو عصر المباراة والمنافسة، مَن سبق فيه ساد وعلا، ومَن تخلَّف فيه خاب وخسر وامتُهن واحتُقر، فعلى العقلاء من كلِّ عنصر، وفي كلِّ ولاية وكل بلد أن يحثُّوا قومهم على ذلك، وأن تكون وجهتهم فيه ترقية الأمة والدولة بترقية أنفسهم؛ ليكونوا بعلومهم ومعارفهم وثروتهم واجتماعهم حصنهما الحصين، وركنهما الركين.
 

 

محمد رشيد رضا