حديث زوجة لزوجها: أهلي أهلك.

يفارق عيناها النَّومُ رغْم لذَّتِه! فعليْها الاستيقاظ مبكِّرًا، فاليوم غيْرُ عادي وله مهامُّ خاصَّة؛ فهو يوم الزِّيارة لبيْت عائلةِ زوْجها، حيث الحشْدُ الكبير من الإخوة والأخوات والأحْفاد في بيْتِ العائلة، وحيث دِفْء أحضان الجدِّ والجدَّة.
يوم تملؤه البهْجة رغْم الجهد الذي يُبْذَل فيه؛ في إعداد ما لذَّ وطاب من الطَّعام والشَّراب والحلوى، فبهْجة اللقاء تُذهب التَّعب، وتُحيلُه إلى سعادةٍ مغلَّفة بِمتعة الألْفة التي ينعم بِها الجميع. تتفقَّد بنظراتِها الحضور، وتتأمَّل جَمال الابتِسامة المرْتسمة على الشِّفاه، وتفْرح بِرؤية الوجوه التي تعلوها السَّعادة.

وفجْأة! وبلا مقدمات، تتبدَّل ملامح وجْهِها بعد أن فارقتْه الفرحة، وودعت شفاهها البسمة، فقد تذكَّرت حال زوْجِها عندما يزور أهلها! والوقت الطَّويل الذي يقضيانِه معًا في نقاشٍ مُملٍّ حتَّى يقتنِع برفْقتِها إلى زيارة أهلِها! فلا تدري كيف بنى قناعةً تأصَّلتْ فيه بأنَّه غير مطالَب بزيارة أهلها، معلِّلاً ذلك بأنَّه يصِلُ رحِمه فقط، أمَّا أسرتُها، فهي ليست بصِلة رحم له! ويكتفي بأنه يسْمح لها بزياراتِهم من وقتٍ لآخَر؛ كيْ تصِل هي رحِمها، فهو يرى أنَّ مشاغِله والعمل على زيادةِ كسْبِه أوْلى من قضاء الوقْت في زيارات ثانويَّة بالنسبة له.

انتبهتْ من شرودِها الذي طال بها دون أن تدري، حيثُ تهيَّأ الجميع للانصراف إلى منازلهم، وتنبَّهت أنَّها لم تشارك الحضور وقتَ السَّمر الجميل، ولم تُشاهد لهْوَ الأطفال ومرحَهم الذي يزيد اليوم بَهْجة، وتمنَّت ألاَّ يكون قد لوحظ عليها شرودها؛ فهي تحرص على حبِّها لأهْل زوجِها وحبِّ أهل زوجِها لها، وقد كان لها ما تمنَّت، فلم تلحظ تغيُّرًا في حرارة الوداع من الجميع، كما لم تلحظ تغيُّرًا في الوعد باللقاء القادم الذي يقطعُه الجميع على أنفسهم.

ولم تلبث السيارة أن تقطع منتصف الطريق، حتَّى شقَّت كلماتُها جدار الصَّمت قائلةً لزوجِها: "كان وقتًا جميلاً، انقضى سريعًا في السَّمر مع الأهل وصحبة ذوي الأرحام، كم أغبِطك في الله يا أبا أحمد!" ثم استرسلت بصوتٍ خافتٍ: "كم تشتاقُ عيْني لرؤيتِك جالسًا مع أبي وأمِّي وإخوتي، وأراك على أرْيَحيَّتك كما رأيتك اليوم! كم أتمنَّى أن توطِّد علاقتك بأهلي، فأهلي هم أهلك، أليس كذلك؟!"

طأطأ رأسه متمتمًا بشفتَيْه: "أليس ذهابُك وحدك يكفي؟! تعرفين كثرة مشاغلي وضيق وقتي." بادرته بشيء من الرضا: "بلى، وجزاك الله خيرًا، فأنا أعلم جَميل خُلُقك، وطيب مسلكك، وحرصك على طاعة الله، ولكن ألا تتذكَّر معي قوْل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حيث قال: «تزوَّجوا الودود الولود»، ثُم قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:228]، وقياسًا على ذلك: أليس من حقِّي أن تُذيقَني سعادة الدِّفْء الأُسري، وأن تُسعد نفسي بأُلفتِك مع أهلي، ورؤيتي لك ابنًا لهم كما أعتبِر نفسي ابنةً لوالديْك؟! آه! لو تعلم كم يحبُّك أبي وأمِّي وإخوتي! ويشتاقون للقائك! ويرغبون في قضائِك وقتًا طيِّبًا معهم! كثيرًا ما يتحدَّثون بذلك أثناءَ زيارتي لهم أنا والأولاد، فأنت دائمًا كالابن الغائب الذي ينتظرون عوْدته".

تتهيَّأ للنزول من السيَّارة لطَرْق باب بيْت والديْها، فاليوم يوم زِيارتِها هي وأولادها لهما، تسابق الأولاد مهلِّلين بطرقاتهم وندائِهم على مَن بالدَّاخل، من أبناء الخالات والأخوال، فاليوم يوم مرح جديد لهم، وقبل دخولها البيت تلفَّتتْ لتُلقي السَّلام على زوْجِها قبل أن يكمل مسيرَه، إلاَّ أنَّها فُوجئت بنزولِه من السيَّارة لاحقًا بها مبادرًا بالاستئْذان والدُّخول، لمعت في عيْنِها الفرحة، وأضاءت السَّعادة وجهَها، قرأ ما تقوله عيْناها، همس بحبٍّ مُجيبًا عليها: "أليس أهلُكِ أهلي؟!".


فاطمة محمود عليوة