بيان علماء السودان بشأن الأحداث في بلادهم

أشعلت قرارات الحكومة السودانية الخاصة بإلغاء الدعم عن المحروقات مظاهرات غاضبة في المدن السودانية بغية المطالبة بإلغاء تلك القرارات لكن الحزب الحاكم رفض الضغوط الشعبية وقال: "إن الحكومة التي يقودها لن تتراجع عن قراراتها"

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


أشعلت قرارات الحكومة السودانية الخاصة بإلغاء الدعم عن المحروقات مظاهرات غاضبة في المدن السودانية بغية المطالبة بإلغاء تلك القرارات لكن الحزب الحاكم رفض الضغوط الشعبية وقال: "إن الحكومة التي يقودها لن تتراجع عن قراراتها"، واستخدمت قوات الأمن السودانية القوة لتفريق احتجاجات حاشدة خرجت في الخرطوم لليوم السادس على التوالي عقب الإعلان عن تشكيل جبهة موحّده تحت اسم تنسيقية قوى التغيير السودانية بقيادة أحزاب المعارضة وتجمعات أهلية.

وتضم الجبهة: تحالف شباب الثورة السودانية وقوى الإجماع الوطني والنقابات المهنية وتحالف منظمات المجتمع المدني. وبالرغم من وجود تضارب حول العدد الحقيقي للقتلى إلا أن البيانات الرسمية تبين أن العدد بلغ 33 شخصاً بالإضافة إلى اعتقال 60 آخرون، وتواصل الحكومة التزام الصمت حيال هذه الاحتجاجات التي لم تشهد اتساعاً مماثلاً منذ تسلُّم الرئيس البشير الحكم في 1989م، لكن المدارس أغلقت حتى الاثنين.

ووصفت الصحافة العالمية هذه المظاهرات، التي أخذت منحى عنيفاً وتسبّبت في إتلاف وإحراق ممتلكات عامةٍ وخاصة، بأنها الأوسع منذ تولي نظام الانقاذ السلطة في انقلاب عسكري في السودان عام 1989م.

وقام آلاف المحتجين بإحراق سيارات ومحطات وقود وتصاعدت أعمدة الدخان وسط مدينة الخرطوم. ولم تصدر حتى الآن أي دعوات من القوى السياسية أو الناشطين لتنظيم مظاهرات جديدة غير أن هناك احتمالات بخروج مسيرات، خصوصاً لأن مظاهرات الأيام الماضية خرجت بشكلٍ عفوي ومن داخل الأحياء السكنية.

وفي ظل استمرار هذه الحالة من الغضب الشعبي دعت الرابطة الشرعية لدعاة وعلماء السودان النظام الحاكم إلى وقف أشكال العنف اتجاه المدنيين وطالبت بتشكيل حكومة كفاءات وطنية يمتلك أعضاءها الأمانة والعلم، كما طالبت بمحاربة الفساد المتغول داخل مؤسسات الدولة، وشدَّدت على تطبيق أحكام الشريعة وعدم الاكتفاء بإطلاق الشعارات، وإليكم البيان كما ورد:

البيان الأول حول الاحتجاجات الشعبية بالسودان:

الحمد لله القائل: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58].

والصلاة والسلام على رسوله القائل: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» (رواه مسلم).

أمّا بعد،
فإن الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان تراقب عن كثب تفاصيل ما يجري في البلاد من السياسات والإجراءات التي تتخذها الحكومة الحالية، حيث أفضت إلى زيادة معاناة الناس في معايشهم، فاستحكم الغلاء الفاحش وبلغ سيل الفقر زباه، ونفد صبر العباد، فإذا بهم يخرجون ثائرين ناقمين غاضبين مطالبين بحقوقهم في العيش الكريم، لما ضاقت بهم الأحوال، فكانت الفاجعة الكبرى والعنف المنظم الذي أعمل الفساد والتخريب وإزهاق أرواح العُزَّل المكلومين.


وفي هذا الظرف الحرج الذي تمرّ به البلاد تتقدم الرابطة بهذه النصيحة الموجزة للحكومة الحالية، إعذاراً إلى الله تعالى وبياناً للحق ودعوة للإصلاح والتغيير وتنبيهاَ على المخاطر التي تُهدِّد أمن السودان واستقراره ووحدة ماتبقى من أراضيه، وكلنا مشفقون مما آل إليه أمر البلاد ولا مرام لنا سوى إرادة الخير للعباد والبلاد، فنقول سائلين الله أن يجعل قولنا قولاً سديدا:

أولاً: اعلموا يا حكام السودان؛ أنّ الدهر دول، والأيام قُلّب، ولوبقيت الدنيا لمن قبلكم لما وصلت إليكم، ولو بقي الملك في يد السابقين، لما وصل إلى اللاحقين، يقول الله عز وجل: {تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران من الآية:140].

فيومٌ علينا، ويومٌ لنا ويومٌ نساءُ، ويوم نسر.

واعلموا أنّ الأمارة حسرة وندامة يوم القيامة، والحاكم الذي وليَ أمر الرعية، الواجب في حقه أن يستمع إلى رعيته، فإن احتجب عنهم عوقب يوم القيامة، باحتجاب الله عنه، فعن أبي مريم الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئا، فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم، احتجب الله عنه يوم القيامة، دون خلته وحاجته وفاقته وفقره» (أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم بإسناد صحيح).

ثانياً: إن ما حصل من الخلل والتدهور في اقتصاد البلاد مردُّه إلى أسباب نوجزها فيما يلي:

- السبب الرئيس تغييب شرع الله عن دنيا الناس والاكتفاء فقط بالشعارات، وأيم الله هذا لا يضر بدين الله الحق، وإنما يحيق الخسف والذل بمن اتخذه هزؤا ولعباً ودغمسة قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85].

- تساهل الحكومة في التعامل مع الأزمات وغياب الرؤية الواضحة لحل الأزمة أو تخفيفها.

- تغليب المصالح الفردية ومصالح الحزب الحاكم على مصالح البلاد وأهلها.

- الاستبداد بالرأي والقرار في القضايا المصيرية وغلبة منطق: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} [غافر من الآية:29].

- الاصرار على الاستزادة والاستكثار من القروض الربوية، والبحث عن المبرِّرات الواهية لاستحلاله.

- اتخاذ سياسة التغافل والتجاهل لكل مظاهر الفساد الأخلاقي والسلوكي، لإغراق أكبر قدر من الشعب في الشهوات والملذات، وهذا واضح بيّن في الشوارع والطرقات والشواطيء والأسواق والجامعات المختلطة، ناهيك عن الحفلات الغنائية الماجنة في أكبر الأندية الرسمية المحمية بسلطة الحكومة.

ثالثاً: نضع بين يدي الحكومة هذه النصيحة الموجزة لعلها تكون مخرجاً من الأزمة الحالية وسبيلاً لإصلاح مايمكن إصلاحه وتداركه.

- التوبة إلى الله جل وعلا حكاماً ومحكومين وتحقيق العدل والإحسان الذي أمر الله به والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأن يشمل العدل والإحسان كافّة أهل البلاد مُسلِمهم وكتابيهم ونؤكد مرةً أخرى أن العدل والإصلاح لا يمكن أن يتم إلا بتطبيق الدولة لشرع الله تعالى، إذ لا شرعية لحاكم ولا سمع ولا طاعة إلا بتحكيم شرع الله، فالمحسوبية والفساد الإداري والمالي والفوضى المنهجية وغياب دولة المؤسسات وإبعاد شرع الله والنهج الإسلامي الصافي قد أضرّ بالسودان حتى أصبح اليوم من أضعف الدول وأفقرها وأكثرها اضطراباً.

- الإسراع في تشكيل حكومة من ذوي الكفاءات والخبرة معيارها القوة والأمانة والعلم، قال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وقال: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص من الآية:26].

وظيفتها القيام برصد الاصلاحات والحلول وإعادة هيكلة الحكومة على أسس علمية بعيدة عن الولآءات. مع التأكيد على وجوب استبعاد كل من له موقف أو سابقة من رفض أو انتقاص أو شك أو ارتياب في أحكام الشريعة الاسلامية.

- ايقاف كافة الاجراءات الاقتصادية التي أضرّت بكافة أفراد وشرائح المجتمع بما في ذلك حزمة الإجراءات الأخيرة ووضع معالجات فعالة وعاجلة لتجنيبهم أي ضررٍ يلحق بهم، والدعوة لمؤتمر اقتصادي عاجل من الخبراء الاقتصاديين المستقلين لمراجعة السياسة التقشفية الحكومية وأوجه الانفاق والبدائل المتاحة وتقديم توصيات اقتصادية ملزمة للحكومة.

- يجب على الحكومة أن تلتزم قول الله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة من الآية:83]. وقوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء من الآية:53]. وعليها أن تتجنب في خطاباتها التسفيه والتهميش لمطلب ورغبات الشعب واستفزاز مشاعرهم.

- على القوات النظامية من شرطة وجيش والأجهزة الأمنية مراعاة حرمة الدماء وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ففي الصحيحين عن ابن مسعود عند النسائي بسندٍ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: يا ربّ هذا قتلني, فيقول الله: له لم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العِزّة لك. فيقول. فإنها لي. ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: إن هذا قتلني، فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العِزّة لفلان. فيقول: إنها ليست لفلان. فيبوء بإثمه». ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» (أخرجه النسائي؛ [7/82]، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما).

- كما ونُحذِّر الكل من استغلال الأحداث للزج بدماء الناس في مغامرات سياسية إذ التلاعب بدماء المسلمين والأبرياء من أعظم الموبقات: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً» (أخرجه البخاري).

وقد روى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض». خاصةً ونحن في الأشهر الحرم التي كان الجاهليون من العرب يكفون عن القتال فيها قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة من الآية:36]، وعلى الحكومة أن تتحمل ديات القتلى الذين تسببت في إزهاقهم وتحمل إرش الجرحى والمصابين، وفتح تحقيق عاجل وشامل في هذه الأحداث لمعرفة من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء ومحاكمتهم ومعاقبتهم. والله المسؤول أن يرحم من قتل في هذه المعمعة من المظلومين.

- تحريم الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، فكما أن الدماء معصومة فكذلك الأموال معصومة وإن رُوِّج لإتلافها سراً بالدعايات السياسية البرَّاقة، والشعارات المشعوذة، قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في خُطبته يومَ النَّحْر في حجَّة الوداع: «إنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحُرْمة يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدكم هذا، حتى تلقوا ربَّكم، ألاَ فلْيُبلِّغِ الشاهدُ الغائب» (رواه مسلم وغيره)، ولا بد في هذا من تعويض كل المتضررين من عمليات التخريب.

- ايقاف القروض الربوية التي درجت عليها الحكومة لِما في الربا من محق للبركة فالله تعالى يقول: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة من الآية:276]. ومن أكبر الشواهد على مضار الربا ما كان في سدّ مروى وسُكّر النيل الأبيض، فلا الكهرباء انخفض سعرها ولا السُكّر استقرت قيمته بل وازدادت البلاد فقراً وضيقاً، وقد أبدت الرابطة الشرعية النصح في ذلك فلم يُسمع لها، ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً.

- الإعلان بشفافية ووضوح عن كل المنح والهبات الدولية وأوجه صرفها وبيان المشروعات التي خصصت لها، وكشفها لأهل البلاد قبل أن يكتشفوها بنفسهم، وإيجاد الآليات الشعبية لتنفيذ البرامج التنموية بعيداً عن المساومات الحزبية، والمصالح الفردية.

- الإيقاف الفوري لسياسة توسيع الضرائب والإتاوات والرسوم وغيرها، فهي سياسة فاشلة، لاسيما إذا كانت تذهب لرفاهية البعض وشقاء غالبية أهل البلاد.

- إعادة النظر في هياكل الحكم المحلي وأجهزته وموظفيه، وتضييق دائرة التوسُّع والترهُّل، وإحكام الرقابة على المال العام وكف يد العابثين الذين ضاعفوا ميزانية الصرف في التحسينيات، وأثقلوا كاهل أهل البلاد.

وختاماً:

إن الواجب على قيادات الأمّة من العلماء والدعاة والمصلحين من أصحاب الرأي والفكر القويم القيام بواجباتهم الشرعية والعملية في النهوض بأمّتهم، وتوجيهها نحو أعدل السبل وأقوم الطرق، في مقاومة الظلم والاستبداد وأن لا يخافوا في ذلك لومة لائم وإن علينا جميعاً أن نتوب إلى الله تعالى ليكشف عنا الضر والبأساء {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} [الأنعام من الآية:43].

والحمد لله ربّ العالمين.

الأمانة العامة
 

المصدر: مجلة البيان