فرصة للتغيير

لا يبقى الإنسان في هذه الدنيا على حال واحدة، فهو في تغير دائم ومستمر، فتارةً تصفو فيها نفسه وترقّ مشاعره وتحلق روحه، فتراه في أحسن حال مع الله تعالى، وتارةً تأخذه هذه الدنيا في متاهات دروبها وتعرجات طرقها، فتتعثر منه الخطوات وتكثر الهفوات والزلات، فتضيق نفسه ويقسو قلبه وتتبلّد مشاعره.

  • التصنيفات: تربية النفس -


لا يبقى الإنسان في هذه الدنيا على حال واحدة، فهو في تغير دائم ومستمر، فتارةً تصفو فيها نفسه وترقّ مشاعره وتحلق روحه، فتراه في أحسن حال مع الله تعالى، وتارةً تأخذه هذه الدنيا في متاهات دروبها وتعرجات طرقها، فتتعثر منه الخطوات وتكثر الهفوات والزلات، فتضيق نفسه ويقسو قلبه وتتبلّد مشاعره.

ولا شك أن المسلم يرجو أن تدوم له ساعات الصفاء والقرب من الله تعالى فلا تنقطع، كما يتمنى أن تزول عنه لحظات قسوة القلب وبعده عن الله تعالى، ولكن دوام الحال من المحال كما يقال.

لقد عبّر بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الحالة من خلال رغبتهم استمرار حالة القرب الدائم من الله تعالى، فقد ورد أن حنظلة الأسيدي -وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعةً وساعة» ثلاث مرات" (صحيح مسلم: [4/2106]؛ برقم: [12]).

ولا يخلو مسلم في هذه الدنيا من هذه الحالة التي وصفها حنظلة وأبو بكر رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لا يخلو مسلم في هذه الدنيا من ذنبٍ اقترفه يرجو مغفرته، ومن سيئةٍ ارتكبها يتمنى محوها، فـ «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطَّائين التوّابون» كما قال صلى الله عليه وسلم.

ومن رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة والإنابة، وأتاح لهم فرصة الرجوع إليه بعد ارتكاب الأخطاء والذنوب، بل وفرصة تغيير الذنوب إلى حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وهي فرصة عظيمة لم تكن لغيرنا من الأمم من قبل، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54].

ولا شك أن توبة العبد من ذنوبه وأخطائه تحدث في نفسه تغييراً وأي تغيير، فهو ينتقل من حالة الشقاء التي لاتنفك عن المعصية، إلى حالة السعادة والهناء الملازمة للطاعة والعبادة، وقد جعل الله تعالى لذلك التغيير أوقاتاً خصّها بعظيم عفوه ومغفرته، وانتقاها لمنحه وعطائه، واصطفاها بمزيد رحمته وفضله، فهي بمثابة الفرصة الذهبية للتغيير المنشود في النفس البشرية.

ولعل من أعظم الأوقات المباركة التي حباها الله تعالى بكثير من النفحات والبركات والرحمات، ما نحن مقبلين عليه من أيام عشر ذي الحجة، تلك الأيام والليالي المباركة التي أقسم الله تعالى بها بقوله: {وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ . وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1-3]، والمراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ولا يُقسِم الله تعالى إلا بشيء عظيم كما هو معلوم.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل هذه الأيام والليالي ومكانتها عند الله: «من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر»، فقالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» (سنن أبي داود؛ [1/741]؛ برقم: [2438]، وصححه الألباني).

وإذا أكرم الله تعالى المسلم بالحج إلى بيت الله تعالى في هذه الأيام، فهو فضل عظيم ومنة كبيرة، فأعمال الحج ومناسكه من أفضل القربات والطاعات، ولكن الله تعالى جعل لكل من لم يتيسر له الحج هذا العام أعمالاً يقوم بها في هذه الأيام، حتى لا يفوته الفضل ولا تتجاوزه نفحات هذه الأيام المباركة، ولعلي أجمل ما يمكن أن يفعله المسلم في هذه الأيام ببعض النقاط، لعل الله تعالى أن يغفر لنا ويتقبلنا ويكرمنا بالتغيير نحو طاعته وعبادته:

1- التوبة الصادقة النصوح إلى الله تعالى، فإذا كانت التوبة والإنابة إلى الله في كل وقت واجبة، فإنها في الأوقات المباركة أشد وجوباً وأكثر استحباباً وأدعى للقبول، وهي فرصة ومنحة إلهية للتغيير في حياتك فلا تفوتها.

2- الصيام في أيام ذي الحجة التسعة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها فضل عظيم وثواب كبير، فقد ورد عن بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ تِسْعَ ذِى الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ" (سنن أبي داود؛ [2/301]، برقم: [2439] وقال الألباني: "صحيح").

3- من لم يستطع صوم الأيام التسع فلا أقل من صيام يوم عرفة، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ» (رواه مسلم؛ برقم: [2804]).

4- الإكثار من ذكر الله تعالى بكل أصنافه وألوانه، فقد قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الأيام المعلومات أيام عشر ذي الحجة" (تفسير ابن كثير؛ [5/415]).

ويستحب الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد، فقد ورد في مسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»" (مسند الإمام أحمد؛ [2/131]).

أيام وليال مباركة طيبة فلا تدعها تفوتك دون أن تحدث فيها تغييراً في حياتك وعلاقتك مع الله تعالى، فمن المعروف أن هذه الفرصة إذا فاتت فلن تعود إلى السنة القادمة، وهل يضمن أحدنا حياته إلى الغد؟!



عامر الهوشان