الواجب على أهل العلم

الواجب على أهل العلم أن يفعلوا ما يقولون حتى يكونوا صادقين في أقوالهم؛ فلا يتهمهم الناس بالنفاق، ويكونوا قدوة لغيرهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].

  • التصنيفات: طلب العلم -


الواجب على أهل العلم أن يفعلوا ما يقولون حتى يكونوا صادقين في أقوالهم؛ فلا يتهمهم الناس بالنفاق، ويكونوا قدوة لغيرهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].

يجب على العلماء عدم البخل بعلمهم؛ لأن كتمان العلم له من الآثار السلبية التي تعود بالضرر على المسلمين والناس جميعًا؛ حيث يؤدي الكتمان إلى قلة العلم، ويزداد الجهل؛ لأن العالِم البخيل بعلمه يكتم جزءًا من هذا العلم؛ فيأخذه طالب العلم ناقصًا، فتنتشر الفوضى في المسائل والأحكام؛ لأن الناس لا يجدون مَن يُجِيبهم على المسألة والحكم كاملاً، فلا يجدون مَن يدلهم على الجواب الصحيح؛ فتحدث فوضى، ويترتب على هذه الفوضى هدم الدين؛ لأن الأساس بدأ يتآكل، وعلى ذلك فكتمان العلم من النواهي التي يبنى عليها الفساد وهدم الدين، فكان عاقبة ذلك النار؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن سئل عن علمٍ فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (رواه أبو داود والترمذي، حديث حسن).

وكان الصحابة يخافون من كتم أي علم أخذوه من الرسول صلى الله عليه وسلم فانظروا إلى حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه فقد حدَّث أنس بن مالك "أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذٌ رديفُه على الرَّحْل، قال: «يا معاذ بن جبل»، قال: "لبيك يا رسول الله وسعديك"، قال: «يا معاذ»، قال: "لبيك يا رسول الله وسعديك"، ثلاثًا، قال: «ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه إلا حرَّمه الله على النار»، قال: "يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟" قال: «إذًا يتكلوا»، وأخبر بها معاذ عند موته تأثُّمًا" (رواه البخاري).

ويجب على أهل العلم التقرُّب من الناس، وأن يكونوا بجوارهم في كل شيء كالمناسبات وغيرها وعدم التكبر عليهم؛ لأنه يترتب على ذلك حب الناس لهم، ومن هذا الحب يتقرب الناس من العلماء؛ فيتعلمون منهم، ويسمعون منهم، كما كان يفعل الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانوا لا يتركونه أبدًا إلا عندما يدخل بيته، وظهر هذا جليًّا مع أبي هريرة رضي الله عنه فكان ملازمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان ثمرة ذلك أنه أكثر الصحابة روايةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم فبسبب هذا التقرب بين العلماء والناس ينتشر العلم، وإذا انتشر العلم فسيأتي النصر بإذن الله على أعدائنا، وبسبب التقرب تأتي الأُلفة بين العالِم والناس، فإذا أمرهم بخير فعلوه، وإذا نهاهم عن شرٍّ لم يفعلوه؛ لأن السمع والطاعة لا يأتيان إلا من خلال الودِّ والمحبة، فمَن أحب إنسانًا، فلا يعصيه فيما يأمره أو ينهاه، ولن يتوقَّف الأمر عند هذا الحد؛ فإن الألفة بين الناس والعالم ستنتقل بين الناس أنفسهم؛ فينشأ ترابط بينهم؛ لأنهم يجتمعون كثيرًا عند العالم الذي يحبونه، ويلازمونه لمحبتهم إياه، ويسألون بعضهم بعضًا عن المسائل والأحكام، وإذا غاب أحدهم سألوا عنه؛ فيزداد الترابط والمحبة بين الناس جميعًا، ومن هذا الترابط يصبحون كالبُنْيَان الواحد، لا تفرقهم عصبية أو مال أو دنيا، ولن يصبحوا شِيَعًا متفرِّقة، فمن الترابط يأتي النصر؛ لأنه كما يعلم الجميع أن هزيمتنا في الوقت الحالي جاءت نتيجة تفرقنا.

ويجب على العلماء التصدي لكل فاسد منافق، يسعى لإحداث خلل في الدين، أو تشويه الدين؛ مثلما يقوم به العلمانيون والسفهاء من الحاقدين على الإسلام وأنصاف العلماء؛ حتى لا نتركه عرضة لكل مَن هب ودب؛ ليعلم أن هناك رجالاً يحصدون ألسن الجهال بسيوف العلم، ويقضون على آفات اللسان التي تنهش في دين الله بلا خوف أو خشية؛ فالجهلاء إذا رأوا رجالاً بهذا الحجم الكبير من العلم، لن يستطيعوا أن يفكروا في التكلم في الدين أصلاً، فضلاً عن تشويه الدين، فالخُبَثاء أمثالهم كثيرون، وقد ازدادوا نتيجة عدم وجود مَن يرد عليهم بصدق وبحجة دامغة تشل حركة فكرهم العقيم، الذي يأتي من سهام مسمومة، تسعى لوأد الإسلام من جذوره، ولكن مع وجود علماء - يُجهِزون على الخبثاء، ويقضون على أفكارهم يتطهَّر المجتمع من أمثال هؤلاء، وسيرجعون خائبين خانعين رؤوسهم، أو يعودون إلى رشدهم، ويعلمون أن الإسلام حق، وكل ما فيه خير للناس جميعًا، فيقفون صفًّا بجانب العلماء يواجهون الأعداء بكل ما أوتوا من قوة.

كما يجب على العلماء نقل العلم كاملاً لطلاب العلم؛ لينقلوه للناس غير منقوص؛ حتى لا يحدث كما قلنا خلل في الدين؛ لأن الإسلام إذا أخذته بكل ما فيه أخذت الخير كله، وإذا أخذت جزءًا منه أخذتَ جزءًا من الخير، وتركت الباقي فيدخل الشر مكانه وهكذا.

ويجب على أهل العلم أن يكونوا قريبين من الواقع الذي يعيشه المسلمون، فلا يتكلموا عن الزكاة في وقت الجهاد، أو الجهاد في وقت الحج، أو الحج في وقت الصيام، بل لكل مقام مقال؛ حتى لا يتهمهم أحد بأنهم في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر.

يجب على أهل العلم قول الحق ولو أغضب غيرهم، فلا ينظرون إلى رد غيرهم، بل ينظرون إلى رد ربهم الذي سيحاسبهم على قولهم؛ فإن من العلماء مَن يُرضِي السلطان، ولا يرضي رب السلطان، ومنهم مَن يُرضِي منصبه ولا يرضي الله تعالى القادر على محوِ منصبه، ومنهم مَن يُرضِي هواه من أجل مال أو مجد شخصيٍّ، ولا يرضي الله الباقي الذي يقضي على المال وخزائنُه لا تنفد، قول الحق يميز العالِمَ المخلِص من العالم الذي يسعى وراء دنيا؛ فالعالم الحق يقول الحق ولو على حساب نفسه، والعالم الباطل يقول الباطل ولو على حساب دينه، ومع ذلك فإن الباطل مهما علا فإن الفناء له، قال تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى:24]؛ فأصحاب العلم الباطل نَسُوا أن هذا العلم سيكون عليهم لا لهم؛ لأنهم تمسكوا بإرضاء أنفسهم فأهلكوا أنفسهم بأيديهم، تمسكوا بدنيا فانية لا خير فيها، ولكن الخير في الحق الذي يقال فيها؛ قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36]، فمَن يقول الباطل لأجل دنيا؛ فهو متاع زائل لا قيمة له؛ لأن ما عند الله تعالى خير وأعظم أجرًا، وهذا الخير لن يكون إلا للمؤمنين فقط، الذين يقولون الحق ولو على أنفسهم؛ لذلك لن يخذلهم الله أبدًا في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا النصر دائمًا، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وفي الآخرة خير لا يعلمه إلا الله تعالى؛ فعلى أهل العلم قول الحق، وألاَّ يخافوا في الله لومة لائم.

وللأسف نرى بعض العلماء جعلوا لهم قانونًا خاصًّا، وقالوا: "مَن خاف سَلِم"؛ فأخذوا الخوف سلاحًا لأمانهم، أخذوه للطمأنينة وراحة البال، وبهذا القانون تمادوا في الخوف، وفرطوا فيه حتى ورثوا البلادة والجبن، أو نسوا أن قول الحق مهما كان مصيره إلا أنه سلاح الأمان الحقيقي، والخوف الحقيقي هو الخوف من الله تعالى وليس من عباد الله تعالى فالخوف من الله تعالى هو سلاح الأمان، والخوف من البشر هو الضلال البعيد بعينه، فكيف نخشى من قول الحق؟! حتى لو دخلنا في معارك قد تُهلِكنا معنويًّا وحسيًّا في الدنيا، فإن الله سيعوِّضنا في الآخرة، وانظروا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقول الحق، مع أنه كان يعرف أنه سيُسجَن بعدها، وانظروا إلى الإمام أحمد بن حنبل قال الحق في محنة "خلق القرآن"، وسُجِن وعذِّب إلا أنه كان لا ينظر إلى عذاب الدنيا، ولكن كان ينظر إلى عذاب الله تعالى!

أما أصحاب الخوف من البشر، فقد أضاعوا الحق بسكوتهم، وازداد الباطل بصمتِهم، فخافوا من الخوف نفسِه، فجنوا ثمرات الضلال، ويحسبون أنهم الفائزون بخوفهم، وامتلأ الجبن بداخلِهم؛ فأضاعوا أنفسهم وأضاعونا معهم، ففرطوا في الشجاعة التي كانت بداخلهم، وقطن بدلاً منها الجبن، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن، فقال: «اللهم، إني أعوذ بك من الجبن والبخل»، فالصامتون عن قول الحق تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، وإذا دعوتهم لخير لا يُجِيبون، فلهم أرجلٌ لا يمشون بها خوفًا من الهلاك، ولهم أيدٍ لا يبطشون بها خوفًا من قطعِها، ولهم أعينٌ لا يُبصِرون بها خوفًا من ذَهابِها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها خوفًا من ضياعها وسماع ما يُهِينهم، وإذا خاطبتهم لا يردون إلا إذا أخذوا الجواب من شياطينِهم، ويقولون: "مَن خاف سَلِم"، فخافوا من كل شيء فأضاعوا الدين والعلم معًا؛ أيديهم لا تستطيع البطش ضد الظلم، وللأسف استخدموا أيديهم للتذلل لأوليائهم من شياطين الإنس والجن، ألسنتهم لا تستطيع قول الحق، وللأسف استخدموها في قول الباطل والتوسل لأوليائهم من الظالمين؛ ظانِّين أن أولياءهم سيقضون حوائجهم، وناسين أنه مَن كان الله تعالى وليَّه، فهو السعيد في الدنيا والآخرة.

إن أهل العلم الخائفون من غير الله صمٌّ بكمٌ عميٌ لا يعقلون، وهؤلاء هم أهل الباطل؛ لأنهم يخشون من مخلوق، ولا يخشون الخالق، ومَن كان يخشى الله تعالى فهم أهل الحق، والله تعالى يثبِّتهم في الدنيا والآخرة، هم أهل الشجاعة لا يخافون لومة لائم، ولو لم يجنوا خير الدنيا؛ لأنهم سيجنون خير الآخرة، الخائف من الخالق قد ذابت الغشاوة من عينيه، وأصبح من المعدودين الذين استجابتْ لهم العزة والكرامة بالنهوض وعدم الذل والإهانة، واستجابت له القوة بخضوعها تحت أمره، والخائف من مخلوقٍ، فهو ما زال في متاهات الدنيا، وتحت سلطان الشيطان، إدراكه بواقعه سطحي، وعقله يغوص في مياهٍ راكدة من آلاف السنين؛ لأنه يخشى من مخلوق، ولا يخشى من خالقه؛ فهو فاسد العقيدة وفاسد العلم، مَن يخشى الله تعالى إنما هو العالم الحق، الذي أدرك الحياة الصحيحة السليمة، والبعيدة عن الشبهات، والتي يرضى بها لا طمعًا فيها ولا في شهواتها، عقله وقلبه استوعبا حقيقةَ خالقه، وعَرَف أنه القادر والقاهر، فالخوف إحساس يقتضيه الظاهر، ولا يدركه إلا مَن أدرك النظام الحيوي وما به من مفارقات ومقارنات، فهل أدركت الخوف وعلمت حقيقته المادية والمعنوية؟ فيا علماء الإسلام، لا تخافوا من قول الحق لنصرة دين الله تعالى حتى تعيشوا أعزاء لا أذلاء، تعيشوا أغنياء لا فقراء.

قال ابن القيم في الفوائد: "فائدة جليلة: كل مَن آثر الدنيا من أهل العلم واستحبَّها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات؛ فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا، فإذا كان العالم والحاكم محبينِ للرياسة، متبعين للشهوات؛ لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به ولا شبهة فيه؛ أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، وقال تعالى فيهم أيضًا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف:169]؛ فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرَض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم، وقالوا: {سَيُغْفَرُ لَنَا}، وإن عرَضَ لهم عَرَضٌ آخر أخذوه؛ فهم مصرُّون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق؛ فيقولون: هذا حكمه وشرعه ودينه، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه؟! فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه!

وأما الذين يتقون، فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا؛ فلا يحملهم حب الرياسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة، وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة، ويستعينوا بالصبر والصلاة، ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها، والآخرة وإقبالها ودوامها.

وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمرانِ؛ فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة، والسنة بدعة؛ فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات.

وهذه الآيات فيهم إلى قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرض وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175-176]؛ فهذا مثل عالِم السوء الذي يعمل بخلاف علمه.

وتأمَّل ما تضمنته هذه الآية من ذمِّه؛ وذلك من وجوه:

أحدها: أنه ضلَّ بعد العلم، واختار الكفر على الإيمان عمدًا ولا جهلاً.

وثانيها: أنه فارق الإيمان مفارقةَ مَن لا يعود إليه أبدًا؛ فإنه انسلخ من الآيات بالجملة، كما تنسلخ الحية من قشرها، ولو بقي معه منها شيء لم ينسلخ منها.

وثالثها: أن الشيطان أدركه ولحقه؛ بحيث ظفر به وافترسه؛ ولهذا قال: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}، ولم يقل: تَبِعه؛ فإن في معنى "أتبعه" أدركه ولحقه، وهو أبلغ من "تَبِعه" لفظًا ومعنى.

ورابعها: أنه غوى بعد الرشد، والغي: الضلال في العلم والقصد، وهو أخصُّ بفساد القصد والعمل؛ كما أن الضلال أخصُّ فساد العلم والاعتقاد؛ فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإن اقترنا فالفرق ما ذكر.

وخامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم، فكان سبب هلاكه؛ لأنه لم يرفع به، فصار وبالاً عليه، فلو لم يكن عالمًا كان خيرًا له وأخف لعذابه.

وسادسها: أنه سبحانه أخبر عن خسَّة همته، وأنه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى.

وسابعها: أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس، ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض، وميلٍ بكليته إلى ما هناك، وأصل الإخلاد اللزوم على الدوام؛ كأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض، ومن هذا يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به، قال مالك بن نُوَيرة:
 

بِأَبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قَبَائِلِ مَالِكٍ *** وَعَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ أَقَامُوا فَأَخْلَدُوا


وعبَّر عن ميله إلى الدنيا بإخلاده إلى الأرض؛ لأن الدنيا هي الأرض وما فيها وما يستخرج منها من الزينة والمتاع.

وثامنها: أنه رغب عن هداه واتبع هواه؛ فجعل هواه إمامًا له، يَقتدي به ويتبعه.

وتاسعها: أنه شبَّهه بالكلب، الذي هو أخس الحيوانات همة، وأسقطها نفسًا، وأبخلها وأشدها كلبًا؛ ولهذا سمي كلبًا.

وعاشرها: أنه شبَّه لهثَه على الدنيا، وعدم صبره عنها، وجزعه لفقدها، وحرصه على تحصيلها بلهث الكلب في حالتي تركه، والحمل عليه بالطرد وهكذا، هذا إن ترك فهو لهثان على الدنيا، وإن وعظ وزجر فهو كذلك؛ فاللهث لا يفارقه في كل حال، كلهث الكلب.

قال ابن قتيبة: "كل شيء يلهثُ فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب؛ فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال الري، وحال العطش؛ فضربه الله مثلاً لهذا الكافر، فقال إن وعظتَه فهو ضالٌّ، وإن تركته فهو ضال؛ كالكلب إن طردتَه لهث، وإن تركته على حاله لهث، وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وذلك أخس ما يكون وأشنعه". فهذا حال العالِم المُؤثِر الدنيا على الآخرة.

وأما العابد الجاهل، فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه، وغلبة خياله وذوقه ووجده، وما تهواه نفسه؛ ولهذا قال سفيان ابن عُيَينة وغيره: "احذروا فتنة العالم الفاجر، وفتنة العابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون؛ فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه، وذاك بغيِّه يدعو إلى الفجور، وقد ضرب الله سبحانه مثل النوع الآخر بقوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16-17]، وقصته معروفة؛ فإنه بَنَى أساس أمره على عبادة الله بجهل، فأوقعه الشيطان بجهله، وكفره بجهله؛ فهذا إمام كل عابد جاهل، يكفر ولا يدري، وذاك إمام كل عالم فاجر يختار الدنيا على الآخرة، وقد جعل سبحانه رضا العبد بالدنيا وطمأنينته وغفلته عن معرفة آياته وتدبرها والعمل بها؛ سببَ شقائه وهلاكه، ولا يجتمع هذان أعنى: الرضا بالدنيا، والغفلة عن آيات الرب إلا في قلب مَن لا يؤمن بالمعاد، ولا يرجو لقاء رب العباد، وإلا فلو رسخ قدمُه في الإيمان بالمعاد لَمَا رَضِي الدنيا، ولا اطمأن إليها، ولا أعرض عن آيات الله.

وأنت إذا تأملت أحوال الناس وجدت هذا الضربَ هو الغالب على الناس، وهم عمَّار الدنيا، وأقل الناس عددًا مَن هو على خلاف ذلك، وهو من أشد الناس غربة بينهم، لهم شأن وله شأن، علمه غير علومهم، وإرادته غير إرادتهم، وطريقه غير طريقهم؛ فهو في وادٍ وهم في وادٍ، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7-8]، ثم ذكر وصفًا ضد هؤلاء ومآلهم وعاقبتهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9]؛ فهؤلاء إيمانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرضا بالدنيا والطمأنينة إليها ودوام ذكر آياته؛ فهذه مواريث الإيمان بالمعاد، وتلك مواريث عدم الإيمان به والغفلة عنه"؛ انتهى.

قال سفيان الثوري: "يجب على الرجل طلب العلم إذا كان عنده ملء كفه طعامًا"؛ لذلك يجب على أهل العلم تكسب المال من أي طريق حلال؛ حتى لا يسألوا الناس، أو يحتاجوا لمن في قلبه مرض؛ فالعالم يجب عليه أن يعيش دون إهانة أو ذل؛ فالدَّين، بفتح الدال، ذلٌّ يُهِين صاحبه، ويعكر فكر صاحبه، فإذا عاش العالِم ومعه ما يُعِينه على أعباء الحياة؛ سيقدم علمًا جليلاً، وفكرًا مستنيرًا، وقلبًا واعيًا، وعقلاً ناضجًا، ولسانًا ذاكرًا؛ فالمال وسيلة للعيش بكرامة، ومواجهة ارتفاع أسعار الوَرَق الذي يكتب عليه، فضلاً عن شراء الكتب التي يتعلم منها.

ومن الواجب على أهل العلم تأليف الكتب النافعة للإنسان؛ لأن الكتب هي أداة العالِم التي يغرس بها جذور علمه، كما أن للمزارع أداة يغرس بها بذور الثمار التي ينتفع بها كل مَن يمشي على الأرض ويطير في السماء، فالكتاب دليل الجاهل، وعين الضرير، وقلب طالب العلم، وكنز المحتاجين، قال الجاحظ في كتابه الحيوان: "ولولا الكتب المدوَّنة، والأخبار المخلَّدة والحكم المخطوطة التي تُحصِّنُ الحسابَ وغيرَ الحساب؛ لبَطَل أكثر العلم، ولغلَب سُلطانُ النِّسيانِ سلطانَ الذكر، ولَمَا كان للناس مفزعٌ إلى موضعِ استذكار، ولو تمَّ ذلك لحُرِمْنا أكثرَ النفع؛ إذ كنَّا قد علمْنا أنَّ مقدار حفْظ الناسِ لعواجل حاجاتهم وأوائلها لا يَبلغ من ذلك مبلغًا مذكورًا، ولا يُغْنِي فيه غَنَاءً محمودًا، ولو كُلِّفَ عامَّةُ مَن يطلب العلمَ ويصطَنِع الكتب، ألاَّ يزال حافظًا لفِهرست كتبه لأَعجَزه ذلك، ولكُلِّفَ شططًا، ولَشَغله ذلك عن كثيرٍ ممَّا هو أولى به، وفهمُك لمعاني كلامِ الناس ينقطع قبل انقطاعِ فهْمِ عين الصوتِ مجرَّدًا، وأَبعَدُ فهمِك لصوتِ صاحبك ومُعامِلك والمعاوِنِ لك ما كان صياحًا صرفًا، وصوتًا مصمَتًا ونداءً خالصًا، ولا يكون ذلك إلا وهو بعيدٌ من المفاهمة، وعُطْلٌ من الدلالة؛ فجعل اللفظ لأقرَب الحاجاتِ، والصوتَ لأنفَس من ذلك قليلاً، والكتابُ للنازح من الحاجاتِ، فأمَّا الإشارة، فأقربُ المفهومِ منها: رَفْعُ الحواجبِ، وكسرُ الأجفان، ولَيُّ الشِّفاهِ، وتحريك الأعناق، وقبض جلدةِ الوجه؛ وأبعدُها أن تلوي بثوبٍ على مقطع جبل، تُجاهَ عينِ الناظر، ثمَّ ينقطع عملُها ويدرُس أثرها، ويموت ذكرها، ويصير بعدُ كلُّ شيءٍ فضَل عن انتهاء مدَى الصوت ومنتهى الطرف، إلى الحاجة وإلى التفاهم بالخطوطِ والكتب، فأيُّ نفع أعظمُ، وأيُّ مِرْفَقٍ أعوَنُ من الخطِّ، والحالُ فيه كما ذكرنا، وليس للعَقْد حظُّ الإشارةِ في بُعد الغاية".

والكتابُ هو الذي يؤدِّي إلى الناس كتبَ الدين، وحسابَ الدواوين مع خفَّة نقلِه، وصِغَر حجمه؛ صامتٌ ما أسكتَّه، وبليغ ما استنطقتَه، ومَن لك بمسامر لا يبتديك في حالِ شُغْلك، ويدعُوك في أوقاتِ نشاطِك، ولا يُحوِجك إلى التجمُّل له والتذمُّم منه، ومَن لكَ بزائرٍ إن شئتَ جعل زيارتَه غِبًّا، وورُوده خِمْسًا، وإن شئت لَزِمَك لزومَ ظلِّك، وكان منك مكانَ بعضِك.

والقلمُ مكتفٍ بنفسه، لا يحتاج إلى ما عند غيره؛ ولا بدَّ لبيان اللسانِ من أمور؛ منها: إشارة اليد، ولولا الإشارةُ لَمَا فهموا عنك خاصَّ الخاصِّ إذا كان أخصُّ الخاصِّ قد يدخل في باب العام، إلا أنه أدنى طبقاته؛ وليس يكتفي خاصُّ الخاصِّ باللفظ عمَّا أدَّاه، كما اكتفى عامُّ العامِّ والطبقاتُ التي بينه وبين أخصِّ الخاصِّ.

والكتابُ هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغْريك، والرفيق الذي لا يملُّكَ، والمستَمِيح الذي لا يستَريثُك، والجارُ الذي لا يَسْتَبْطِيك، والصاحبُ الذي لا يريد استخراجَ ما عندَك بالملَق، ولا يعامِلُك بالمَكر، ولا يخدَعك بالنِّفاق، ولا يحتالُ لك بالكَذِب، والكتابُ هو الذي إن نظرتَ فيه أطالَ إمتَاعَك، وشحَذَ طباعَك، وبسَط لسانَك، وجوَّدَ بَنانك، وفخَّم ألفاظَك، وبجَّح نفسَك، وَعمَّر صدرك، ومنحكَ تعظيمَ العوامِّ وصَداقَةَ الملوك، وعَرَفتَ به في شهر، ما لا تعرفُه من أفواهِ الرجال في دهر، مع السلامةِ من الغُرم، ومن كدِّ الطلب، ومن الوقوفِ بباب المكتسب بالتعليم، ومِن الجُلوس بين يَديْ مَن أنت أفضلُ منه خُلُقًا، وأكرمُ منه عِرْقًا، ومع السلامةِ من مجالَسَة الْبُغَضاء، ومقارنةِ الأغبياء.

والكتابُ هو الذي يُطِيعُك بالليل كطاعته بالنهار، ويُطيعُك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلُّ بنومٍ، ولا يعتَرِيه كَلالُ السهرِ، وهو المعلِّمُ الذي إن افتقرتَ إليه لم يخفِرْك، وإن قطعتَ عنه المادَّة لم يقطعْ عنك الفائدة، وإن عُزِلتَ لم يَدعْ طاعتَك، وإن هبَّتْ ريحُ أعادِيك لم ينقلبْ عليك، ومتى كنتَ منه متعلِّقًا بسبب أو معتصمًا بأدنى حبْل؛ كان لك فيه غنًى من غيره، ولم تَضْطَرَّك معه وحشةُ الوَحدةِ إلى جليس السوء، ولو لم يكن مِن فضْله عليك، وإحسانِه إليك، إلا منعُه لكَ من الجلوس على بابك، والنظرِ إلى المارَّةِ بك، مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوقِ التي تَلزَم، ومن فُضولِ النظَر، ومن عادةِ الخوض فيما لا يعنيك، ومِن ملابسةِ صغارِ الناس، وحضورِ ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسِدة، وأخلاقهم الرديَّة، وجَهالاتهم المذمومة؛ لكان في ذلك السلامة، ثم الغنيمةُ، وإحرازُ الأصل، مع استفادةِ الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغَلُك عن سُخْف المُنَى وعن اعتياد الراحة، وعن اللعب، وكلِّ ما أشبهَ اللعب، لقد كان على صاحبه أسبَغَ النعمةَ وأعظَمَ المِنَّة.  

وقد علمنا أنَّ أفضلَ ما يقطع به الفُرَّاغ نهارَهم، وأصحابُ الفكاهات ساعاتِ ليلِهم؛ الكتابُ، وهو الشيء الذي لا يُرَى لهم فيه مع النيل أثرٌ في ازدياد تجربةٍ ولا عقلٍ ولا مروءة، ولا في صونِ عرض، ولا في إصلاحِ دِين، ولا في تثمير مال، ولا في رَبِّ صنيعة ولا في ابتداء إنعام.

والكتابُ قد يفضلُ صاحبَه، ويتقدَّم مؤلِّفَه، ويرجِّح قلمَه على لسانِه بأمور؛ منها: أن الكتابَ يُقرأ بكلِّ مكان، ويظهرُ ما فيه على كلِّ لسان، ويُوجَد مع كلِّ زمان، على تفاوتِ ما بين الأعصار، وتباعُدِ ما بين الأمصار، وذلك أمرٌ يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع في المسألة والجواب.

ومناقلةُ اللسان وهدايته لا تجوزانِ مجلسَ صاحبه، ومبلغَ صوتِه، وقد يذهبُ الحكيمُ وتبقى كتبُه، ويذهب العقلُ ويبقى أثره، ولولا ما أودعتْ لنا الأوائلُ في كتبها، وخلَّدتْ من عجيبِ حكمتها، ودوَّنت من أنواعِ سِيَرِها، حتَّى شاهدنا بها ما غاب عنَّا، وفتحنا بها كلَّ مستغلق كان علينا، فجمَعنا إلى قليلنا كثيرَهم، وأدركنْا ما لم نكن ندركُه إلا بهم لَمَا حَسُنَ حظُّنا من الحكمة، ولضعُف سبَبُنَا إلى المعرفة، ولو لجأنا إلى قدر قوَّتِنا، ومبلغ خواطرِنا، ومنتهى تجارِبنا لما تدركه حواسُّنا، وتشاهدهُ نفوسنا، لقلَّت المعرفةُ، وسَقَطت الهِمَّة، وارتفعت العزيمة، وعاد الرأيُ عقيمًا، والخاطِر فاسدًا، ولَكَلَّ الحدُّ، وتبلَّد العقل.

وأكثرُ من كتبهم نفعًا، وأشرف منها خَطَرًا، وأحسنُ موقعًا؛ كتُبُ الله تعالى؛ فيها الهُدَى والرحمة، والإخبارُ عن كلِّ حكمة، وتعرِيفُ كلِّ سيِّئةٍ وحسَنة، وما زالت كتبُ الله تعالى في الألواح والصُّحُف، والمهارِق والمصاحف، وقال الله عز وجل: {الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1-2]، وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، ويقال لأهل التَّوراةِ والإنْجيل: أهل الكِتاب.

قال أبو عبيدة: "قال المهلَّب لبنِيه في وصيَّتِه: يا بَنِيَّ، لا تقوموا في الأسواقِ إلا على زَرَّادٍ أَو وَرَّاق".

وحدَّثني صديقٌ لي، قال: "قرأتُ على شيخٍ شاميٍّ كتابًا فيه من مآثر غطفان، فقال: ذهبَت المكارمُ إلا من الكتب".

وقال ابن الجَهْم: "إذا غَشِيَني النعاسُ في غير وقتِ نوم وبئس الشيءُ النومُ الفاضِلُ عن الحاجة قال: فإذا اعتراني ذلك تناولتُ كتابًا من كتب الحِكَم، فأجدُ اهتزازي للفوائِد، والأريحيَّة التي تعتريني عند الظفَر ببعض الحاجة، والذي يغشَى قلبي من سرور الاستبانة وعزِّ التبيين أشد إيقاظًا مِن نَهيق الحمير وهَدَّةِ الهدم".

وقال ابن الجهم: "إذا استحسنتُ الكتابَ واستجدتُه، ورجوتُ منه الفائدة ورأيتُ ذلك فيه، فلو تراني وأنا ساعةً بعدَ ساعةٍ أنظرُ: كم بقي من ورقِهِ مخافَةَ استنفاده، وانقطاعِ المادَّة من قَلْبِه، وإن كان المصحفُ عظيمَ الحجم كثير الورق، كثير العدد - فقد تَمَّ عيشي وكَمُلَ سروري".

وذكر العتبي كتابًا لبعض القدماء، فقال: "لولا طولُه وكثرةُ ورقه لنسختُه"، فقال ابن الجهم: "لكنِّي ما رغَّبني فيه إلا الذي زهَّدك فيه؛ وما قرأتُ قطُّ كتابًا كبيرًا فأخلاني من فائدة، وما أُحصِي كم قرأتُ من صغارِ الكتب فخرجتُ منها كما دخلت".

وقال العتبي ذاتَ يومٍ لابن الجهم: "ألا تتعجَّبُ من فلانٍ نَظَر في كتابِ (الإقليدس) مع جارية (سَلْمَويه) في يومٍ واحد، وساعة واحدة، فقد فرغتِ الجاريةُ من الكتابِ وهو بعدُ لم يُحكِم مقالةً واحدة، على أنَّه حُرٌّ مخيَّر، وتلك أمَةٌ مقصورة، وهو أحرصُ على قراءةِ الكتاب مِن (سَلْمَوَيهِ) إلى تعليمِ جارية".

قال ابن الجهم: "قد كنت أظنُّ أنّه لم يفهم منه شكلاً واحدًا، وأُرَاك تزعم أنه قد فرغ من مقالة".

قال العتبي: "وكيف ظننتَ به هذا الظنَّ، وهو رجلٌ ذو لسانٍ وأدب؟"

قال: لأنِّي سمعتُه يقول لابنِه: "كم أنفقتَ على كتابِ كذا؟" قال: "أنفقت عليه كذا"، قال: "إنَّما رَغَّبَني في العلم أني ظننتُ أني أنفق عليه قليلاً، وأكتسِب كثيرًا، فأما إذا صرتُ أنفِق الكثيرَ، وليس في يدي إلا المواعيدُ، فإنِّي لا أريد العلمَ بشيء"؛ انتهى.

يجب على أهل العلم أن يتميزوا بالعدل والرحمة، خاصة وأن هاتين الصفتين لا تقطنان بداخل كثير من البشر لحب ذاتهم، أو حقد في قلوبهم، أو مرض نفسي وقع عليهم.

إن بعض العلماء قد ارتابت قلوبهم؛ فهم في ريبهم يترددون، بعد أن انتزعت الرحمة والعدل من القلوب، وسادت الظلمة في العيون، وباتت الغشاوة على الجفون وصار الضمير بلا إيمان، وصار الظلم يدًا لكل إنسان، فإذا نظرنا إلى مراحل التعليم سنجد العجب العجاب؛ ففي المرحلة الابتدائية يسعى الأستاذ لإرهابِ التلاميذ بلا رحمة، ويظن أنه بذلك يجعل لنفسه شخصية، وللأسف لم يقف المدرِّس عند هذا الحد، بل يُرضِي الأقرباء والأصدقاء، بأن يدلل أولادهم دون غيرهم من التلاميذ، فلا يطبق العدل والمساواة.

أما في المرحلة الإعدادية والثانوية، فيسعى المدرس بكل جهدِه إلى إجبار الطلاب على الدروس الخصوصية، التي يستفيد منها إلا الطالب الغني، أما الفقير، فيعيش تائهًا في مناهج لا بداية ولا نهاية لها؛ فالمدرس لا يشرح شرحًا وافيًا داخل مدرسته، مع أنه يشرح شرحًا وافيًا عندما يعطي درسًا خصوصيًّا؛ ليجني المال، ولا اعتبار للعلم الذي في قلبه.

ونأتي للطامة الكبرى في المرحلة الجامعية؛ حيث رأينا أناسًا مثل البشر في الظاهر، أما باطنهم، فأمثال الحجارة؛ بل هي أشد من الحجارة، يرهبون مَن يسعى لطلب العلم، ولا يرهبون أعداء الدين، يخافون من غيرهم ولا يخافون من الله تعالى تلهيهم سلطتهم، وتحتويهم شهرتهم، يندرجون تحت البشر، وما هم من البشر، ظنوا أنهم بلا أخطاء، مع أنهم ليسوا أنبياء، تصدروا قائمة كثيري الكلام، قليلي الفعل، إنهم أساتذة الجامعات! فقد أصبح شاغلهم الشاغل كسب قوت الطلاب بلا رحمة، والسعي وراء المال والشهرة بلا عدل، فقاسمهم الشيطان دون أن يعلموا، وهمُّوا بإخراج العلم من العقول؛ ليصبحوا هم الأفضل والمشار إليهم بالبنان، أصبح الكلام معهم بلا جَدْوَى، فأصبح طلاب العلم كارهينَ للعلم، وأحسوا بأنهم بلا مأوى؛ فقد أرادوا العلم، ولكنَّ مالكي العلم بَخِلوا به عليهم، وأصبحت اللغة السائدة بين الأستاذ والطالب: "اشترِ الكتاب تنجحْ"، مع أن معظم طلاب العلم ليس بمقدورهم شراء كتب الأساتذة، إن الرحمة انتزعت من قلوب بعض الأساتذة و«مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم»، سعوا وراء الدنيا، و"عجب لطالب الدنيا والموت يطلبه"، والعدل أصبح عملة غير سائدة في معاملة العلماء مع الطلاب؛ لذلك أصبحت حياتهم مليئة بالكراهية والأحقاد، والعقول طوحتها الأهواء، فالطالب إذا أحسَّ بالظلم أصبحت نفسه شيطانية، لا يهمه إلا التدمير والهلاك؛ فالرحمة والعدل ذواتَا أنماطٍ متعددة ثابتة في الفطرة والطبيعة الإنسانية، وهذه الأنماط لها وجود معنوي داخل الطبيعة البشرية كالحب والرضا والقناعة، وهذه أساسيات لتوليد الرحمة والعدل في القلوب، وعلى هذا يجب على أهل العلم أن يولِّدوا هاتين الصفتين من داخل قلوبهم من خلال ممارسة المعاملة الطيبة التي تعتمد على حدود الله تعالى حتى لا يضيعوا دينهم وعلمهم من أجل مال أو شهرة أو منصب.

فتحي حمادة