التغريب في زمن ترك التغريب
إبراهيم بن محمد الحقيل
وَمِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ صُدُوداً عَنِ الحَقِّ، وَعُلُوّاً عَلَى الخَلْقِ، وَقَهْراً لِلنَّاسِ عَلَى رُؤَاهُمُ الضَّيِّقَةِ، وَمَنَاهِجِهِمُ المُنْحَرِفَةِ؛ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيلاً عَظِيما} [النساء:27]، وَهُمْ فِي زَمَنِنَا هَذَا يُرِيدُونَ صَدَّ النَّاسِ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ المَرْأَةِ إِلَى مَنَاهِجِ الغَرْبِ الَّتِي بَدَأَ الغَرْبُ يَتَرَاجَعُ عَنْهَا بَعْدَ ثُبُوتِ فَشَلِهَا؛ إِنَّهُمْ يَوَدُّونَ إِفْسَادَ المَرْأَةِ بِاسْمِ تَحْرِيرِهَا..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ المَلِكِ الوَهَّابِ، العَزِيزِ الجَبَّارِ؛ بَعَثَ رُسُلَهُ بِالبَيِّنَاتِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالآيَاتِ، وَأَحَلَّ بِأَعْدَائِهِ المثُلاَتِ، نَحْمَدُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَافِيَتِهِ وَمُعَافَاتِهِ، فَكَمْ مِنْ خَيْرٍ مَنَحَهُ لَنَا! وَكَمْ مِنْ ضُرٍّ صَرَفَهُ عَنَّا، وَلَهُ فِينَا أَلْطَافٌ خَفِيَّةٌ لا نَعْلَمُهَا، فَلَهُ الحَمْدُ دَائِماً وَأَبَداً، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ عَادَى لَهُ وَلِيّاً آذَنَهُ بِالمُحَارَبَةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أُوذِيَ فِي اللهِ تَعَالَى فَصَبَرَ، وَمَا لَانَ عَنْ دَعْوَتِهِ وَلَا فَتَرَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَزَوَّدُوا فِي دَارِ الفَنَاءِ مَا تَجِدُونَهُ فِي دَارِ البَقَاءِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَالمَتَاعُ يَفْنَى وَالمُتَمَتِّعُ بِهِ يَمُوتُ، وَلاَ خُلُودَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ فِي الآخِرَةِ حِينَ «يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ لَا مَوْتَ، وَلِأَهْلِ النَّارِ: يا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ لَا مَوْتَ».
أَيُّهَا النَّاسُ:
فِي النُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ طُغْيَانٌ يَصُدُّهَا عَنِ الحَقِّ، وَيُؤَدِّي بِهَا إِلَى العُلُوِّ عَلَى الخَلْقِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ تَجِدُ لَهَا مِنَ المُسَوِّغَاتِ، وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، وَتَأْيِيدِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ مَا يَجْعَلُهَا تُصِرُّ عَلَى البَاطِلِ، وَلاَ تُذْعِنُ لِلْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ أَبْيَنَ مِنَ الشَّمْسِ فِي رَائِعَةِ النَّهَارِ {وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
وَلاَ يَسْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ وَظُلْمِهَا وَطُغْيَانِهَا إِلاَّ مَنْ هَذَّبَهَا بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَهَرَهَا عَلَى الإِذْعَانِ لِلْحَقِّ، وَالاسْتِسْلامِ لِلشَّرْعِ؛ {إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُواْ سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} [النور:51].
وَمِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ صُدُوداً عَنِ الحَقِّ، وَعُلُوّاً عَلَى الخَلْقِ، وَقَهْراً لِلنَّاسِ عَلَى رُؤَاهُمُ الضَّيِّقَةِ، وَمَنَاهِجِهِمُ المُنْحَرِفَةِ؛ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيلاً عَظِيما} [النساء:27]، وَهُمْ فِي زَمَنِنَا هَذَا يُرِيدُونَ صَدَّ النَّاسِ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ المَرْأَةِ إِلَى مَنَاهِجِ الغَرْبِ الَّتِي بَدَأَ الغَرْبُ يَتَرَاجَعُ عَنْهَا بَعْدَ ثُبُوتِ فَشَلِهَا؛ إِنَّهُمْ يَوَدُّونَ إِفْسَادَ المَرْأَةِ بِاسْمِ تَحْرِيرِهَا، وَيُرِيدُونَ فَرْضَ الاخْتِلاَطِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ مَا يَجُرُّهُ عَلَى الطُّلاَّبِ وَالطَّالِبَاتِ، وَالمُوَظَّفِينَ وَالمُوَظَّفَاتِ؛ مِنَ الفِتْنَةِ وَالفَسَادِ، وَبَعْدَ أَنْ تَوَاتَرَتِ الدِّرَاسَاتُ وَالبُحُوثُ الإِحْصَائِيَّةُ وَالاسْتِقْرَائِيَّةُ الَّتِي تُثْبِتُ آثَارَهُ السَّلْبِيَّةَ، وَبَعْدَ أَنْ تَعَالَتِ الأَصْوَاتُ فِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ تُنَادِي بِمَنْعِ الاخْتِلاَطِ، وَمَنْحِ الطَّالِبَاتِ وَالمُوَظَّفَاتِ حَقَّهُنَّ فِي الخُصُوصِيَّةِ، وَقَطْعِ دَابِرِ التَّحَرُّشِ بِهِنَّ أَوْ مُرَاوَدَتِهِنَّ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ بِالْحَيْلُولَةِ دُونَ وُصُولِ الرِّجَالِ إِلَيْهِنَّ، أَوْ جَعْلِهِنَّ تَحْتَ رَحْمَةِ الغُرَبَاءِ عَنْهُنَّ سَوَاءٌ كَانَ مُدِيراً لَهُنَّ، أَمْ مُدَرِّساً، أَمْ زَمِيلاً!
إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ إِخْرَاجَ الحَرَائِرِ العَفِيفَاتِ مِنْ خِدْرِهِنَّ إِلَى حَيْثُ يَتَلاَعَبُ الرِّجَالُ بِهِنَّ!
إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ نَشْرَ انْحِرَافِهِمْ وَفَسَادِهِمْ عَلَى النَّاسِ، بِقَهْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَفَرْضِهِ وَاقِعاً لاَ مَنَاصَ مِنْهُ، وَتَسْوِيغِهِ بِحُجَجٍ أَوْهَى مِنْ بَيْتِ العَنْكَبُوتِ، وَاسْتِئْجَارِ مَنْ يُرَوِّجُ لَهُ مِمَّنْ بَاعُوا ذِمَمَهُمْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَاشْتَرَوْا بِعَهْدِ اللهِ تَعَالَى وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً مِمَّنْ يُرِيدُونَ لُعَاعَةً مِنَ الدُّنْيَا بِبَيْعِ دِينِهِمْ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الزَّيْغِ وَالضَّلالِ.
وَفِرْعَونُ لَمَّا جَاءَ بِالسَّحَرَةِ وَعَدَهُمْ بِالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَالقُرْبِ مِنْهُ، مَعَ أَجْرِهِمُ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ عَلَى سِحْرِهِمْ لِلَبْسِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرعَونَ قَالُواْ إِنَّ لَنَا لَأَجراً إِن كُنَّا نَحنُ الغَالِبِينَ قَالَ نَعَم وَإِنَّكُم لَمِنَ المُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113-114]، وَهُوَ عَيْنُ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ التَّغْرِيبِ وَالفَسَادِ، وَمُشِيعُو الفَوَاحِشِ؛ حِينَ يَفْتَحُونَ صُحُفَهُمْ، وَيُتِيحُونَ فَضَائِيَّاتِهِمْ لِكُلِّ مَنْ يُؤَيِّدُهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ، وَيَلْبِسُ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَيُفْسِدُ أَخْلاقَهُمْ وَقِيَمَهُمْ، وَيُمَرِّدُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَبَنَاتِهِمْ.
وَهَؤُلاءِ المَأْجُورُونَ لِلتَّلاعُبِ بِدِينِ اللهِ تَعَالَى، وَتَبْدِيلِ أَحْكَامِهِ، وَتَسْوِيغِ التَّغْرِيبِ وَالفَسَادِ يَعْمَدُونَ إِلَى المُتَشَابِهِ مِنَ النُّصُوصِ، فَيَضْرِبُونَ بِهَا المُحْكَمَ؛ لِإِقْنَاعِ النَّاسِ بِبَاطِلِهِمْ، وَجَرِّهِمْ إِلَى إِثْمِهِمْ؛ إِرْضَاءً لِبَشَرٍ مِثْلِهِمْ، وَإِسْخَاطاً لِرَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ} [آل عمران:7]، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
إِنَّ اسْتِكْبَارَ هَؤُلاءِ المُفْسِدِينَ عَنِ الحَقِّ، وَطُغْيَانَهُمْ عَلَى الخَلْقِ؛ لَيْسَ أَمْراً جَدِيداً؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي المُنَافِقِينَ قَبْلَهُمْ؛ {اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم وَيَمُدُّهُم فِي طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ} [البقرة:15] قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "زَادَهُمُ اللهُ تَعَالَى ضَلالَةً إِلَى ضَلالَتِهِمْ، وَعَمًى إِلَى عَمَاهُمْ".
وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا امْتَلَأَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الاسْتِكْبَارِ، وَمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ مِنَ الصُّدُودِ، فَلا يَعُونَ آيَاتِ اللهِ تَعَالِى وَهِيَ تُتْلَى عَلَيْهِمْ، وَلا يَتَدَبَّرُونَ سُنَنَهُ فِي غَيْرِهِمْ، وَلا يُدْرِكُونَ الوَاقِعَ كَمَا هُوَ، يُجَادِلُونَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى بِلا عِلْمٍ وَلا تَحَرٍّ لِلْحَقِّ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فَرْضَ بِاطِلِهِمْ وَلَوْ بِتَحْرِيفِ الدِّينِ وَلَبْسِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيرِ سُلطَانٍ أَتَاهُم إِن فِي صُدُورِهِم إِلَّا كِبر مَّا هُم بِبَلِغِيهِ فَاستَعِذ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [غافر:56].
إِنَّهُمْ قَوْمٌ مَصْرُوفُونَ عَنِ الحَقِّ، مَهْوُوسُونَ بِالبَاطِلِ، يَتْرُكُونَ مَا بِهِ عَافِيَتُهُمْ، وَيُسَارِعُونَ فِيمَا فِيهِ هَلاَكُهُمْ، وَلَيْسَ قَوْلٌ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ: {سَأَصرِفُ عَن ءَايَتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَإِن يَرَواْ كُلَّ ءَايَة لَّا يُؤمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَواْ سَبِيلَ الرُّشدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَواْ سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَذَّبُواْ بَِايَتِنَا وَكَانُواْ عَنهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146]، فَهُمْ إِنْ دُعُوا إِلَى سَبِيلِ الحَقِّ رَفَضُوهُ، وَيُسَارِعُونَ فِي سَبِيلِ الغَيِّ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ انْتِكَاسِ القُلُوبِ وَالفِطَرِ، وَفَسَادِ العَقْلِ وَالرَّأْيِ.
وَحِينَ يُذَكَّرُونَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَيُخَوَّفُونَ بِمَا وَقَعَ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَلِلدُّوَلِ الحَاضِرَةِ مِنَ الفِتَنِ وَالاضْطِرَابِ، وَاخْتِلافِ القُلُوبِ لَا يَزِيدُهُمْ هَذَا التَّذْكِيرُ إِلاَّ طُغْيَاناً وَتَمَرُّداً عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَرَفْضاً لِشَرِيعَتِهِ، وَإِصْرَاراً عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي المُعَذَّبِينَ: {وَنُخَوِّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُم إِلَّا طُغيَاناً كَبِيراً} [الإسراء من الآية:60].
وَلِكُلِّ زَمَنٍ فَرَاعِنَتُهُ، وَفَرَاعِنَةُ هَذَا الزَّمَنِ لاَ يُذْعِنُونَ لِلْحَقِّ، وَيَسْتَبِدُّونَ بِالأَمْرِ دُونَ سَائِرِ الخَلْقِ وَلَوْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ وَضَلالٍ، يُسَارِعُونَ فِي بَاطِلِهِمْ وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَتْفُهُمْ وَإِهْلاَكُ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ مِنْ قَبْلُ: {مَا أُرِيكُم إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهدِيكُم إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].
وَجَادَّتُهُمْ فِي نَشْرِ بَاطِلِهِمْ هِيَ جَادَّةُ فِرْعَوْنَ، وَطَرِيقَتُهُمْ فِي تَسْوِيغِ مُنْكَرَاتِهِمْ هِيَ طَرِيقَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَنْهَجُهُمْ فِي الكَذِبِ عَلَى المُصْلِحِينَ هُوَ مَنْهَجُ فِرْعَوْنَ؛ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ اتَّهَمَ بِالفَسَادِ مَنْ يَدْعُو إِلَى الصَّلاحِ {وَقَالَ فِرعَونُ ذَرُونِي أَقتُل مُوسَى وَليَدعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الأَرضِ الفَسَادَ} [غافر:26]، وَاتَّهَمَ فِرْعَوْنُ النَّاصِحِينَ المُصْلِحِينَ بِأَنَّ لَهُمْ فِي إِصْلاحِهِمْ وَنُصْحِهِمْ أَغْرَاضاً سِيَاسِيَّةً، وَمَآرِبَ دُنْيَوِيَّةً، وَهِيَ عَيْنُ التُّهَمَةِ الَّتِي يَقْذِفُ بِهَا التَّغْرِيبِيُّونَ فِي عَصْرِنَا كُلَّ مُصْلِحٍ؛ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {أَجِئتَنَا لِتَلفِتَنَا عَمَّا وَجَدنَا عَلَيهِ ءَابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبرِيَاءُ فِي الأَرضِ وَمَا نَحنُ لَكُمَا بِمُؤمِنِينَ} [يونس:78].
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى نَصَرَ مُوسَى وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ، وَسُنَّتُهُ الدَّائِمَةُ سُبْحَانَهُ هِيَ نَصْرُ أَهْلِ الحَقِّ عَلَى أَهْلِ البَاطِلِ، وَلَوْ كَانَ لِلْبَاطِلِ صَوْلَةٌ وَجَوْلَةٌ؛ فَإِنَّ العُقْبَى لِأَهْلِ الحَقِّ عَلَيْهِمْ {قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ استَعِينُواْ باللَّهِ وَاصبِرُواْ إِنَّ الأَرضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وَخُوطِبَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَاصبِر إِنَّ العَقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ} [هود:49]، وَهُوَ خِطَابٌ لَنَا بِالصَّبْرِ عَلَى الحَقِّ، وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَمُقَاوَمَةِ الفَسَادِ وَالتَّغْرِيبِ وَأَهْلِهِ، وَتَحْذِيرِ النَّاسِ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ يَدْحَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَيَكْفِيَ المُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْداً طَيِّباً كَثِيراً مُبَارَكاً فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ . وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ} [آل عمران:131-132].
أَيُّهَا المُسْلِمُونُ:
قَضَى اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} [غافر:51]، {وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنِينَ} [الرُّوم:47]، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَلِبُونَ} [الصَّافات:173]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21].
وَقَضَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِدِينِهِ بِالغَلَبَةِ وَالعُلُوِّ، وَالظُّهُورِ وَالانْتِشَارِ فِي الأَرْضِ؛ {يُرِيدُونَ أَن يُطفِئواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفوَاهِهِم وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَفِرُونَ 32 هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ} [التوبة:32-33]، وَظُهُورُهُ يَقْتَضِي ظُهُورَ شَعَائِرِهِ، وَسِيَادَةَ أَحْكَامِهِ، وَتَمَسُّكَ النَّاسِ بِهِ، وَهُوَ مَا نُشَاهِدُهُ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا رَغْمَ حَمَلاتِ التَّغْرِيبِ وَالتَّخْرِيبِ الضَّخْمَةِ المَدْعُومَةِ سِيَاسِيّاً وَاقْتِصَادِيّاً وَإِعْلامِيّاً مِنْ كُبْرَيَاتِ الدُّوَلِ؛ حَتَّى صَارَ انْتِشَارُ الإِسْلامِ وَالتَّمَسُّكُ بِشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ فِي البِلادِ الغَرْبِيَّةِ وَالعَلْمَانِيَّةِ العَرَبِيَّةِ يُشَكِّلُ قَلَقاً كَبِيراً لِلْغَرْبِيِّينَ وَلِلْعَلْمَانِيِّينَ العَرَبِ يُسَمَّى بِـ: فُوبْيَا الإِسْلامِ! وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِأَنَّهُمْ مَعَ شِدَّةِ مُحَارَبَتِهِمْ لِلشَّعَائِرِ الإِسْلاَمِيَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَنَشْرِ التَّغْرِيبِ عَلَى أَوْسَعِ نِطَاقٍ؛ فَإِنَّ الإِسْلامَ يَنْتَشِرُ، وَالقِيَمَ الغَرْبِيَّةَ تَتَقَلَّصُ، خَاصَّةً بَعْدَ انْدِحَارِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ بِالانْتِكَاسَاتِ المَالِيَّةِ المُتَتَابِعَةِ، وَتَقَلُّصِ اللِّيبْرَالِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ حِينَ تَخَلَّى الغَرْبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ قِيَمِ الحُرِّيَّةِ؛ خَوْفاً مِنَ الإِسْلامِ، وَكَذَلِكَ انْدِحَارِ السِّيَاسَةِ الغَرْبِيَّةِ الاسْتِعْمَارِيَّةِ فِي البُلْدَانِ الإِسْلامِيَّةِ المُحْتَلَّةِ.
وَلا شَكَّ فِي أَنَّ تَرَاجُعَ اللِّيبْرَالِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالاقْتصَادِيَّةِ يُؤَدِّي إِلَى انْدِحَارِ اللِّيبْرَالِيَّةِ الفِكْرِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَقْوَى رَافِدٍ يُغَذِّي القِيَمَ اللِّيبْرَالِيَّةَ فِي المُجْتَمَعَاتِ المُسْلِمَةِ هُوَ الدَّعْمُ الاقْتِصَادِيُّ، وَالنُّفُوذُ السِّيَاسِيُّ، فَإِذَا جَفَّ هَذَانِ النَّبْعَانِ الآسِنَانِ مَاتَتِ القِيَمُ اللِّيبْرَالِيَّةُ الانْحِلالِيَّةُ فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ؛ وَلِذَا فَإِنَّ حَدِيثَ المُفَكِّرِينَ الغَرْبِيِّينَ الآنَ هُوَ عَنْ عَالَمِ مَا بَعْدِ اللِّيبْرَالِيَّةِ، وَمَا بَعْدَ الرَّأْسِمَالِيَّةِ، فِي الوَقْتِ الَّذِي لاَ يَزَالُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ اللِّيبْرَالِيِّينَ العَرَبِ يُفَكِّرُونَ بِعَقْلِيَّاتٍ مُتَخَلِّفَةٍ بَطِيئَةٍ لاَ قُدْرَةَ لَهَا عَلَى مُوَاكَبَةِ عَجَلَةِ الأَحْدَاثِ الَّتِي تَدُورُ بِسُرْعَةٍ تَفُوقُ تَفْكِيرَهُمُ المَحْدُودَ، وَلا يَتَجَاوَزُونَ عَمَلِيَّةَ التَّغْرِيبِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنَ المَاضِي؛ ذَلِكَ لِأَنَّ جُمْهُورَ المُسْلِمِينَ لَنْ يَخْتَارُوا عَنِ الإِسْلامِ بَدِيلاً، حَتَّى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقَصِّراً فِي الْتِزَامِهِ بِأَحْكَامِ الإِسْلامِ، وَصَنَادِيقُ الاقْتِرَاعِ فِي البَرْلَمَانَاتِ العَرَبِيَّةِ وَفِي الانْتِخَابَاتِ البَلَدِيَّةِ فِي شَتَّى الدُّوَلِ الإِسْلامِيَّةِ أَبْيَنُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ؛ إِذْ لاَ حَظَّ فِيهَا لِلِّيبْرَالِيِّينَ رَغْمَ جُهُودِهِمُ الضَّخْمَةِ فِي الدِّعَايَةِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا كَانَ خِيَارُ الشُّعُوبِ هُوَ الإِسْلامَ فَإِنَّ الدُّوَلَ الغَرْبِيَّةَ بَاتَتْ تَنْحَازُ إِلَى خِيَارَاتِ الشُّعُوبِ، وَتُضَحِّي بِأَخْلَصِ عُمَلائِهَا؛ خَوْفاً عَلَى مَصَالِحِهَا، وَلَنْ يَكُونَ التَّغْرِيبِيُّونَ فِي البِلادِ الإِسْلامِيَّةِ أَكْرَمَ عَلَى الغَرْبِ مِنْ حُكَّامِ دُوَلٍ أَخْلَصُوا لِلْغَرْبِ عُقُوداً مِنَ الزَّمَنِ، وَنَفَّذُوا لَهُ كُلَّ إِمْلاءَاتِهِ؛ فَتَخَلَّى الغَرْبِيُّونَ عَنْهُمْ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ؛ لِأَنَّ المَصْلَحَةَ عِنْدَ الغَرْبِ فَوْقَ العَوَاطِفِ وَالمُرُوءَةِ وَالوَفَاءِ! وَلِأَنَّ مَنْ هَانَ دِينُ اللهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ فَبَاعَهُ؛ هَانَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَمَنْ هَانَ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَهَانَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَذَلَّهُ {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
أَلاَ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.