الديمقراطية؛ غاية أم مطية؟

الديمقراطية تُعدّ من أكبر فتن هذا العصر، وأشد بِدعه خطرًا على عقائد المسلمين الموحدين؛ لأنها صورة عصرية من صور الشرك بالله في إلهيته وربوبيته، ومناقضة صريحة لتوحيد الطاعة والانقياد، ومنازعة لله في حقه المطلق في الحكم والتشريع.

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -


الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وربّ العالمين وقيُّوم السموات والأرضيين ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنىً إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدىً إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه ولا نعيمٍ إلا في قربه ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيده، وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى ونبيه المرتضى ورسوله إلى الناس كافة، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

وبعد:

فإن من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يواجهون فِتن عصرهم، ويُنكِرون بدع زمانهم، فيُبيّنون للناس الحق بيانًا شافيًا، وينصحون لأمتهم ووأئمتهم نصحًا كافيًا وافيًا، فهم في كل زمان حماة الحق الرحماء بالخلق، والهداة المهتدون الذين يعملون بكتاب ربهم ويُحيُون سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم.

والديمقراطية تُعدّ من أكبر فتن هذا العصر، وأشد بِدعه خطرًا على عقائد المسلمين الموحدين؛ لأنها صورة عصرية من صور الشرك بالله في إلهيته وربوبيته، ومناقضة صريحة لتوحيد الطاعة والانقياد، ومنازعة لله في حقه المطلق في الحكم والتشريع.

ورغم أن الديمقراطية كغيرها من أنظمة الحكم البشرية تشتمل على إجراءات وآليات قد تكون مناسبة وتحقق المصلحة في بعض الأحيان كالتداول السلمي للسلطة، ونظام الاقتراع والانتخاب، والتعددية السياسية، والحكم من خلال مؤسسات منتخبة، إلا أنها تشتمل في الوقت ذاته على مخالفة شرعية جسيمة تكمن في إسناد مرجعية التشريع للشعب ممثلاً في مجلسه التشريعي المنتخب.

فالديمقراطية -كنظام سياسي- تعني في أصلها سيادة الشعب[1] أو حكم الشعب لنفسه، وهي بذلك تُعطي الحق للشعب في تشريع ما يشاء من أحكام، على أن تكون المرجعية في ذلك لحكم أغلبية ممثلي الشعب في مجلس النواب الذي ينتخبه الشعب ليكون السلطة التشريعية.

فإذا وافقت أغلبية مجلس النواب على تشريعٍ معين؛ صار هذا التشريع قانونًا مُلزِمًا وإن خالفت بنوده شريعة الله تعالى.
وإن رفضت تلك الأغلبية تشريعًا آخر فلا يمكن العمل به وإن وافق شرع الله؛ لأن المرجعية في هذا النظام الديمقراطي تكون لحكم الشعب لا لحكم الله.

ولا ريب أن الحكم الديمقراطي بهذا الشكل يُمثِّل صورة فاضحة للعلمانية الشركية التي تُنازع الله تعالى في بعض خصائص إلهيته وربوبيته؛ وتُشرِك به غيره في حقه المطلق في التشريع والحكم، كما تُمثِّل دعوةٌ لخلع ربقة العبودية لله تعالى ورفض الدخول في إطار التكليف فيما يتعلق بشئون السياسة والحكم والتشريع.

قال الله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].


وقال الله سبحانه: {ِإِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].

وقال الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49-50].

وقال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا . فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا . وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا . فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:60-65].

فكل حكم لا تكون السيادة فيه لله، والمرجعية فيه لشرعه وشريعته فهو حكم الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به.


قال ابن القيم: "الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله" (إعلام الموقعين؛ [1/51]).

ومما يزيد الديمقراطية فتنة وخطورة أنها تقدم للناس مقرونة بالشعارات البراقة والصبغات الخداعة، فإذا ذُكرت الديمقراطية ذُكِر التقدُّمُ والعدالة والحضارة وحماية الحريات وحقوق الإنسان.

ومن ثم فمن يعترض على الديمقراطية سيُتهَم مباشرة بالرجعية والتخلُّف والاستبداد والدكتاتورية والظلم ونحو ذلك من التُّهم المعلبة المحفوظة.

ومن الطرق الشيطانية إلباس الديمقراطية ثياب الشرع والدين، وادِّعاء أن الديمقراطية مرادفة للشورى التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم (
وهذا ادِّعاء فاسد لأن الشورى لا تصلح مسوغًا للخروج عن حكم الله؛ وإنما هي وسيلة يتذرّع بها للوصول إلى مراد الشرع).

ورغم إدراك الكثيرين من أبناء العمل الإسلامي لخطورة الديمقراطية وفتنتها؛ إلا أن بعضهم رأى أنها تصلح مطية يمكن التذرُّع بآلياتها للوصول إلى سِدة الحكم، مما يمكنهم بعد ذلك من تطبيق الشريعة تدريجيًا.

وقد خاض أولئك تجربة الديمقراطية في عِدة بلدانٍ محاولين استثمار شعبية أبناء العمل الإسلامي لدى الجماهير وسعوا في حصد عدد من المقاعد في المجالس النيابية المختلفة رغم ما قد يكنِّف ذلك من محاذير شرعية كالقسم على احترام الدستور والقانون الوضعي الذي يخالف شرع الله تعالى، لكنهم كانوا يعتذرون عن تِلكم المخالفات بأنها مفاسد جزئية في مقابلة مصلحة كلية تكمن في إعادة الحكم الإسلامي وتطبيق شرع الله تبارك وتعالى.

ورغم تكرُّر التجارب وتعدُّدِها وتجدُّدِها، ورغم نجاح أبناء العمل الإسلامي في حصد أعداد كبيرة من مقاعد المجالس النيابية بلغ في بعض الأحيان الأغلبية المطلقة؛ إلا أننا لم نجد أيًا من هذه التجارب قد نجح في إقامة حكم إسلامي أو تطبيق الشريعة الإسلامية أو إحراز تقدُّمٍ جوهريٍ واقعيٍ ملموسٍ في هذا الصدد.

ومع ذلك استمر كثير من أبناء العمل الإسلامي في ارتكاب تِلكم الممارسات الديمقراطية، وصار أكبر همَّهم النجاح في الانتخابات ودخول تلك المجالس وحصد أكبر عدد ممكن من المقاعد داخلها، وعلى ذلك صاروا يبنون مناهجهم وخططهم الأساسية.

ومع تكرّر التجارب الديمقراطية صارت دائرة المفاسد الشرعية تتسع في الوقت الذي لا تتحقق فيه المصلحة المرجوة، حتى بلغت تلك المفاسد حدًا يكاد يفتك بجوهر العمل الإسلامي ذاته.

فقد حرص عدد من الضالعين في العمل الديمقراطي من أبناء العمل الإسلامي على استرضاء كل المخالفين لهم بتقديم جملة من التنازلات غير المقبولة.

فصار من المألوف أن تجد بعض أولئك حين يظهر إعلاميًا يحرص -كل الحرص- على إظهار قدرٍ كبير من التهاون والتخاذل في إنكار جملة من المنكرات الظاهرة كالتبرُّج والمعازف والاختلاط والتمثيل؛ حتى صرنا نرى بعضهم يتحدّث عن احترامه وتقديره للفن والفنانين -رغم ما يُقدِّمونه من إفساد- ويُبدي حرصه على دعم السياحة التي تشتمل في كثير من مفرداتها على منكرات ظاهرة، ويعلن احترامه للرأي الآخر وإن اشتمل على كفرٍ بُواح!

كما وجدنا من أولئك من يُسارع بتهنئة الكفار بأعيادهم الكفرية، ويُشارِكهم في الاحتفال بها ويشهد ذلك الزور في معابدهم الوثنية؛ لأنهم بزعمه إخوة الدم وشركاء الوطن.

والأدهى من كل ذلك؛ ما انتشر على ألسنة كثير من أولئك من الدعوة للديمقراطية وتقديسها والحرص على إعلائها، وتقديمها للناس على أنها النظام المبتغى والمنهج المرتضى، حتى سمعنا من يقول أن الديمقراطية مقدسة لدينا، ومن يقول أنه عاش عمره كله من أجل إعلاء الديمقراطية والحرية!

ومن ثم تحوّلت الديمقراطية عندهم من مجرّد مَطيةٍ يتذرّعون بها إلى إقامة حكمٍ إسلامي إلى غايةٍ ومنهجٍ مرضيٍ يدعون له ويدافعون عنه، حتى إن كلّفهم ذلك ترك غايتهم الرئيسة في تحكيم شرع الله تعالى.

فقد صرّح واحد من قيادات تنظيم إسلامي في أحد البلدان العربية بأنهم قاموا بسحب موضوع تطبيق الشريعة من الدستور؛ لأنه موضوع مختلف فيه والدساتير ينبغي أن تُبنى على ما هو متفقٌ عليه!

وحين سُئِل زعيم أكبر حزبٍ إسلامي في بلدٍ مسلمة عن مدى قبوله لحكم رجل نصراني كافر لتلك البلد المسلمة أجاب: "بأن الشعب إن اختار شيئًا فلا يسعه إلا أن يوافق على ذلك!".

والأمثلة في ذلك كثيرة لست في مقام حصرها، ولكني أريد الإشارة إلى ما يلي:


أولاً: أن أعداء الأمة الإسلامية لم ينجحوا في الترويج لواحدٍ من نُظمِهم العلمانية المحادّة للدين قدر نجاحهم في الترويج للنظام الديمقراطي الذي افتتن به كثير من أبناء الأمة.

ثانيًا: أن هؤلاء الأعداء قد استطاعوا بطريق مباشر أو غير مباشر أن يستغلوا بعض أبناء العمل الإسلامي في الترويج للديمقراطية والتأسيس لها في بلاد المسلمين، مع إعطائها مشروعيةً وقدسيةً وتمكينًا.

ثالثًا: أن الإسلاميين الذين أرادوا جعل الديمقراطية مَطيّةً يصلون من خلالها لمآربهم؛ قد تحوّلوا هم في الواقع -وربما بغير قصدٍ منهم- إلى مَطيّة استغلها العلمانيون لترويج الديمقراطية وإلباسها ثوب الشرعية.

ولستُ هنا في مقام اتهام نوايا أولئك الإسلاميين أو الطعن في شرف مقاصدهم؛ وإنما أرصد واقعًا نعيشه بكل مفرداته مع إحسان الظن بجميع إخواننا المسلمين.

رابعًا: تحوّلت الديمقراطية في أدبيات وتصريحات كثير من الإسلاميين من مجرّد مَطيّة إلى غايةٍ ومصدرٍ للشرعية، حتى صارت الاقتراعات والاستفتاءات والانتخابات والصناديق هي مصدر شرعية القوانين والدساتير، والأنظمة الحاكمة، بقطع النظر عن مدى موافقتها للمعايير الشرعية.

خامسًا: وجد كثير من الإسلاميين أن من لوازم الممارسة الديمقراطية كثرة الظهور الإعلامي، وتعديل لغة الخطاب العام لتحاكي أساليب السياسيين في مصطلحاتهم وبعض أفكارهم؛ وسرعان ما انزلق أولئك في جملة من التصريحات التي تخالف الشريعة الإسلامية، وتخالف كثيرًا من المبادئ التي كان أولئك ينطلقون منها.

كما احتوت تصريحاتهم قدرًا كبيرًا من التلبيس والتلاعب بالمصطلحات بما يُشوِّش على كثير من عوام المسلمين أمر دينهم.

فعلى سبيل المثال وجدنا من هؤلاء من يُصرِّح على الملأ بأنه يرفض الدولة الدينية ويدعو للدولة المدنية!


فإذا راجعه إخوانه في ذلك قال: "إنما قصدتُ بالدولة الدينية أي الدولة الثيوقراطية التي يستمد الحاكم فيها سلطته من الإله مباشرة!".

ومن المعلوم أن مثل هذا النوع من الحكم لم يُعرَف قط في بلاد الإسلام؛ وإنما نشأ في بلاد الكفار التي تسلّط فيها رجال الدين والكهنوت على الرعية بالظلم والقهر حتى قامت الثورات بخلعهم.

فما الحاجة لذكر مصطلح الدولة الدينية في خطابٍ عامٍ في بلاد المسلمين رغم ما قد يُسبِّبه من تلبيسٍ على كثير من العوام الذين لا علم لهم بالثيوقراطية؟

سادسًا: إن كثيرًا من هؤلاء الإسلاميين يدعو الآن للديمقراطية والاحتكام للصناديق معتمدًا على نجاحه في الانتخابات، غافلاً عما قد يحدث مستقبلاً من ارتفاع شعبية بعض العلمانيين وقدرتهم على النجاح في الانتخابات، والوصول لسدة الحكم بنفس تلك الآليات، وبالتالي سيُصبح هذا الحاكم شرعيًا بنفس المعايير؛ لأنه احتكم لتلك الصناديق التي ارتضاها أولئك الإسلاميون حكمًا من قبل.

وقد كان واجبًا على أولئك الإسلاميين التأكيد مرارًا على أن مصدر الشرعية دومًا هو الاحتكام لشرع الله لا للصندوق، وأن من تمرد على شرع الله فقد كل شرعية وإن جاءت به الصناديق.

سابعًا: إن كان استخدام آليات الديمقراطية من تداول للسلطة وانتخابات واقتراع ونحو ذلك لا يلزم منه نظريًا الرضا بسيادة الشعب وحقه في تشريع الأحكام بمعزلٍ عن الشرع، إلا أن الممارسات العملية المتعددة لأبناء العمل الإسلامي في بلاد مختلفة قد أثبت صعوبة فك هذا الالتحام بين آليات الديمقراطية ومبادئها ومرجعيتها، كما أثبت صعوبة التوسل بالديمقراطية للوصول إلى حكمٍ إسلاميٍ صحيح.

ثامنًا: ينبغي التنبه إلى أن تحكيم الشريعة الإسلامية ليس هو الغاية العظمى في نفسه، وإنما الغاية العظمى هي إعلاء كلمة الله وتعبيد الناس لربهم بأن يكونوا خاضعين لحكمه ومنقادين لأمره ومستسلمين لقضائه.

ولو أننا سلّمنا جدلاً باستطاعتهم تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية من خلال الديمقراطية وآلياتها ومبادئها؛ فإن هذا لا يُعد كافيًا حتى ينصاع الناس لتِلكم الأحكام انقيادًا وتسليمًا لحكم الله، لا تعظيمًا ورضوخًا لحكم الشعب، والبون شاسع ولا شك.

فإن استمر الحكم الديمقراطي فسيبقى أن هذه الأحكام قد اكتسبت مشروعيتها من كونها حكم الشعب لا أنها حكم الشرع؛ وبالتالي تظل أحكام الشرع موقوفة على موافقة أغلبية المجلس التشريعي، وهذا تمرد سافر على العبودية لله تبارك وتعالى لا يرفع إثمه خروج بعض الأحكام الشرعية للتنفيذ الفعلي.

فإن إيمان المرء موقوف على الاحتكام لشرع الله تبارك وتعالى والرضا والتسليم به ظاهرًا وباطنًا، وبغير ذلك لا يكون الإنسان مؤمنًا؛
قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

والذي يستوي عنده أن يُمنع الخمر لأنه حكم الله، وأن يُمنع الخمر لأن أغلبية المجلس التشريعي أراد ذلك؛ كمن يستوي عنده من يذبح لله تبارك وتعالى ومن يذبح للأنصاب والأصنام.

فالأفعال قد تتشابه في صورها وأشكالها في الواقع؛ لكن تختلف أحكامها باختلاف مقاصدها، وهذا واضح والحمد لله.

ومن ثم؛ فالنظام الديمقراطي إن سلّمنا جدلاً بجواز استخدامه اضطرارًا كمَطيّةً للوصول إلى تنفيذ أحكام الشريعة في مرحلة ما؛ فإننا ينبغي أن نستحضر دائمًا أن إقامة حكم إسلامي صحيح يستلزم القضاء على مبادئ الديمقراطية ومرجعيتها في التشريع وإن جاءت بأحكام توافق الشريعة؛ لأن مبدأ الحكم للشعب مرفوض من حيث الأصل.

تاسعًا: إن التعامل مع الأنظمة البشرية كالديمقراطية وغيرها ينبغي أن يكون وفق المعايير الشرعية، فيقبل منها ما يناسب الأحوال والظروف ويحقق المصلحة ما لم يخالف الشرع، ويردّ منها كل ما خالف شرع الله أو كان لا يناسب أحوال بلادنا وظروف شعوبنا وغلب على ظننا أنه لا يحقق المصلحة.

فلا قداسة لأي فكرٍ أو جهدٍ بشري، ولا عصمة لأي نظام سياسي، وما يناسب في أحوال وأزمان وبلدان، قد لا يناسب في غيرها، ولا ينبغي أن يُقدَّم أي نظام سياسي على أنه النظام الأوحد الذي يجب علينا أن نرتضيه ونعمل به.

فإن المسألة إن خلَت عن توقيف شرعي وصار المجال فيها مفتوحًا للاجتهاد البشري، فلا مجال حينئذٍ لادّعاء قداسة أو عصمة؛ فالعصمة لحكم الله لا غير، والتقديس لشرعه وشريعته التي تعلو كل حكمٍ سواه.

عاشرًا: إن اضطررنا لممارسة بعض آليات الديمقراطية لتحقيق مصالح جزئية، فينبغي ألا يؤدي ذلك لمفاسد شرعية أكبر وأشد؛ فإن معيار المصالح والمفاسد شرعي في الأساس، وإن أول مقاصد الشريعة حفظ الدين.

وبالتالي ينبغي أن ينظر للديمقراطية على أنها كالخمر التي يجوز شربها في حال الضرورة؛ لكنها لا تصلح أن تكون مشروبًا دائمًا على موائد المسلمين.

وكما لا يجوز لمن شرِب الخمر اضطرارًا أن يُحدِّث الناس زاعمًا لذة طعمها وجمال شكلها وحلاوة تأثيرها؛ فكذلك لا يجوز لمن سلك سبيل الديمقراطية مرغَماً أن يُحدِّث الناس عن احترامها وتقديرها.

وأخيراً:


فإن الله تعالى جعل شريعته الربانية سبب سعادة الدارين لمن تحاكم إليها، وسلّم لأحكامها، وقدمها على كل قانونٍ أرضي، ورفعها فوق كل دستورٍ وضعي؛ فما حكمت به فله السمع والطاعة مع تمام الانقياد والخضوع، وما خالفها فهو مردود تحت القدمين موضوع.

نسأل الله أن يُنوِّر بصائرنا، وأن يُرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وألا يَجعل مصيبتنا في ديننا، ولا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وأن يستعملنا في خدمة الدين، وأن يُولِّي أمورنا خيارنا، ويُهيئ لنا أمر رشدٍ يُعِزُّ فيه أهل طاعته ويُذِلّ فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خير الأنام، وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.


ـــــــــــــــ

[1]- (الديمقراطية يونانية في أصلها اللغوي ومؤلفة في الأصل من كلمتين (ديموس) وتعني الشعب أو عامة الناس، و(كراتوس) وتعني سيادة أو سلطة أو حكم؛ وبهذا تكون الديمقراطية Demoacratia تَعني لغةً حكم الشعب، أو سيادة الشعب. وتتعدد صور الديمقراطية كنظام سياسي فهناك الديمقراطية الليبرالية الدستورية والديمقراطية المباشرة والديمقراطية التساهمية).


إيهاب كمال أحمد