التربية بالوصف القرآني

قتضت حكمةُ الله سبحانه وتعالى ألا يَترُك البشرية دون أن يرسل إليهم رسولاً يُبلِّغهم الدين، ويُرشِدهم إلى الصراط المستقيم، وأنزل مع كل رسول مُعجِزةً تكون دليلاً وبرهانًا على صدقِ نُبوَّته وبيان رسالته، وكانت مُعجزات الأنبياء عليهم السلام كلٌّ مِن فنِّ القوم الذين أُرسل إليهم.

  • التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -


الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبِه أجمَعين، أما بعدُ:

فقد اقتضت حكمةُ الله سبحانه وتعالى ألا يَترُك البشرية دون أن يرسل إليهم رسولاً يُبلِّغهم الدين، ويُرشِدهم إلى الصراط المستقيم، وأنزل مع كل رسول مُعجِزةً تكون دليلاً وبرهانًا على صدقِ نُبوَّته وبيان رسالته، وكانت مُعجزات الأنبياء عليهم السلام كلٌّ مِن فنِّ القوم الذين أُرسل إليهم، فموسى عليه وعلى نبينا السلام آتاه الله عز وجل مُعجزةً تَفوق السحرَ الذي اشتهر وانتشَر في قومه، فكان جواب السحَرة لمّا ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقَف ما يأفِكون: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121-122]، وعيسى عليه السلام اشتهرَ قومه بالطبِّ فآتاه الله عز وجل مُعجزات تَفوق الطبَّ وتتجاوَزه، كما قال سبحانه مُمتنًّا على عيسى عليه السلام: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة:110].

وكان قوم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم العرب يَفتخِرون بالبلاغة، ويُحبُّون الشِّعرَ، ويَفتخِرون بالشعراء ويَعدونهم مفخَرة للقبيلة، وكانت تُقام الأسواق الأدبية التي تفاخر بها العرب كسوق عكاظ وذي المجاز وغيرها، فأرسل الله عز وجل رسولَه بهذه المُعجِزة الخالدة، التي هي من جنسِ كلام العرب، فلا هو شِعر فيُجاروه، ولا هو نَثرٌ فيُباروه، وهو مِن صميم كلامهم الذي أَلِفُوه، فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، وقد تحدَّاهم الله عز وجل على مراحل؛ فمِن ذلك: تحدِّي العرب أربابِ البلاغة والفصاحة أن يأتوا بمثل هذا القرآن؛ فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، ثم تَحداهم الله عز وجل أن يأتوا بعشر سُوَر، فقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38]، ثم تحداهم الله عز وجل أن يأتوا بسورة واحدة فقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38].

وكل مَن أرادَ أن يُجاري القرآن، لم يستطِع إلى ذلك سبيلاً؛ كمُسيلمة الكذاب وغيره من الكذابين، فهذا الكتاب المعجز فيه أصلُ كل خير، فيَنبغي لنا معاشر المُربِّين أن نَعود إليه، ونتلمَّس تربيتنا منه، ونَنطلِق منه وإليه.
 

ما أُنزِلَ القرآنُ كيما تُقتَنى *** منهُ التمائمُ في صُدورِ الرُّضَّعِ
ما أُنزِلَ القرآن كي يُتلى على *** قبرٍ تَمدَّد فيه مَيْتٌ لا يَعِي

ما أُنزلَ القرآن إلا منهجًا *** للناسِ يَهدفُ للنعيمِ الأمرَعِ
تُستنبَطُ الآياتُ مِن أحكامِه *** ويكونُ للتشريعِ أفضلَ مَرجِعِ


والحديث عن التربية بالوصف القرآني هو حديثٌ قديم، وله أصلٌ في أخبار سلفِنا الصالح؛ فمِن ذلك ما روي أنَّ الأحنفَ بن قيس كان جالسًا يومًا، فجال في خاطرِه قولُه تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، فقال: "عليَّ بالمُصحَف لألتمِسَ ذِكري؛ حتى أعلمَ مَن أنا ومَن أُشبِه"، فمرَّ بقوم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17-19]، ومرَّ بقوم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]، ومرَّ بقوم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، ومرَّ بقوم: {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، فقال تواضعًا منه: "اللهمَّ لستُ أَعرِف نفسي في هؤلاء"، ثم أخذَ يقرأ، ومرَّ بقوم: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، ومرَّ بقوم يُقالُ لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:42-44]، فقال: "اللهمَّ إني أبرأ إليكَ مِن هؤلاء"، حتى وقع على قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102]، فقال: "اللهم أنا مِن هؤلاء".

فاهتمام الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح بتربية أنفسهم على كتاب الله وسنة رسول الله كان مِن أصول التربية، وأسُس الثبات على المنهج، ومِن ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عُيَينة بن حصنٍ، فنزل على ابن أخيه الحُرِّ بن قيس، وكان مِن النفر الذين يُدنيهم عمر رضي الله عنه وكان القرَّاء -أي: أهل القرآن- أصحابَ مَجلِس عمر رضي الله عنه ومُشاورتِه، كهولاً كانوا أو شبانًا، فقال عُيَينة لابن أخيه: "يا بنَ أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه"، فاستأذنَ فأَذِن له عمر، فلما دخل قال: "هِي يا بن الخطاب، فوالله ما تُعطينا الجزلَ، ولا تَحكُم فينا بالعدل"، فغضب عُمر رضي الله عنه حتى همَّ أن يوقِعَ به، فقال له الحرُّ: "يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين"، والله ما جاوزَها عمر حين تلاها، وكان وقّافًا عند كتاب الله تعالى.

وأمثلة هذا كثير في سِيَر أئمتنا الكرام، وسنأتي على جزء منها في آخر المقالة.

ومِن الطرُق العملية، والخطوات التربوية في تدبُّر القرآن والتربية على الوصف القرآني ما ذكرتْه الدكتورة رُقيَّة العلواني في بحث بعنوان: (تدبُّر القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق)، ويُمكِن تلخيصُه في الخطوات التالية:

1- تعليم المتعلم عادات وسلوكيات قرآنية منذ نعومة أظافره؛ كتنظيم الوقت واستغلاله بشكل صحيح، وربط تلك السلوكيات بآيات القرآن، وإعطاء المتعلِّم حسب الفئات العُمريَّة تدريبات مِن القرآن الكريم؛ ليَستنبِط منها تلك السلوكياتِ، ومِن ذلك التركيز على الأخذ بالقصص القرآنية في التربية، والتعرُّف على الكون والحيوان والنفس مِن خلال النظر في آيات القران الكريم؛ ليَنشأ الجيل على الربط بين القرآن والكون والنفس.

2- توفير البيئة اللازمة لتنمية تدبُّر المسلم؛ مِن خلال نبذ التقليد، وتوعية الناس بأهمية التفكير السليم، والعودة إلى كتاب الله وتدبُّره، وترك الفُرقَة والنِّزاع، والبعد عن التكبُّر عن قَبول الحق، والإصغاء إلى الحقِّ؛ فالحِكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها، فهو أولى الناس بها.

3- تفعيل وسائل التدبُّر الإدراكيَّة للنفس، والتي أهمها السمع، وهو أساس العِلم المنقول، وقد أمر الله به وأثنى على أهله، وأخبرَ أن لهم البُشرى؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83].

4- إدراك القارئ أنه مخاطب مِن القرآن وآياته كما خوطِب بها السابقون، الأمر الذي يجعل القارئَ يلتفت إلى الآيات ويتدبَّر فيها، ما دام أنه استشعَر أنها موجَّهة له؛ يقول ابن القيم في ذلك: "أكثر الناس لا يَشعُرون بدخول الواقع تحته، وتضمُّنه له، ويَظنُّونه في نوع وفي قوم قد خلَوا مِن قبل، ولم يُعْقِبُوا وارثًا، وهذا هو الذي يَحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعَمرُ الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد وَرِثهم مَن هو مثلهم أو شرٌّ منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك".

5- الاهتمام بالتأني في التلاوة، فلا يكن همُّ القارئ أن ينتهي من السورة أو الجزء، بل ليكنْ همُّه الأول فهمَ المعاني وتدبُّرَها، ويمكن الاستعانة بالإعادة والتَّكرار للآيات في سبيل تحقيق ذلك.

6- الاهتمام باللغة العربية، والرجوع إلى المعاجم؛ لمعرفة معاني الكلمات التي تُشكِل عليه، إضافة إلى ضرورة النظر إلى كلام العلماء، وقراءة ما كتبوا في تفسير القرآن الكريم، فلا يأتي التدبُّر دون فَهمِ المعاني.

7- معرفه المعنى الإجمالي للآيات في البداية، وذلك من بعض التفاسير المعتمَدة المُختَصرة التي تتناول معاني الكلمات بإجمال، دون ضرورة الوقوف على التفاصيل والخوض في المطولات والشروح والروايات.

8- الاهتمام بالقراءة الشمولية لآيات القرآن وقصصِه وحواراتِه، دون القراءة التجزيئيَّة التي تَنتزِع كلمة أو آية معيَّنة مِن سياقها لإثبات رأي معيَّن، أو استِخلاص حكمٍ معيَّن.

9- الاهتمام بالمناسبات والروابط بين الآيات والسور، وهو علم دقيق تُعرَف به وجوه ارتباط أجزاء القرآن بعضها ببعض.

10- الاهتمام بمقاصد السور وأهدافها؛ فللقُرآن مقاصدُ وأهدافٌ، ولكلِّ سورة مَقصِدٌ خاصٌّ بها.

11- انشغال القلب والعقل بآيات القرآن والحياة معها، وصرف الذهن إلى الأجواء والظروف التي نزلت فيها.

12- عمل دورات وورش عمل تطبيقيَّة، يُشرِف عليها المُتخصِّصون في تدبُّر القرآن وتَشجيع ذلك، خاصة في مواسم المُسابقات الدولية لحفظ القرآن، والتي تُقام في أنحاء مُتعدِّدة مِن دول العالم الإسلامي.

13- استِحضار أهمية العمل والتطبيق لما يتدبَّره المسلم وما يتوصَّل إليه في واقعه وحياته؛ حتى يُصبِح القرآن واقعًا نَحياه، وسلوكًا عمليًّا نَسير على هُداه.

فهذه الخُطوات العملية للتربية على الوصف القرآني بحاجة إلى تطبيق، خذْ مثلاً آيات عباد الرحمنِ، وهي الآيات مِن 63-77 مِن سورة الفرقان، أو بداية سورة المؤمنون، وطبِّق عليها مثل هذه الخطوات العمليَّة لتصلَ بنفسِكَ إلى رُقيِّ درجات التربية، وتتمكَّن مِن تعديل سلوكك وفقَ مُراد الله سبحانه وتعالى.

اختم بحديثَين عن الصحابة رضوان الله عليهم في كيفيَّة تربيتهم لأنفسِهم على كتاب الله، فمِن ذلك ما رواه ابن مسعود، قال: "كان الرجل منا إذا تعلَّم عشرَ آيات، لم يُجاوزهنَّ حتى يَعرِف معانيهنَّ، والعمل بهنَّ".

ورُوي عن عبدالله بن عمر، يقول: "لقد عِشنا برهةً مِن دهر وأَحدُنا يرى الإيمان قبل القرآن، وتَنزِل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلَّم حَلالَها وحرامَها، وأَمرَها وزاجِرَها، وما يَنبغي أن نُوقَف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيتُ اليوم رجالاً يؤتى أحدُهم القرآنَ قبل الإيمان، فيَقرأ ما بين فاتحتِه إلى خاتمتِه، ولا يَدري ما أمره ولا زاجِرُه، ولا ما يَنبغي أن يقف عنده منه، ويَنثرُه نثرَ الدَّقَل".

اللهم اجعل القرآن ربيعَ قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، اللهم اجعل القرآن حجَّةً لنا، ولا تجعله حُجَّةً علينا، اللهم اجعلنا ممن يَقرؤه فيَرقى، ولا تجعلنا ممَّن يقرؤه فيَزل ويشقى، سبحان ربك رب العزة عما يَصِفُون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


همام بن عبد الرحمن الحارثي