دور الحج في حل مشكلات الأمة
من المعلوم أن لكل عبادة في الإسلام حكمة وهدف، وقد بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هذه الحكم بكل وضوح، فليست العبادات أفعال ظاهرية خالية من المقاصد والأهداف، بل هي أفعال تحمل في جوهرها الكثير من المصالح للعباد في المعاش إضافة لكونها سبب نجاتهم في المعاد.
- التصنيفات: ملفات الحج وعيد الأضحي -
من المعلوم أن لكل عبادة في الإسلام حكمة وهدف، وقد بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هذه الحكم بكل وضوح، فليست العبادات أفعال ظاهرية خالية من المقاصد والأهداف، بل هي أفعال تحمل في جوهرها الكثير من المصالح للعباد في المعاش إضافة لكونها سبب نجاتهم في المعاد.
ومن المعلوم أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ذهبا إلى القول بأنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة، عَقِل ذلك من عقله وخفي على من خفي عليه، ومع كون المسلم مأمور بأداء العبادة تعبدا حتى لو لم تتبين له مقاصدها وحكمتها طاعة وتسليما لله تعالى، إلا أنه بنفس الوقت محتاج لإدراك أسرار التشريع وحكم العبادات ليزداد يقينا بحكمة الشارع.
فالصلاة صلة بين العبد وربه، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]. والزكاة تطهر نفس الإنسان وماله، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، إضافة لكونها تحقق التكافل الاجتماعي في المجتمع.
وهدف الصيام تحقيق صفة التقوى في نفس المسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، إضافة لتقوية الإرادة في النفس وتذكر الفقراء وتعليم الصبر وغير ذلك. والحج كذلك له أهداف عظيمة وحكم جليلة، فإضافة لكونه عبادة العمر وفريضة الحياة، فهو يتضمن منافع الدين والدنيا معا كما قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
ومع اختلاف المفسرين في المقصود بالمنافع في هذه الآية، بين العفو والمغفرة الذي وعد الله تعالى به المسلم الحاج بالخروج من الذنوب والخطايا كيوم ولدته أمه كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (مسلم: 3358)، أو أنها التجارة كما قال آخرون، أو أكل اللحم وادخاره كما قالت طائفة ثالثة، فإن من أعظم منافع الحج شهود الأمة بعضهم لبعض، والتقاء المسلمين بعضهم لبعض، وما في ذلك من الوحدة الإسلامية التي جاءت فيها الآية: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52]، بما يرسخ معاني أن الدين واحد، وأن هذه الأمة إذا التقت على دين واحد واجتمعت على دين واحد فهذا أعظم المنافع، كما قال الشنقيطي في تفسيره.
لقد تضمنت هذه الأية الكريمة كل المنافع المتصورة دينيا ودنيويا، فرديا وجماعيا، حتى أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى قال: إن هذه الآية لا يصار فيها إلى قول دون قول؛ بل إن المنافع تشمل ما ذكر وتشمل كل ما فيه منفعة للحاج، فكل ما فيه منفعة للحاج في أمر دينه ودنياه في أمر دنياه وفي أمر آخرته، فإن شهوده ذلك في الحج من مقاصد الحج.
وإذا كان الأمر كذلك فإن حل مشكلات الأمة في موسم الحج يدخل ضمن عموم الآية الكريمة، فهو منفعة وأي منفعة، إضافة لكونه حاجة وضرورة إسلامية ملحة تقتضي تقديمه على أي منفعة أخرى، نظرا لما تعانيه الأمة من أزمات ومشكلات تنوء بحملها الجبال الراسيات. إن حجم المشكلات والأزمات التي تعاني منها الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر لا تقتصر على ناحية واحدة بعينها، بل تشمل الجوانب الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أما الجانب الديني العقائدي فعدد لا بأس به من المسلمين يشوب عقيدته الكثير من الشوائب والدخل، وهي تحتاج بلا شك لمعالجة وتصحيح، وموسم الحج أفضل مناسبة لذلك، وقد تصل خطورة تشوه العقيدة عند البعض إلى حد البدع والشرك والكفر والعياذ بالله تعالى، رغم ادعائه بأنه مسلم ويأتي لموسم الحج، ولعل كثرة الفرق الضالة التي تدعي الانتساب إلى الإسلام وهو منها براء أكبر دليل على ذلك، ولا يشك مسلم عاقل في أثر اختلاف المسلمين في بعض مسائل العقيدة على الأمة، حيث يستغل هذا الخلاف للإيقاع بين المسلمين بعضهم ببعض، ناهيك عن كون التفرق بحد ذاته عامل ضعف للمسلمين وعامل قوة لعدوهم.
ولا بد إزاء هذه المشكلة والمعضلة من إيجاد السبل الكفيلة بحلها، وذلك من خلال الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر القرآن الكريم، وكما فعل صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام مع بعض هذه الفرق، فهو بلا شك خير سبيل للخروج من هذه الأزمات، ولا شك أن موسم الحج يشكل فرصة ذهبية لعقد أمثال هذه النقاشات والحوارات، التي يمكن أن تؤدي إلى جمع المسلمين على أسس وقواعد عقائدية واحدة، مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لقد استثمر النبي صلى الله عليه وسلم موسم الحج واجتماع المسلمين لبيان ثوابت وقواعد العقيدة الإسلامية الصافية والدين الحنيف، حتى يكونوا على بينة من ثوابت دينهم ولا يختلفوا فيها بعد ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة المانعة في حجة الوداع: «أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ، كُلكُّمْ لآدمَ، وآدمُ من تُراب». وقال أيضا: «فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه».
وفي الجانب السياسي يمكن أن يشكل موسم الحج مناسبة فريدة من نوعها لحل الأزمات السياسية العالقة بين الدول العربية والإسلامية، بل ومحاولة تطويرها بما يعود بالنفع والفائدة على المسلمين جميعا، وفي تاريخنا الإسلامي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد أهم مؤتمر سياسي في موسم الحج، حيث تمت بيعة العقبة الأولى والثانية في موسم الحج، والذي تم فيها إسلام وفد من أنصار المدينة المنورة ومبايعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصرة والمنعة إذا هاجر إليهم، والتي تعتبر أهم بيعة في تاريخ الإسلام، بل وأهم مؤتمر وحدث سياسي في تاريخ الدعوة الإسلامية.
كما أن أمير المؤمنين عمر كان يستثمر موسم الحج للاطلاع على شؤون رعيته وتدبير أمورهم، وحل أي مشكلة عالقة، كما أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يجمع ولاته في موسم الحج ويدير الأزمة والفتنة التي حصلت في عهده رضي الله عنه، وقد كان الحج فرصة لخلفاء المسلمين لحل مشكلات الأمة الإسلامية، فقد كانوا يعتبرون الحج موسما و مؤتمرا عاما للمسلمين.
أما الجانب الاقتصادي فله في موسم الحج حديث ذو شجون، حيث الثروات الطبيعية الهائلة والمتنوعة التي قد حباها الله تعالى للأمة الإسلامية، والتي إن استثمرت بشكل جماعي وصحيح عادت بالنفع على جميع الأقطار العربية والإسلامية، بل وجعلتها في مصاف دول العالم رفاهية وازدهارا اقتصاديا واجتماعيا وعلميا. وكم ارتفعت الأصوات باستثمار موسم الحج لجعله مؤتمرا اقتصاديا إسلاميا سنويا لدراسة مجالات التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية، والذي قد يفضي إلى ما يسمى بالسوق العربية أو الإسلامية المشتركة، وذلك على غرار السوق الأوربية المشتركة، فنحن كمسلمين أولى من الأوربيين بهذا التعاون، وفي قرآننا قول الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، والتي فسرت بداية كما سبق بالتجارة، وهي إشارة إلى أهمية موسم الحج اقتصاديا وتجاريا.
وعن الناحية الاجتماعية فالحج فرصة نادرة للتعارف والتآلف بين المسلمين في شتى أنحاء العالم، وإزالة الفوارق الاجتماعية القطرية والقومية التي وضعها الاستعمار بطريق المسلمين، والتي أبعدت المسلمين عن حقيقة أخوتهم الإسلامية التي قررها الله تعالى في القرآن الكريم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، والتي أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظريا بقوله: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (البخاري برقم 2442)، كما أكدها عمليا حين آخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة.
الحج في الحقيقة فرصة للتعرف على أحوال المسلمين التي تزداد سوءا يوما بعد يوم في كل من سوريا وفلسطين والعراق والصومال وبورما وغيرها من البلاد الإسلامية، والبحث عن حلول جذرية لها، ولا يكون ذلك إلا بالتعاون والتنسيق بين مختلف المؤسسات الحكومية وغير الحكومية الإسلامية.
لقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجانب الاجتماعي في حجة الوداع، وقد أعرب عن ذلك من خلال خطبة حجة الوداع، حيث اختص المرأة بخطبته قائلا: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله... ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
كما اختص الجانب الاجتماعي الإسلامي بشكل عام، فحذر من انتهاك حرمة دم المسلم التي تراق الآن دون حساب، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». وأوضح كذلك أن التفاضل بين الناس بالتقوى والعمل الصالح فقال: «إن أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد».
إن موسم الحج في الحقيقة ليس مجرد مناسك تؤدى، بل هو فرصة سنوية حقيقة لحل مشاكل الأمة والارتقاء بها إلى المستوى الذي وضعها الله تعالى فيه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
عامر الهوشان