احذروا يوم الأذان

دخل رجلٌ على سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله والأذان، قال سليمان: أما أنشدك الله فقد عرفناه، فما الأذان؟ قال: قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالمِينَ} [الأعراف:44] قال سليمان: ما ظلامتك؟ قال: ضيعتي الفلانية، غلبني عليها عاملك فلان، فنزل سليمان عن سريره، ورفع البساط، ووضع خده على الأرض، وقال: والله لا أرفع خدي عن الأرض حتى يكتب له برد ضيعته.

  • التصنيفات: تزكية النفس -


دخل رجلٌ على سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله والأذان، قال سليمان: أما أنشدك الله فقد عرفناه، فما الأذان؟ قال: قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالمِينَ} [الأعراف:44] قال سليمان: ما ظلامتك؟ قال: ضيعتي الفلانية، غلبني عليها عاملك فلان، فنزل سليمان عن سريره، ورفع البساط، ووضع خده على الأرض، وقال: والله لا أرفع خدي عن الأرض حتى يكتب له برد ضيعته.

وقفة:
بالعدل قامت السماوات والأرض، وبالعدل تدوم الدول، ويستمر الملك، وتفشو المحبة والطمأنينة بين أفراد الأمة، ولن يتحقق العدل إلا إذا رزق الحاكم قسطاً وافراً من خشية الله عز وجل، إذ بها يعفُّ عن ظلم رعيته، ويمنع أهله وأعوانَه التسلطَ والأذى.

ولا يمكن نشر العدل إلا باستعمال وزراء صدق، واتخاذ بطانة من أهل الخير، ذوي الصلاح والتقى، فالبطانة دائماً تكون صورته التي يقابل بها الناس، وجميع تصرفاتهم محسوبة عليه، يتحمل تبعتها، ويجني ثمرتها.

ولا يعفيه من المسؤولية استعمالُ مثل هؤلاء الأعوان، حتى يكون عيناً يقظة على تصرفاتهم وسلوكهم، وكيفية تعاملهم مع الناس.

ولا يستطيع ذلك من أغلق بابَه دون رعيته، وحال بينه وبينهم الحرسُ والحجاب ومنعوه سماع الشكوى.

إن المظلومين يلجئون إلى حاكمهم ليرفع عنهم حيفَ وظلمَ من دونه، فإن هم حجبوا عنه، ومنعوا مقابلته فماذا عساهم فاعلون؟

إن أمامهم باباً لا يحجب، يلجونه متى شاءوا، ويرفعون إليه مظالمهم متى أرادوا؛ لقد تكفل الله عز وجل ألا يرد سائلاً، ولا يخيب داعياً، وأقسم أن ينصر المظلوم ولو بعد حين.

فلا يعجبن أهل الحرس والحجاب -بعد ذلك- إذا ما تبدل حالُهم، وتضعضع ملكُهم، وصبت عليهم أنواع الأزمات، إنهم لو تفكروا لأدركوا أنهم ما أصيبوا بكارثة إلا بسبب ظلمهم، واستخفافهم بدعوات المظلومين، التي تحولت إلى سهام صائبات، أصابت منهم المقاتلَ وهم لا يعلمون.
 

سهامُ الليل لا تُخطي ولكن *** لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ


نعم إنها لا تخطئ ولا تخيب، ولكنها قد تتأخر إلى الأجل المضروب لها في علم الله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ . عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:8-9]، يسمع ويرى، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

مفاهيم خاطئة:
كثيراً ما يعتذر أصحاب السلطة بأنهم ورثوا تركاتٍ مثقلة بالمشاكل، وأن حلها يحتاج إلى وقت طويل، وهم إن وفقوا في بعضها، فإن الكثير منها مما يستعصي على الحلول، وغير ذلك من الحجج التي لا تغني عنهم شيئاً.

ولعل في موقف سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي خيرَ مثال على إمكان التغيير متى صحت النية، ووجد العزم والتصميم.

لقد ورث سليمان خلافة حولها بعضُ من سبقه إلى ملك عضوض، وحصل فيها من التجاوزات ما سارت بحديثة الركبان، ولكنه لم يضعف أمامه، ولا ترك نفسه فريسة للشيطان وأعوان السوء، يتقاذفونه حسب أهوائهم ومصالحهم، بل شمر عن ساعد الجد، واستعان بوزراء الصدق، وعلى رأسهم عمرُ بن عبد العزيز، وأعطى من نفسه المثلَ في الالتزام والإنصاف وطلع كوكباً مضيئاً في ظلمة الخطوب، وبدأ مسيرته نحو الخلافة الراشدة فأحيا السنن، وأمات البدع، ورد الأمور إلى ميقاتها الأول. فعل كل هذا ولم تزد مدة خلافته عن سنتين وثمانية أشهر.

ولما أحسَّ بدنو الأجل عهد إلى الرجل الرباني مجدد الدين عمر بن عبد العزيز فنصح بذلك الأمة في حياته، وبعد مماته.

فليت الذين بأيديهم أمور أمة محمد يعتبرون.

ليتهم يتقون الله، ليحفظ لهم ملكهم، ويبسط عليهم رحمته.

ليتهم يدرسون سيرة أسلافهم، ويترسمون خطاهم.

إنهم إن فعلوا أفلحوا وإن أعرضوا خابوا وخسروا.

فيا خسارة نفس في تجارتها لم تشترِ الدين بالدنيا ولم تَسُمِ.


محمد يوسف الجاهوش
 

المصدر: كتاب رجال ومواقف