الأخلاق أهميتها وفوائدها
إن الخُلق هو أبرز ما يراه الناسُ، ويُدركونه من سائر أعمال الإسلام؛ فالناس لا يرون عقيدةَ الشخص؛ لأن محلَّها القلبُ، كما لا يرون كلَّ عباداته، لكنهم يرَوْن أخلاقه، ويتعاملون معه من خلالها؛ لذا فإنهم سيُقيِّمون دِينَه بِناءً على تعامله، فيحكُمون على صحتِه من عدمه عن طريق خُلقه وسلوكه، لا عن طريق دعواه وقوله، وقد حدَّثَنا التاريخ أن الشرق الأقصى ممثَّلاً اليوم في إندونسيا والملايو والفلبين وماليزيا، لم يعتنقْ أهلُها الإسلام بفصاحة الدعاة، ولا بسيف الغزاة، بل بأخلاقِ التجَّار وسلوكِهم.
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على هديه إلى يوم الدين، وبعد:
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتممَ مكارم الأخلاق» [1]. فكأن مكارمَ الأخلاق بناء شيَّده الأنبياء، وبُعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتم هذا البناء، فيكتمل صرح مكارم الأخلاق ببِعثته صلى الله عليه وسلم ولأن الدِّينَ بغير خُلق كمحكمة بغير قاضٍ، كذلك فإن الأخلاقَ بغير دِين عبث، والمتأمل في حال الأمَّة اليوم يجد أن أَزْمَتَها أزمةٌ أخلاقية؛ لذلك نتناول في هذه السلسلة بعضَ المفاهيم الأخلاقية، وبعضَ محاسن الأخلاق التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومساوئ الأخلاق التي يجبُ على المسلم أن يتخلَّى عنها.
مفهوم الأخلاق لغة واصطلاحًا:
الخلق لغة: هو السَّجيَّة والطَّبع والدِّين، وهو صورة الإنسان الباطنية، أما صورة الإنسان الظاهرة فهي الخُلق؛ لذلك كان من دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «... واهدِني لأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرِفْ عني سيِّئَها، لا يصرِفُ عني سيِّئها إلا أنت» (رواه مسلم). ويوصَفُ المرءُ بأنه حسَنُ الظاهر والباطن إذا كان حسَنَ الخَلْق والخُلُق.
والخُلق اصطلاحًا:
عبارة عن هيئة في النفس راسخةٍ تصدُرُ عنها الأفعالُ بسهولةٍ ويُسرٍ، من غير حاجة إلى فكرٍ ولا رويَّة، وهذه الهيئة إما أن تصدُرَ عنها أفعالٌ محمودة، وإما أن تصدُرَ عنها أفعالٌ مذمومةٌ، فإن كانت الأولى، كان الخُلُق حسَنًا، وإن كانت الثانية، كان الخُلُق سيِّئًا.
هناك فَرْقٌ بين الخُلُق والتخلُّق؛ إذ التخلُّق هو التكلُّف والتصنُّع، وهو لا يدوم طويلاً، بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلَّف لا يسمَّى خُلقًا حتى يصير عادةً وحالةً للنفس راسخةً، يصدُرُ عن صاحبِه في يُسر وسهولة؛ فالذي يصدُقُ مرة لا يوصَفُ بأن خُلقَه الصدقُ، ومن يكذِبُ مرَّةً لا يقال: إن خُلقَه الكذب، بل العبرةُ بالاستمرار في الفعل، حتى يصيرَ طابعًا عامًّا في سلوكه.
أهمية الأخلاق:
أهمية الأخلاق ومكانتها في الإسلام:
يمكن تبيُّن أهمية الأخلاق في الإسلام من عدة أمور، منها [2]:
أولاً: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية من بِعثته الدعوة للأخلاق. فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثْتُ لأتممَ مكارم الأخلاق». لقد بين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب أهمية الخُلق، بالرغم من أنه ليس أهمَّ شيء بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أجله؛ فالعقيدة أهم منه، والعبادة أهم منه، ولكن هذا أسلوب نبوي لبيان أهمية الشيء، وإن كان غيرُه أهمَّ منه، فإن قال قائل: ما وجه أهمية الخُلق حتى يقدَّم على العقيدة والعبادة؟
فالجواب: إن الخُلق هو أبرز ما يراه الناسُ، ويُدركونه من سائر أعمال الإسلام؛ فالناس لا يرون عقيدةَ الشخص؛ لأن محلَّها القلبُ، كما لا يرون كلَّ عباداته، لكنهم يرَوْن أخلاقه، ويتعاملون معه من خلالها؛ لذا فإنهم سيُقيِّمون دِينَه بِناءً على تعامله، فيحكُمون على صحتِه من عدمه عن طريق خُلقه وسلوكه، لا عن طريق دعواه وقوله، وقد حدَّثَنا التاريخ أن الشرق الأقصى ممثَّلاً اليوم في إندونسيا والملايو والفلبين وماليزيا، لم يعتنقْ أهلُها الإسلام بفصاحة الدعاة، ولا بسيف الغزاة، بل بأخلاقِ التجَّار وسلوكِهم، من أهل حضرموت وعمان؛ وذلك لما تعاملوا معهم بالصدق والأمانة والعدل والسماحة. وإن مما يؤسَفُ له اليوم أن الوسيلةَ التي جذبت كثيرًا من الناس إلى الإسلام هي نفسها التي غدَت تصرِفُ الناس عنه؛ وذلك لما فسَدت الأخلاق والسلوك، فرأى الناس تباينًا بل تناقضًا بين الادِّعاء والواقع!
ثانيًا: تعظيم الإسلام لحُسن الخُلق:
لم يعُدِ الإسلام الخلق سلوكًا مجرَّدًا، بل عده عبادةً يؤجر عليها الإنسان، ومجالاً للتنافس بين العباد؛ فقد جعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم أساسَ الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة، فقال: «إن أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجلسًا، أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرة أسوَؤُكم أخلاقًا، الثَّرثارون المُتفَيْهِقون المُتشدِّقون» (السلسلة الصحيحة: 2/379). وكذلك جعَل أجر حُسن الخُلق ثقيلاً في الميزان، بل لا شيء أثقلُ منه، فقال: «ما من شيءِ أثقلَ في الميزان مِن حُسن الخُلق» (صحيح أبي داوود: 4799). وجعَل كذلك أجرَ حُسن الخُلق كأجرِ العبادات الأساسية، مِن صيام وقيام، فقال: «إن المؤمنَ لَيُدركُ بحُسن خلقه درجةَ الصائمِ القائم» (صحيح الترغيب: 2643)، بل بلَغ من تعظيم الشارع لحُسن الخُلق أنْ جعَله وسيلة من وسائل دخول الحنة؛ فقد سُئل صلى الله عليه وسلم عن أكثرِ ما يُدخِل الناسَ الجنَّةَ؟ فقال: «تقوى اللهِ وحُسن الخُلق» (صحيح الترمذي)، وفي حديث آخرَ ضمِن لصاحب الخُلق دخولَ الجنة، بل أعلى درجاتها، فقال: «أنا زعيمٌ ببيت في ربَضِ أطراف الجنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ وإن كان محقًّا، وببيتٍ في وسَط الجنة لِمَن ترَك الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لمن حسُن خلُقه» (صحيح أبي داوود).
ثالثًا: أنها أساس بقاء الأمم:
فالأخلاق هي المؤشِّر على استمرار أمَّة ما أو انهيارها؛ فالأمة التي تنهار أخلاقُها يوشك أن ينهارَ كيانُها، كما قال شوقي:
وإذا أُصيب القومُ في أخلاقِهم *** فأقِمْ عليهم مأتَمًا وعويلا
ويدلُّ على هذه القضية قولُه تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
رابعًا: أنها من أسبابِ المودة، وإنهاء العداوة:
يقول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. والواقع يشهد بذلك، فكم من عداوةٍ انتهت لحُسن الخُلق؛ كعداوة عمرَ وعكرمة، بل عداوة قريش له صلى الله عليه وسلم . ومن هنا قال: «إنكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم ، ولكن يَسَعهم منكم بَسْطُ الوجهِ ، وحُسْنُ الخُلُقِ» (صحيح الترغيب)، يقول أبو حاتم رحمه الله: "الواجب على العاقل أن يتحبَّب إلى الناس بلزوم حُسن الخُلق، وتَرْكِ سوء الخُلق؛ لأن الخُلق الحسَن يُذيب الخطايا كما تذيب الشمسُ الجليد، وإن الخُلق السيِّئ لَيُفسد العمل، كما يفسد الخلُّ العسلَ".
خامسًا: إن الخُلق أفضلُ الجمالينِ:
الجمال جمالان؛ جمال حسي، يتمثل في الشَّكل والهيئة والزينة والمركَب والجاه والمنصب، وجمال معنوي، يتمثل في النفس والسلوك والذكاء والفطنة والعلم والأدب، كما قال القائل:
ليس الجمالُ بأثواب تُزيِّنُنا *** إن الجمالَ جمالُ العلم والأدبِ
وقال الشاعر:
ليس الجمالُ بمئزرٍ *** فاعلم وإن رُدِّيت بردا
إن الجمالَ مناقب *** ومعادن أورثن حمدا
وقد ذكر اللهُ أن للإنسان عورتينِ؛ عورة الجسم، وعورة النفس، ولكل منهما ستر؛ فستر الأولى بالملابس، وستر الثانية بالخُلق، وقد أمر الله بالسترين، ونبَّه أن الستر المعنوي أهمُّ من الستر الحسي فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]؛ فطهارةُ الباطن أعظمُ من طهارة الظاهر.
ما يُعين على اكتساب الأخلاق[3]:
هناك أسباب ووسائل، يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب حُسن الخُلق، ومن ذلك ما يلي:
1- سلامة العقيدة: فالسلوك ثمرة لِما يحمله الإنسانُ من فكر ومعتقد، وما يَدين به من دِين، والانحراف في السلوك ناتجٌ عن خَلَل في المعتقد؛ فالعقيدة هي الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم أخلاقا؛ فإذا صحت العقيدة، حسُنَتِ الأخلاقُ تبعًا لذلك؛ فالعقيدة الصحيحة تحمل صاحبَها على مكارم الأخلاق، كما أنها تردَعُه عن مساوئِ الأخلاق.
2- الدعاء: فيلجأ إلى ربه، ليرزقه حُسن الخُلق، ويصرف عنه سيِّئه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعاء الاستفتاح: «... اهدِني لأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلَّا أنتَ، واصرف عنِّي سيِّئَها، لا يصرفُ عنِّي سيِّئَها إلَّا أنتَ» (رواه مسلم)، وكان يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن منكَراتِ الأخلاق والأعمالِ والأهواءِ» (رواه الترمذي).
3- المجاهدة: فالخُلق الحسَن نوع من الهداية، يحصل عليه المرء بالمجاهدة؛ قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرءُ نفسَه مرة، أو مرتين، أو أكثر، بل تعني أن يجاهد نفسَه حتى يموت؛ ذلك أن المجاهدة عبادة، والله يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
4- المحاسَبة: وذلك بنقدِ النفس إذا ارتكبت أخلاقًا ذميمة، وحملها على ألا تعود إليها مرة أخرى، مع أخذِها بمبدأ الثواب، فإذا أحسَنَت أراحها، وأرسَلها على سجيتِها بعض الوقت في المباح، وإذا أساءت وقصَّرت، أخَذها بالحزمِ والجد، وحرَمها مِن بعض ما تريد.
5- التفكر في الآثار المترتبة على حُسن الخُلق: فإن معرفة ثمرات الأشياء، واستحضار حُسن عواقبها، من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتمثُّلها، والسعي إليها، والمرء إذا رغِب في مكارم الأخلاق، وأدرك أنها من أولى ما اكتسبته النفوس، وأجلُّ غنيمة غنِمها الموفَّقون، سهُل عليه نيلُها واكتسابها.
6- النظر في عواقب سوء الخُلق: وذلك بتأمُّل ما يجلبه سوءُ الخُلق من الأسف الدائم، والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق؛ فذلك يدعو المرءَ إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها.
7- الحذر من اليأس من إصلاح النفس: فهناك مَن إذا ابتلي بمساوئ الأخلاق، وحاول التخلُّص من عيوبه فلم يُفلح أيِس من إصلاح نفسه، وترَك المحاولة، وهذا الأمر لا يحسُن بالمسلم، ولا يليق به، بل ينبغي له أن يقوِّيَ إرادته، وأن يسعى لتكميل نفسه، وأن يجدَّ في تلافي عيوبه؛ فكم من الناس مَن تبدَّلت حاله، وسمَتْ نفسُه، وقلت عيوبه بسبب مجاهدته، وسعيه، وجدِّه، ومغالبته لطبعه.
8- علو الهمة: فعلو الهمة يستلزم الجد، ونشدان المعالي، والترفُّع عن الدنايا ومحقرات الأمور، والهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجُره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل، حتى ترفَعَه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسُّؤدَد؛ قال ابن القيم رحمه الله : "فمن علَتْ همتُه، وخشعت نفسه، اتصف بكل خُلق جميل، ومن دنت همتُه، وطغت نفسُه، اتصف بكل خُلق رذيل". وقال رحمه الله : "فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقعُ عليها كما يقع الذبابُ على الأقذار؛ فالنفوس العليَّة لا ترضى بالظُّلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة ولا بالخيانة؛ لأنها أكبرُ من ذلك وأجلُّ، والنفوس المَهِينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك". فإذا توفر المرءُ على اقتناء الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرضَ من منقبة إلا بأعلاها، لم يقفْ عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها.
9- الصبر: فالصبر من الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها الخُلق الحسن، فالصبر يحمل على الاحتمال، وكَظْم الغيظ، وكف الأذى، والحِلْم، والأناة، والرفق، وترك الطيش والعجلة.
وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي شَيْءٍ تَطَلَّبَهُ *** وَاسْتَشْعَرَ الصَّبْرَ إلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ
10- العفة: فهي تحمل على اجتناب الرذائل من القول والفعل، وتحمل على الحياء؛ وهو رأسُ كلِّ خير، وتمنع من الفحشاء.
11- الشجاعة: فهي تحمل على عزة النفس، وإباء الضيم، وإيثار معالي الأخلاق والشِّيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس، وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وهي تحمل صاحبَها على كظم الغيظ، والحِلْم.
12- العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق، وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط.
13تكلُّف البِشْرِ والطَّلاقة، وتجنُّب العبوس والتقطيب: قال ابن حبان رحمه الله: "البشاشة إدامُ العلماء، وسجيَّة الحكماء؛ لأن البِشْرَ يُطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجانَ المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي"، وقيل للعتابي: إنك تلقى الناسَ كلَّهم بالبِشْر، قال: دفعُ ضغينة بأيسرِ مؤونة، واكتساب إخوانٍ بأيسرِ مبذول.
وما اكتسب المحامدَ حامدوها *** بمثلِ البِشْرِ والوجهِ الطَّليق
بل إن تبسُّم الرجل في وجه أخيه المسلم صدقةٌ يثاب عليها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أخيك لك صَدَقَةٌ» (رواه الترمذي). والابتسام للحياة يُضيئها، ويُعين على احتمال مشاقِّها، والمبتسمون للحياة أسعدُ الناس حالاً لأنفسهم ومن حولهم، بل هم أقدرُ على العمل، وأكثر احتمالاً للمسؤولية، وأجدرُ بالإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم، وتنفع الناس؛ فذو النفس الباسمة المشرقة يرى الصعابَ فيلذُّه التغلُّبُ عليها، ينظرها فيبتسم، وينجح فيبتسم، ويُخفِقُ فيبتسم، وإذا كان الأمرُ كذلك، فأحرى بالعاقلِ ألا يُرَى إلا متهلِّلاً.
14- التغاضي والتغافل: وهو من أخلاقِ الأكابر، ومما يُعينُ على استبقاء المودَّة واستجلابها، وعلى وَأْدِ العداوة، وإخلاد المباغَضة، ثم إنه دليلٌ على سموِّ النفس، وشفافيتها، قال ابنُ الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي: "وكان صبورًا على ما يكرَه، كثيرَ التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعلِمه بذلك، ولا يتغيَّر عليه، وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعضُ المماليك بعضًا بسرموز (يعني: بنعل) فأخطأته، ووصَلت إلى صلاحِ الدين فأخطأته، ووقَعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يُكلِّم جليسَه؛ ليتغافل عنها". وكان الشيخ محمد الأمين الشنقيطيُّ رحمه الله كثيرَ التغاضي عن كثيرٍ من الأمور في حقِّ نفسه، وحينما يُسأَلُ عن ذلك كان يقولُ:
ليس الغبيُّ بسيدٍ في قومه *** لكنَّ سيِّدَ قومِه المتغابي
15- الإعراض عن الجاهلين: فمن أعرَض عن الجاهلين حمى عِرْضَه، وأراح نفسه، وسلِم من سماع ما يؤذيه؛ قال عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. فبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجلُ على نفسه عزتَها، والعرب تقول: "إن من ابتغاء الخيرِ اتقاءَ الشرِّ"، ورُوي أن رجلاً نال من عمرَ بن عبد العزيز، فلم يُجِبْه، فقيل له: ما يمنعك منه؟ قال: التُّقى مُلجِمٌ.
16- العفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان: فهذا سبب لعلوِّ المنزلة، ورِفعة الدرجة؛ قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «وما زاد اللهُ عبدًا بعفو إلَّا عزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رفعه اللهُ»؛ رواه مسلم، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "أحبُّ الأمور إلى اللهِ ثلاثة: العفو عند المقدرة، والقصد في الجدةِ، والرِّفق بالعَبَدَةِ"، وقال الشافعي رحمه الله:
أرحتُ نفسي من ظلم العدواتِ *** لَمَّا عفوتُ ولم أحقِدْ على أحدِ
فإذا كان الأمر كذلك، فإنه يجدر بالعاقل كما قال ابن حبان: "توطين نفسه على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة؛ إذ لا سبَبَ لتسكين الإساءة أحسنُ من الإحسان، ولا سبب لنماءِ الإساءة وتهييجها أشدُّ من الاستعمال بمثلِها".
17- الرضا بالقليل من الناس، وترك مطالبتهم بالمثل: وذلك بأن يأخُذَ منهم ما سهُل عليهم، وطوعت له به أنفسُهم سماحة واختيارًا، وألا يحملهم على العَنَتِ والمشقَّةِ؛ قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فوائد الأخلاق:
من فوائد حُسن الخُلق:
1- حسن الخلق من أفضل ما يقرِّبُ العبد إلى الله تعالى.
2- إذا أحسن العبدُ خُلقه مع الناس أحبَّه الله والناس.
3- حَسَن الخُلق يألَفُ الناسَ، ويألَفُه الناسُ.
4- لا يكرم العبد نفسه بمثل حُسن الخُلق، ولا يُهينها بمثل سوئِه.
5- حُسن الخُلق سبب في رفع الدرجاتِ وعلو الهمم.
6- حُسن الخلق سبب في حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرب منه يوم القيامة.
7- حُسن الخلق يدل على سماحة النفس وكَرَمِ الطَّبع.
8- حسن الخلق يحوِّل العدوَّ إلى صديق.
9- حُسن الخلق سبب لعفو الله، وجالبٌ لغفرانه.
10- يمحو الله بحُسن الخُلق السيئات.
11- يُدرِكُ المرءُ بحُسن خُلقه درجةَ الصائم القائم.
12- حُسن الخُلق من أكثرِ ما يُدخِلُ الناسَ الجنَّةَ.
13- حُسن الخُلق يجعل صاحبَه ممن ثقلت موازينه يوم القيامة.
14- حسن الخلق يحرِّمُ جسدَ صاحبه على النار.
15- حُسن الخلق يُصلِحُ ما بين الإنسان وبين الناس.
16- وبالخلق الحسَن يكثر المُصافُون، ويقِلُّ المعادون.
نماذج من الأخلاق الحميدة:
ومن حسن الخلق: برُّ الوالدين، وصلة الأرحام، وليس الواصل بالمكافئِ، ولكن الواصل الذي إذا قَطَعت رحِمُه وصَلها.
ومن حُسن الخلق: الإحسانُ إلى الجيران، وإيصال النفع إليهم.
ومن حُسن الخُلق: إفشاء السلام على الخاص والعام، وطِيب الكلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام؛ فقد بشر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من كان كذلك بدخول الجنة بسلام.
ومن حسن الخُلق: أن تسلِّمَ على أهل بيتك إذا دخَلْتَ عليهم، وهذه سنَّة مشهورة، وقد أصبحت عند الكثير من الناس اليوم مهجورة، مع أنها بركة على الداخل المسلِّم وأهل بيته، كما بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن حسن الخلق: معاشرة الزوجة بالإكرام والاحترام، وبشاشة الوجه، وطيب الكلام؛ قال صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (السلسلة الصحيحة).
ومن حُسن الخُلق: معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء، وترك التنكُّر لهم والجفاء، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والنصيحة لهم؛ فذلك من أهم أخلاق الإيمان والديانة.
ومِن حُسن الخلق: استعمال النظافة في الجسم والثياب، وفي المنزل؛ فإن الله جميلٌ يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، وإن الله إذا أنعم على عبدِه نعمة يحبُّ أن يرى أثرَها عليه.
من فوائد الأخلاق للفرد والمجتمع:
1- نشر الأمن والأمان بين الأفراد والمجتمع.
2- وجود الأُلفة والمحبة بين الناس.
3- سيادة التعاون والتكافل الاجتماعي بين المجتمع؛ فالمسلمون أمة واحده، يعطف غنيُّهم على فقيرهم.
4- نبذ الفُرقة والخلاف وما يمزق المجتمعَ، والالتزام بالقِيَم والمبادئ.
5- المساهمة في خدمة المجتمع، ورفع معاناته، وتقديم ما يفيد للأمة والبشرية؛ فالمؤمن مثل الغيثِ أينما حلَّ نفَع.
6- الإيجابية في المجتمع، وتفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشتملاً على أسسه وقواعده دون تنفير للناس، أو تغييب للشريعة وتعاليمها.
7- بذل الخير للناس بحب وسعادة غامرة، وتفعيل الإنتاج، وثقافة البذل والعطاء بين المجتمع.
8- بث روح التسامح ونشرها بين الناس، تحت شعار: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، ونحو مجتمع راقٍ تسودُه الألفة والمحبة.
ــــــــــــ
المراجع:
• معالم الشخصية الإسلامية المعاصرة، منقول.
• رسالة: (الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة) للشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي.
• الأخلاق في حياة ودعوة الأنبياء عليهم السلام، (الشبكة الإسلامية)، الدكتور سعيد عبد العظيم.
• الأخلاق من القرآن الكريم، خطبة عباد بن عباد الخواص الشامي أبي عتبة، موسوعة الشحوذ.
[1] سنن البيهقي، وصححه الألباني في الصحيحة.
[2] معالم الشخصية الإسلامية المعاصرة، منقول.
[3] رسالة:الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة، للشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي.
عبد السلام حمود غالب