المسلمون المنسيون في روسيا

قد أصدرت محكمة روسية بمدينة نوفوسيبيرسك على البحر الأسود حكمًا يذكر بالعصور الوسطى المظلمة الأوربية، خلاصته منع تداول ترجمة لمعاني القرآن الكريم أنجزها الباحث الأذري في الفقه الإسلامي المير قالوييف باعتبارها ترجمة غير قانونية، لأنها (تروج للتطرف من خلال أقوال عن تفوق المسلمين على غير المسلمين، والنظرة السلبية إلى الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالدين الإسلامي، والتقييم الإيجابي لأعمال عدائية قام بها مسلمون ضد غير مسلمين)!!

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

 

لو أن باحثًا علميًا أجرى بحثًا ميدانيًا في أكثر البلدان المسلمة عن الوجود الإسلامي في روسيا، لأذهلته إجابات ربما لم يكن يتوقعها، مثل نفي ذلك الوجود أو الإقرار به كرقم ضئيل مجهري (ميكروسكوبي) في بحر يضم عشرات الملايين من الأكثرية النصرانية الأثوذكسية!!

ومن الجدير بالذكر أنه يعيش في روسيا في الوقت الحاضر وفقًا لتقييمات الخبراء من 11 إلى 24 مليون مسلم، يتركزون تقليديًا في وسط وجنوب حوض الفولغا ومنطقة الأورال وشمال القوقاز وسيبيريا. ويوجد عدد كبير من المسلمين في موسكو وبطرسبورغ ومدن كبرى أخرى. يتوزع المسلمون في روسيا على 40 قومية أكبرها التتر إذ يبلغون 5 ملايين مسلم (نسبتهم نحو 4% من السكان) وهذا يعني أن التتر يحتلون مرتبة القومية الثانية بعد الروس من حيث عدد السكان في روسيا. ويأتي بعدهم البشكير (نحو مليون شخص).

والمسؤول الأول عن هذه الثغرة المعرفية والشعورية المحزنة هو النظام الرسمي في الدول الإسلامية، وإعلامه المشغول بكل شيء مهم وتافه، باستثناء قضايا المسلمين العامة الكبرى وجراحاتهم المنتشرة في كثير من بقاع الأرض. فذلكم الإعلام لا يعترف عمليًا بأمة الإسلام، ما عدا الأداء البروتوكولي في مناسبات منظمة التعاون الإسلامي، التي ينسى الناس اسمها بحكم البؤس المزمن في نشاطها.

في ضوء هذه المعطيات المؤلمة، لا يستغرب المرء من مرور خبر مخيف يتعلق بمسلمي روسيا مرور الكرام، بل إن شئنا الدقة: من عدم مروره أصلًا في إعلام المجون وإعلام الأخبار المؤدلجة على حد سواء!! فقد أصدرت محكمة روسية بمدينة نوفوسيبيرسك على البحر الأسود حكمًا يذكر بالعصور الوسطى المظلمة الأوربية، خلاصته منع تداول ترجمة لمعاني القرآن الكريم أنجزها الباحث الأذري في الفقه الإسلامي المير قالوييف باعتبارها ترجمة غير قانونية، لأنها (تروج للتطرف من خلال أقوال عن تفوق المسلمين على غير المسلمين، والنظرة السلبية إلى الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالدين الإسلامي، والتقييم الإيجابي لأعمال عدائية قام بها مسلمون ضد غير مسلمين)!!

ويعني هذا الحكم -بحسب المصادر الإعلامية- إدراج كتاب الله بالطبعة التي نقل معانيها العالم قالوييف من العربية إلى الروسية على القائمة السوداء في سائر أنحاء روسيا. وأثار القرار غضب المسلمين الروس، وأصدر مجلس المفتين في روسيا بيانًا استنكر فيه قرار المحكمة بشدة، مؤكدًا أن المحكمة، بمنعها مصدرًا أساسيًا من مصادر ثاني أكبر ديانة في روسيا من حيث عدد أتباعها، (تنتهك دستور روسيا الاتحادية وقواعد القانون الدولي وحرية الضمير والدين، وتقوض ثقة المسلمين في القانون الروسي والمنظومة القضائية الروسية).

وتقول مصادر إعلامية روسية إن المراقبين في موسكو لا يجدون تفسيرًا معقولًا لاستعداء المسلمين الذين يؤلفون 15% من سكان روسيا، بينهم ملايين يتركزون في جمهوريتي تترستان وباشكورتوستان، وعلى الأخص في جمهوريات القوقاز المضطربة. ولاحظوا أن الطبعة التي ترجمها قالوييف من معاني القرآن الكريم تضاف إلى أكثر من 2000 مطبوعة أضافتها المحاكم الروسية إلى القائمة السوداء لوزارة العدل، منذ صدور قانون مكافحة النشاط المتطرف في العام 2002، وهي قائمة تضم بعض أمهات كتب الحديث النبوي!!

بالطبع فلا فائدة تُرجَى من مناقشة حكم قضائي بهذا المستوى من الإسفاف الذي يعيد إلى الذاكرة الإنسانية الصورة الكالحة المخزية لمحاكم التفتيش التي أنهت الوجود الإسلامي في إسبانبا والبرتغال بالقتل والتنصير والتهجير القسري بعد مصادرة الممتلكات العائدة للمسلمين.

والمريب في الأمر أن المنظمات والهيئات والمؤسسات الحقوقية الأممية والغربية لم تنطق بكلمة واحدة تنديدًا بهذا الحكم التعسفي الاستفزازي، لكن صراخها كان سيملأ الفضاء لو أن محكمة في بلد مسلم قررت منع كتب اليهود والنصارى من التداول لما فيها من كفر وتشجيع على الفجور وبث للاستعلاء على الآخرين ودعوة واضحة لاستئصالهم وليس لقتال المعتدي منهم!

إن العداء الروسي للإسلام ليس وليد الوقت الحاضر، وإنما يرجع إلى مئات السنين وبخاصة منذ حقبة التوسع القيصري الدموي المتوحش، والذي استمر حتى جاءت الثورة الشيوعية فخدعت المسلمين هناك بشعاراتها البراقة، ثم استيقظوا على مظالم أشد وأعتى من جور القيصر البائد. فقد اقتلع ستالين شعوبًا مسلمة كاملة من ديارها وبعد مقتلة عظيمة فيهم فرض على الناجين أن يعيشوا أذلاء في مناطق بعيدة.

ومع ذلك يوجب علينا الإنصاف الذي تعلمناه من ديننا، أن نشهد بأن أوضاع المسلمين في روسيا منذ بزوغ جورباتشوف وسياسة الانفتاح التي انتهجها، هي أقل سوادًا من العهدين القيصري والشيوعي باستثناء المسلمين الشيشان الذين اقترف الروس في حقهم جرائم إبادة جماعية بتواطؤ غربي شبه معلن إلا أن السياسة الخارجية الروسية المعادية للإسلام صراحة توحي بأن الاستثناء الانفتاحي نحو مسلمي روسيا هو استثناء عابر، الأمر الذي يوجب على قادة الأمة أن ينظروا إلى مصير ملايين المسلمين في روسيا نظرة مختلفة عما سبق لئلا تتكرر المأساة الشيوعية الرهيبة.