الاستدلال الأعمى

فهد بن صالح العجلان

لا يكفي أن تستدل بأي نص شرعي ليكون قولك موافقاً للشريعة، فالعبرة ليس بوجود أي استدلال بالشريعة، بل يجب أن يكون هذا الاستدلال صحيحاً ومستقيماً وفق الأصول المنهجية الموضوعية للاستدلال.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية -


سأتجاوز كثيراً من المقدمات لأصل إلى هذه النتيجة المهمة:

لا يكفي أن تستدل بأي نص شرعي ليكون قولك موافقاً للشريعة، فالعبرة ليس بوجود أي استدلال بالشريعة، بل يجب أن يكون هذا الاستدلال صحيحاً ومستقيماً وفق الأصول المنهجية الموضوعية للاستدلال.

من قواعد الاستدلال المنهجي السليم: أن يكون النظر فيه شاملاً لجميع النصوص والقواعد الشرعية، فلا ينظر في بعض النصوص ويهمل بعضها، فهذه هي البذرة التي نبتت منها ظاهرة الافتراق في الدين فأنتجت الفِرق والجماعات البدعية في الفكر الإسلامي، فإشكالية جميع هذه الفِرق القديمة من شيعة وخوارج ومعتزلة وغيرها، أنها تأخذ ببعض الشريعة، وتستدل ببعض النصوص.

وبعض النفوس -نظراً لتعظيمها النصوص الشرعية- تتقبّل أي استدلال فتجعله مقبولاً بغض النظر عن سلامته، وهذا ما جعل بعض الصحابة يحذرون من خطر الجدال بالقرآن: "فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جداً، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقاً، وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل" (الموافقات للشاطبي: [3/283]).

سأضرب لهذا الخلل في الاستدلال بمثالين يشرحان طريقة من طرائق هذا الاختلال:

المثال الأول في سياق حرص كثيرٍ من المعاصرين على التعايش الإنساني بين الأديان وتقديم صورة متسامحة عن الإسلام، يصححون سلوك أي طريقٍ لعبادة الله ولو لم يكن طريق الإسلام ما دام أن الشخص موحد لله ولا يشرك به شيئاً، أو يكون غير مكذب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يتجاوز بعضهم حتى عن هذا الشروط، ويستدلون بقول الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].

فالشاهد من هذه الآية -بحسب فقههم- أن الله تعالى قد حكم بفلاح ونجاة من آمن به ولو كان يهودياً أو نصرانياً، فهو دليل -في نظرهم- في غاية الصراحة والقطعية على أن اليهود والنصارى المعاصرين إن كانوا مؤمنين بالله فهم مستحقون للنجاة يوم القيامة.

من يقرأ هذه الآية فقط ولا يعرف أي شيء من القرآن ولا أي شيء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شيئاً عن سيرته ولا إجماعات المسلمين؛ فإنه سيقول فعلاً هذه الآية تحتمل هذا المعنى، إلا أنه حين يقبل هذا المعنى فإنه سيهدم عشرات الأدلة الشرعية الأخرى، وسيهدم الإسلام كله؛ فالقضية ليست أن تستدل بأي دليل، بل يجب أن تعرف طبيعة استدلالك كيف سيكون؟

فالعلماء يفسرون الآية بأنها تحتمل معنيين:

الأول: أن تكون في اليهود والنصارى الذين أدركوا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به.

الثاني: أو هي فيمن كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ممن آمن بالأنبياء من قبله. وحين يضيف أحد احتمالاً ثالثاً وهو أن يكون شاملاً لكل اليهود والنصارى حتى في زماننا، فهو يهدم الإسلام كله بهذا الاستدلال من حيث لا يشعر!

فالله تعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران من الآية:85]، كما أن من لا يؤمن بالرسول ليس مؤمناً في لفظ الشارع كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2]، {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، بل إن الله قد نفى الإيمان عمن لم يحكّم رسوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].

فكيف يجعل الكافر برسوله والمكذب مؤمناً في لفظ الشارع؟!

فلفظ الإيمان لا يتحقق في اليهودي والنصراني الذي لا يتبع الإسلام، وتسميتهم مؤمنين في مقابل الملحدين أو الوثنيين هو اصطلاح عرفي خاص ببعض المعاصرين فلا تُقرأ نصوص الشريعة بناءً عليه.

كما أن الله في القرآن جعل الناس صنفين: إما مسلم أو كافر: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] {إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:10] {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وليس هناك في الشريعة مرتبة إيمان ليست بإسلام ولا كفر؟ فمن لم يؤمن بالرسول فهو كافر {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70].

كما أن في القرآن آيات كثيرة في الأمر بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه، والأمر بالإسلام والاستمساك به حتى الوفاة، وأنه دين الأنبياء جميعاً، وفيه كفر من لم يؤمن بالقرآن أو كذب بالرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء فيه عموم رسالته للعالمين، وجزاء المعرضين والمجادلين في آياته، وأن طاعته سبب لدخول الجنة، وأن جزاء معصيته النار، والنهي عن الاستغفار والدعاء لمن كفر بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأن التكذيب بالرسول تكذيب بالشرائع من قبله، وفيه آيات في كفر اليهود والنصارى، وغير هذا كثير من الدلائل التي ستتهدم بسبب قبول هذا الاحتمال الثالث!

وعلى طريقة هذا الاستدلال فيمكن أن يقرأ بعض الناس قوله تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر من الآية:9]، فيقول: هذه الآية تحتمل تعدد الآلهة! ويمكن أن تستخرج من أشباهها من الأمثلة ما لا يحصر.

المثال الثاني هذا مثال، يستدل بآية قرآنية على معنى يتفق المسلمون جميعاً على غلطه، بل كفره، فهو يستدل بالقرآن وقد أعمى بصره عن النصوص الأخرى وكأنه لا يعرف شيئاً آخر!

وفي سياق المصالحة مع مفاهيم الحرية الليبرالية الغربية يقرر كثير من المعاصرين أن الإسلام قد كفل حرية الاعتقاد والرأي مطلقاً إلا بشرط عدم الاعتداء والإضرار المادي، وأما ما دام في محيط الفكر والرأي والقناعة فالشريعة تكفل له هذا الحق ولو تجاوز قطعيات الشريعة أو اختار المجاهرة بالخروج من الإسلام ورفض أحكامه، ويستدلون لهذا الحكم بقول الله تعالى: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة من الآية:256].

يقولون: هذه آية محكمة صريحة قطعية الدلالة بأن الشريعة لا تكره الناس على المجاهرة بما يرونه ديناً وفكراً لهم، وربما تحمس بعضهم، فقال أحدهم: إن في القرآن عشرات الآيات القطعية المحكمة على هذه الحرية.

وزاد آخر: إن هذه الآيات محكمة لا يمكن أن يشملها نسخ ولا تخصيص لأنها من الأصول الكلية.

هذا الحكم القطعي الذي فيه عشرات الآيات -لاحظ عشرات الآيات- كان غائباً عن فقهاء الإسلام ولم يكتشفه أحد من العلماء خلال قرون طويلة، فكان الفقهاء يقررون حد الردة كما هو قول جماهير الأمة وحكي إجماعاً، وحتى ما حكي من خلافٍ فهو في عدم القتل مع ضرورة العقوبة والحبس والاستتابة ولم يقل أحد منهم بتاتاً بحرية الردة، فعجباً كيف غابت عشرات الآيات القرآنية عن أعصار وأمصار المسلمين طيلة هذه القرون؟

طبعاً لم يغب عنهم هذا الشيء؛ وهم أفقه وأعمق في دلائل الكتاب من فوضى المعاصرين، وما يميز الفقهاء المتقدمين أنهم يستحضرون النصوص جميعاً فلا يستدلون بنص بما يهدم النصوص الأخرى، فلا أحد منهم بتاتاً أوجد معارضة بين قوله تعالى: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» (رواه البخاري)، بل كل تفسيراتهم للآية تعود إلى الكافر وليس إلى المسلم المرتد، لماذا؟

لأن جعل عموم الآية يشمل حتى المسلم يؤدي إلى هدم كليات شرعية كثيرة، فإذا قلتَ لا وجود لأي إكراه في الإسلام فمعناه أنه لا وجود لحدود ولا عقوبات شرعية، ولا وجود لواجبات ولا محرمات، وأن النظام الإسلامي يكفل للمنافقين شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والتطاول عليه وإعلان محادة الإسلام، فعلى هذا تخرج جيوش الإسلام لتفتح الأمصار حتى تعطي الحرية لأهل الأمصار في الطعن في الإسلام والإساءة إليه والدعوة إلى هدمه!

وكل هذا باطل بداهة؛ ولا يمكن أن يقع في نفس فقيه، ولهذا لم يستطع العدد الكبير من المعاصرين الذين يقررون مثل هذا الاستدلال أن يأتوا برأي فقيهٍ واحدٍ فقط في أي عصر من العصور يقرر مثل كلامهم هذا، أو يستدل بالآية على مثل ما استدلوا عليه، بما يعني أن هذا الرأي، وتلك الطريقة في الاستدلال، لا علاقة له بالمنظومة الفقهية.

هذان مثالان؛ ولعل ثمّ أمثلة أخرى كثيرة قد سقطت على ذهن القارئ بعد مروره على هذين المثالين، لأنها ظاهرة شائعة في الحالة الثقافية المعاصرة؛ تستدل بالقرآن بما ينقض أحكامه، وتتبرع بتخريج الأفكار والاتجاهات الغربية بما يجعلها لا تخالف الشريعة!

يأتي الخلل عند هذا الاتجاه في كونه يبحث في القرآن والسنة فيستخرج منهما الاحتمال الذي يراه يفهم من دلالة الآية أو الحديث، من دون استحضار للأحكام الشرعية جميعاً بما يجعله يخرج فهماً من آية تنقض أحكاماً كثيرة!

لا تقع مثل هذه الاستدلالات عند أحد من فقهاء الإسلام المتقدمين؛ لأنهم يدركون أحكام الشريعة جميعاً، فلا يمكن لأحدهم أن يستدل بحكم ينقض أحكام الشرع الأخرى، فهو يعرف بناء الشريعة المحكم، فينظر إليها كمنظومة متكاملة، كما أن المجتهد في أحكام الشريعة كان عالماً بالفقه والحديث والقرآن والتفسير ولغة العرب فما كان يستخرج الأحكام بناءً على الاحتمال العقلي المحض!

القصور في فهم الشريعة، وضعف الاطلاع الشرعي الذي يجعل الشخص غير مستحضر لمقاصدها وفروعها وتفصيلات أحكامها؛ هو الذي يجعل الشخص يتهاون في قبول كثير من الأحكام ويتأول غيرها، فكثير ممن يخوض في هذه الأحكام من المتخصصين في العلوم المختلفة، حين تقارن معرفته التخصصية ومعرفته بفقه الشريعة يتبدى لك السبب، فإن كثيراً منهم لا يتجاوز طريقة أن يعرض الفكرة الغربية ثم يقرِّر أن الشريعة سبقت الغربيين في هذا، أو أن هذا مما تقرِّره الشريعة، أو في أحسن الأحوال أن الشريعة تقبل هذا إلا باستثناء مسألة أو مسألتين، فبدلاً من أن يستحضروا تفصيلات الشريعة وأصولها ويقدمونها كمنظومة متكاملة، أصبحت وكأنها هامش على المتن الأوروبي!

هذه الاحتمالات لم ترد على أذهان فقهاء الإسلام؛ لأن استحضارهم للنصوص الشرعية يعصمهم من استحضار أي احتمال ينقض أصولها، فهم لا يفهمون النصوص بناءً على التفكير العقلي المحض الذي يستحضر كل الممكنات العقلية، كما أنهم متجردون في فهم النصوص ولا يعيشون تحت ضغط منظومة مفاهيمية معاصرة يريدون التكيف معها فتتزين لهم الاحتمالات الليبرالية من بين النصوص الشرعية!


فهد بن صالح العجلان
 

المصدر: مجلة البيان العدد: [316]؛ ذو الحجة 1434هـ، أكتوبر – نوفمبر 2013م.