دور يهود مصر في تأسيس دولة إسرائيل
أحمد إبراهيم خضر
القاعدة التي ننساها دائمًا هي أنه في الوقت الذي يَنشغل المسلمون فيه بغير الإسلام -حتى لو كان في أمْر الوطن، أو مقاومة الاحتلال الأجنبي، أو الثورة على الطُّغاة المستبدِّين على غير أساس من الإسلام- يتحرَّك اليهود بقوة؛ لتثبيت أوضاعهم، وتوسيع الهُوَّة بينهم وبين أعدائهم، وعندما يُفيق المسلمون لإدراك ما حدَث، يكون الوقت قد مضى، وبَعُدَت الشُّقة بينهم وبين استعادة ما فَقَدوه.
- التصنيفات: اليهودية والنصرانية - التاريخ الإسلامي -
(التاريخ المسكوت عنه)
القاعدة التي ننساها دائمًا هي أنه في الوقت الذي يَنشغل المسلمون فيه بغير الإسلام -حتى لو كان في أمْر الوطن، أو مقاومة الاحتلال الأجنبي، أو الثورة على الطُّغاة المستبدِّين على غير أساس من الإسلام- يتحرَّك اليهود بقوة؛ لتثبيت أوضاعهم، وتوسيع الهُوَّة بينهم وبين أعدائهم، وعندما يُفيق المسلمون لإدراك ما حدَث، يكون الوقت قد مضى، وبَعُدَت الشُّقة بينهم وبين استعادة ما فَقَدوه.
ولنرجع إلى التاريخ الحديث؛ لنرى مصداق ذلك:
احتلَّت بريطانيا مصر في الحادي عشر من شهر يوليو عام 1882م، وانشغَل المصريون بمقاومة الإنجليز تحت الراية الوطنية، فدخَل أعيان مصر من مُلاَّك الأراضي الزراعية حلبة المقاومة للدفاع عن مصالحهم، ودخَل المثقفون إلى هذه الحلبة للمطالبة بتطبيق الدستور، وإنشاء مجلس نوَّاب.
تأسَّس الحزب الوطني (الأهلي) مُطالبًا باستعادة أملاك الخديوي، وتوحيد الدين، وتأسَّست جمعية مصر الفتاة مُطالبة بالحريَّات العامة، وانتفَض العسكر يحتجون على إهمال شأن الجيش، وتأخير الترقيات، ودَفْع الرواتب.
في وسط هذا الزَّخَم وانشغال المصريين بمقاومة الخديوي والإنجليز على أساس وطني، وكلٌّ على حسَب هواه ومصالحه، وجَد اليهود في مصر مرتعًا خصبًا، وموقعًا مهمًّا، ينطلقون منه لتأسيس دولتهم الجديدة في فلسطين، وحدَث ذلك على النحو التالي:
أولاً: الدعوة إلى العودة إلى جبل صِهْيَون انطلاقًا من مصر:
في عام 1896م وصَل إلى القاهرة قادمًا من بلغاريا اليهودي "ماركو باروخ"، يُبشِّر في الشوارع والمقاهي، والمعابد والمساكن الخاصة بالعودة إلى جبل صِهْيَون.
كان يعيش على الكَفاف؛ وبتلك المساعدات التي كان يُقَدِّمها له أصحابه، كان يعود بعد عناء اليوم الطويل إلى مقهى "يونيفرسال" يَقضي الليل بصُحبة أصدقائه، استطاع "باروخ" أن يكسب إلى جانبه موظَّفًا واحدًا، واثنين من الصِّبيَة الحائكين، وصانع أحْذِية، وعامل طباعة، وصبي سائق.
كان "باروخ" يدعو إلى اجتماعٍ كلَّ مساء، ولَمَّا وصَل أتْباعه إلى اثني عشر فردًا، أعدَّ له الأغنياء منهم قاعة عبارة عن زاوية بحجرة واحدة مع شُرفة بمقر جمعية "باركوخيا" اليهودية بحي الموسكي؛ لعَقْد اجتماعاته بها، ولسَكَنه هو وأُسرته، كانت مهمة هذه الجمعيَّة تجنيد الأعضاء الجُدد، وجَمْع الأموال، وتمثيل مصر في الاجتماعات الصِّهْيَونيَّة المختلفة، والترحيب بالشخصيَّات اليهودية الأجنبيَّة، إلاَّ أنَّ هذه الجمعيَّة قد حُلَّت في عام 1906م؛ بسبب انقسامات داخليَّة.
ثانيًا: زيارة تيودور هيرتزل لمصر:
في عام 1903م زارَ "تيودور هرتزل" مصر، ورحَّبت به جمعية "باركوخيا"، وقدَّمته إلى بعض الشخصيات اليهودية في مصر، ويدَّعي المؤرخون اليهود أنَّ الشخصيات اليهودية والمسلمة كانت تقف جَنبًا إلى جنبٍ تحت صورة "هرتزل" التي كانت تُحاط بالإعلام اليهودية والمصريَّة.
ثالثًا: مساعدة المحفل الماسوني "بناي بيرث" لليهود المصريين:
توفي "باروخ" وخلفه "موسى بن رابي" الذي نظَّم الاجتماعات اليهودية بمساعدة عددٍ من المثقَّفين المصريين اليهود، الذين استأْجروا صالة مُظلمة غير مفروشة أثَّثوها بأنفسهم، بالتعاون مع المحفل الماسوني "بناي بيرث"، وصَل عدد الأعضاء إلى أربعين عضوًا، تزايَد نفوذهم وتأثيرهم[1].
تأسَّست "بناي برث" في نيويورك، وانتشَرت محافلها في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وألمانيا وفرنسا، وصارَت لها في هذه الدول مواقع نفوذ قويَّة، امتدَّت فروعها إلى أستراليا وإفريقيا، وبعض دول آسيا.
تأسَّس لها في مصر محفلان: أحدهما محفل "ماغين دافيد" رقم: [436]، وقانونه مطبوع باللغة العربية، والآخر محفل ميمونت رقم: [365]، وقانونه مطبوع بالألمانية، وقد تَمَّ حَظْر نشاطهما في الستينيات[2].
رابعًا: التفاف الجمعيات اليهودية في مصر حول الحركة الصِّهْيَونية:
نجحَت الحركة الصِّهْيَونية في مصر في أن تضمَّ إليها بعضًا من الجماعات اليهودية الناشئة، مثل: "جمعية بن زيون في عام 1900م، جمعية ليتيربز هيراكي في عام 1905م، جمعية سيونسي موارح في عام 1906م، جمعية آفاهات زيون في عام 1906م، جمعية فادهامير كازهازيوني في عام 1909م، جمعية يالدي زيون 1912م، دائرة جيف 1912م، جمعية يالدي هيرتزل 1913م".
وكانت الجمعية الأخيرة تُقدِّم دروسًا حرَّة في اللغة العبرية والتاريخ اليهودي والصِّهْيَونية، وفي الإسكندرية حقَّقت الحركة الصهيونية تقدُّمًا بطيئًا، وعَقَدت في الثالث من أغسطس من عام 1901م اجتماعًا حضَره أربعمائة فرد، أسَّست بعده فرعًا محليًّا بمساعدة وفدٍ زائر من جمعية "باركوخيا"، وتَبِع ذلك تأسيس عدة جمعيات أخرى، مثل: "تيكفات زيون 1904م، وبوالي زيون في عام 1906م، وبن زيون من نفس العام.
خامسًا: تبنِّي الجمعيات اليهودية في مصر برنامجَ المؤتمر الصِّهْيَوني الأول في بازل عام 1897م:
في عام 1908م تبنَّت جمعيَّة بن زيون بالإسكندرية برنامج المؤتمر الصِّهْيوني الأوَّل الذي عُقِد في بازل 1897م، وفي عام 1910م اندمَجت هذه الجمعية مع جمعيَّة صهْيَونية أخرى هي (زيرزيون) التي أنْشَأها المهاجرون الروس في عام 1909م.
وقد أدَّت هذه الأنشطة للجمعيات والاجتماعات والمؤتمرات إلى تزايُد أعداد المؤيِّدين للحركة الصِّهْيَونية، كما تقلَّد مُنظِّمو هذه الأنشطة العديدَ من الوظائف، إلى درجة أنَّ المؤرخين اليهود يعتبرون أن هذه المدة كانت مدة انتعاش للصِّهْيَونية وللثقافة اليهودية.
سادسًا: بداية الصحافة اليهودية في مصر:
تمكَّنت الحركة الصِّهْيَونية في مصر من إصدار عددٍ من الصحف والدوريَّات، كانت حياة البعض منها قصيرة، كما كانت القضايا التي تُناقشها محدودة، من هذه الصحف والدوريات "لوميسا جير ستوني، التي طُبعت في الإسكندرية في عام 1901م، جريدة جمعية باركوخيا التي أصبَحت في عام 1902م ميبا سيرث زيون، المجلة الإسرائيلية في مصر 1912-1918م".
أمَّا في القاهرة، فقد طُبِعت "الميزاعيم 1903م، النهضة اليهودية 1912م، المجلة الصِّهْيَونية 1917م التي كان أوَّل مَن أصدَرها "ليون كاسترو"، ثم "جاك موسيري"، وقد كان لهاتين الدوريَّتين الأخيرتين تأثيرٌ مهمٌّ على الرأي العام اليَهودي في مصر.
سابعًا: وُصول أحد عشر ألفًا من اليهود الروس إلى الإسكندرية:
في عام (1914-1915)م وصَل إلى الإسكندرية 11,227 يهوديًّا روسيًّا، كان الأتراك قد طردوهم من فلسطين، وكان وصول هذا العدد الكبير دافعًا قويًّا للحركة الصِّهْيَونية، وللتضامُن اليهودي، وبمجرَّد وصولهم أنْشأ اليهود المصريون لجنة لمساعدتهم، نظَّمَت عمليَّة إنزالهم وإمدادهم بالطعام والملابس والأدوية، وقد وافَقت الحكومة المصرية بالتعاون مع الجيش البريطاني على إيوائهم في معسكرات بقباريى والشاطبي في الإسكندرية، هذا ويلاحَظ أنَّ تنظيمات الإحسان الأجنبيَّة والمسيحيَّة بصفة خاصة، قد هرَعت لمساعدتهم، كما قدَّمت لهم الحكومة المصرية مساعدات ماديَّة، كما نظَّم يهود الإسكندرية فريقًا من الأطباء والمُدرسين والمُشرفين الاجتماعيين، ورجالاً ونساءً لمساعدة هؤلاء اليهود الروس في حلِّ مشاكل العمل، والعودة إلى فلسطين، وتأسَّست لهم داخل المعسكرات نفسها مدارسُ لتعليم العبرية، بالإضافة إلى الدراسات الفلسطينية، وأنْشَأت اللجنة المُتقدمة الذِّكر على حسابها الخاص مدرسة عبرية، تضمُّ ثلاثمائة وعشرين تلميذًا، أشرَف عليها الدكتور (بوجر اتشوف) رئيس المدرسة الثانوية العبرية في "يافا".
في مارس 1915م طلَب القنصل الروسي من السلطات البريطانية أن تُعيد إليها الصالحين من اللاجئين اليهود في مصر للخدمة العسكرية، فاعتبَر اليهود المصريون أنَّ هذا الطلب الروسي يعبِّر عن سياسة مُعادية للسامية؛ ولهذا شكَّل اليهود لجنة من وجهائهم بإشراف "إدخار سواريس" رئيس يهود الإسكندرية؛ للتوسُّط لدى السلطات البريطانية؛ لعدم تنفيذ في هذا الأمر.
ثامنًا: تشكيل أول فيلق عسكري يهودي في العصر الحديث في مصر:
اقترَحَت اللجنة السابقة حلاًّ بديلاً، وهو تشكيل فيلق من المتطوعين اليهود للخدمة على الجبهة الفلسطينية تحت القيادة البريطانية، وتَمَّ الاتفاق -بين (قطوري باشا) رئيس التجمُّع اليهودي في القاهرة، وبين جنرال (ماكسويل) القائد العام للجيش البريطاني في مصر- على تشكيل هذا الفيلق تحت قيادة الكولونيل (باترسون)، ويُساعده (جوزيف ترامبلدور) على أن تتركَّز مهمة هذا الفيلق في الإمداد والتكوين، وكانت الفصائل الصِّهْيَونية لهذا الفيلق تتكوَّن من ألف رجل، منهم خمسمائة من المتطوعين، وثلاثمائة وخمسين من اليهود الروس، ومائة وخمسين من يهود الإسكندرية، وكانت جميع أعلام هذا الفيلق وخوذات جنوده وفصائله الطبيَّة، تحمل شعار نجمة داود السُّداسية، هذا وقد ألْقى الكولونيل (باترسون) خطابًا طويلاً في هذه المناسبة، ذكَر فيه:
"إنها أوَّل مرة منذ ألْفَي عام، يُعترَف فيها باليهودي كجندي نظامي؛ ولهذا فإن أنظار العالم اليومي تتَّجه إلى هذه الفصائل اليهودية، ولا يكفي الجندي اليهودي أن يؤدي عمله كالجندي البريطاني، بل عليه أن يبذُلَ كلَّ جُهده؛ ليُثبت أن اليهودي جندي، ورجل قادرٌ على الحرب وعلى استعادة أرض الميعاد"!
تاسعًا: تشكيل فرقة عسكريَّة يهودية في لندن، والسماح لها بالتوقُّف في الإسكندرية:
شكَّل اليهود فرقةً عسكرية يهوديَّة مُكمِّلة للفيلق المصري، كانت نجمة داود هي أساس رمز الفرقة وعلمها، توقَّفت الفرقة بالإسكندرية أثناء تحرُّكها، ولاقَت هناك ترحيبًا حارًّا؛ حيث سار أولاد وبنات الكشَّافة إلى جانب الجنود بأبواق مُزخرفة، يرتِّلون الأناشيد العبريَّة.
عاشرًا: وايزمان في مصر:
في 12 أغسطس 1918م شُكِّلت لجنة بالإسكندرية؛ لتأييد اليهود في فلسطين، وبعد ذلك بيومين، وصَل "وإيزمان" إلى مصر، ولاقَى ترحيبًا حارًّا بها.
الحادي عشر: الاحتفال بصدور وعد بلفور في قلب القاهرة:
وصلَت أخبار وعد بلفور إلى القاهرة في 20 إبريل 1920م، وسَرَت في المدينة سَرَيان النار في الهشيم، وكان الناس يتجمَّعون من مختلف أحياء القاهرة لمتابعة الأخبار، وتشكَّلت وفود من يهود القاهرة والإسكندرية؛ لزيارة المندوب السامي البريطاني، والتعبير له عن الآمال العظيمة التي يُعلِّقها اليهود المصريون على مستقبل الوطن القومي اليهودي، وأُقيمت المهرجانات للاحتفال بالحَدَث، وخصوصًا في (حارة اليهود) بالموسكي؛ حيث كان الخُطباء يتحدَّثون الواحد تلو الآخر.
ويَزعم المؤرِّخون اليهود أنَّ جماعات من المسلمين كانت تَصيح: "لتحيا الأُمَّة اليهودية"، وكانت الجماهير اليهودية تُبادلها: "لتحيا مصر الحرة"، كما يؤكِّد هؤلاء المؤرخون أنَّ الأقباط قد هنَّؤوا الشعب اليهودي عن طريق وفودهم التي أرْسَلوها إليهم.
كانت التجمُّعات اليهودية خارج القاهرة، تحتفل بصدور وعد بلفور أيضًا، وخصوصًا في الإسكندرية والمنصورة، والزقازيق وزفتى وكوم أمبو.
الثاني عشر: النشاط اليهودي بعد صدور وعد بلفور:
تمكَّنت التنظيمات اليهودية في القاهرة والإسكندرية من جَمْع قدْرٍ من المال، وُضِع لصالح مشروع "الاعتمادات المالية لاستعادة فلسطين".
وأُقيم في الإسكندرية مكتب إضافي؛ لمساعدة اليهود الذين كانوا في طريقهم إلى فلسطين، كما ساعَدت التنظيمات الصِّهْيَونية المصرية المهاجرين اليهود في الوصول إلى فلسطين، وكانت التبرُّعات اليهودية من 28 إبريل 1920م، حتى 30 نوفمبر 1927م تَنهال لإطعام ومساعدة اثني عشر ألفًا من المهاجرين اليهود، وقد استمرَّ هذا النشاط بصورة سريَّة حتى عام 1948م، كما كثَّفت التنظيمات اليهوديَّة أنْشِطتها في الإسماعيلية، وفي أحياء الظاهر، والموسكي، وهليوبوليس بمدينة القاهرة؛ لجَذْب الطبقات الدنيا من اليهود، وتلقينها دروسًا حرَّة في العبريَّة.
الثالث عشر: وايزمان في القاهرة مرة أخرى:
وصَل إلى القاهرة في نهاية ديسمبر 1922م (حاييم وايزمان)، والكولونيل (كيشي)، وكان في استقبالهما خمسة آلاف يهودي، حمَل اليهود وايزمان على أكتافهم، واحتفَت به حشودهم احتفاءً حماسيًّا، وكانت هذه الحشود تَدفع السيارة التي تُقِل "وايزمان" و"جوزيف شيكوريل" رئيس الاتحاد الصِّهْيَوني، وتُنشد وتَهتف لوايزمان، وحينما خرَج "وايزمان" من سيارته وبرفقته الكولونيل "كيشي"، مُتَّجِهَيْن إلى الفندق الذي نزَلا فيه، كانت الجماهير اليهودية تَهتف: "يحيا وايزمان، تحيا الصِّهْيَونية، يحيا هربورت صمويل"، ثم غنَّت النشيد اليهودي "الهاتيكفاه".
كان وجود "وايزمان" مناسبة أُعِدَّت فيها المآدب، وأُلْقِيت فيها العديد من الخُطَب.
الرابع عشر: حَبْر الإسكندرية يمثِّل الصِّهْيَونية المصرية في المؤتمر الصِّهْيَوني الثالث عشر:
مثَّل (إبراهام إبيخيزير) -حَبْر الإسكندرية- الصِّهْيَونية المصرية في المؤتمر الصِّهيوني الثالث عشر الذي عُقِد في (كارلسباد) عام 1923م.
الخامس عشر: استخدام الفن والموسيقى والرياضة في دعم الرسالة الصِّهيونية في مصر:
يقول (بات بيشور): "إنَّ الرسالة الصِّهْيونية قد انتشَرت خلال العشرينيات عبر وسائل الثقافة والفن والموسيقى، والأحداث الرياضية والاسكتشات التاريخيَّة، ونظَّم اتحاد الشباب اليهودي في القاهرة في عام 1923م أنشطة موسيقيَّة وأدبيَّة لذات الغرض".
السادس عشر: تدفُّق المعلومات عن فلسطين عن طريق الفنانين والرياضيين:
يقول (بئور) أيضًا: "إنَّ الفنَّانين والرياضيين والسياسيين، الذي كانوا يمرُّون بمصر، قد حافظوا على تدفُّق سيل المعلومات عن فلسطين إلى اليهود المصريين".
السابع عشر: تنظيمات وخلايا صِّهْيَونية جديدة، ونشاط آخر للمحفل الماسوني (بناي ببرث):
في عام 1924م وما بعدها؛ ازدادَت أهميَّة التنظيم الصهيوني (الكيرين كاليميث) في الإسكندرية، وتوسَّعت شبكة الخلايا التي كانت تَحتفظ بوفود من أعضائها في عضويَّته، وكانت هذه الخلايا تُغطِّي عدة أحياء في المدينة، ومن أمثلتها: جماعة (الفيلونيا) في حي محرَّم بك، وجماعة (بينو) في الحي اليوناني بالإسكندرية، أمَّا المحفل الماسوني (بناي بيرث)، فقد عَمِل على إنشاء رابطة؛ لمحاربة ما يسمَّى بالعِداء للسامية، ونظَّم اجتماعًا جماهيريًّا في مؤسسة الأيتام الإسرائيليين بالقاهرة، كما تأسَّست في عام 1925م جمعيَّة الدراسات التاريخيَّة اليهودية، وكذلك نادَى الشباب اليهودي بالإسكندرية في عام 1930م، وتأسَّست ما بين عام (1925 و1935)م جماعات أخرى، مثل: جماعة (مؤادون هايفري) لتعليم العبرية، وجماعة (فيزو) لتعليم العبرية للأطفال، وجماعة (بيريت تراميلدور)، والجمعية المصريَّة لأصدقاء الجامعة العبرية في القدس، هذا بالإضافة إلى حركة (الهاتحيا) للشباب الصهيوني.
الثامن عشر: خمسة عشر ألفًا من الجنيهات المصرية لشراء الأراضي في فلسطين:
اكتتَب يهود الإسكندرية في عام 1933م في جَمْع مبلغ خمسة عشر ألفًا من الجنيهات المصرية؛ لشراء أراضي منطقة (كفر باديريا) في فلسطين، كما نظَّمت أيضًا الوسائل المختلفة لجَمْع الأموال؛ لمساعدة التنظيمات اليهوديَّة القائمة في فلسطين.
التاسع عشر: صحوة الصحافة اليهودية في مصر ثانية:
قادَت هذه الصحوة الثانية مجلة (القديمة 1935-1937)م بالقاهرة، (والشمس) التي صدَرت بالعربية في (1934-1948)م، وإسرائيل (1919-1939)م، وصحيفة (هاشو مير هازير) التي أسَّسها (ألبرت موسيري)، ثم أشرَفت عليها بعد وفاته أرْمَلته (ماتيلدا).
طُبِعت مجلة (إسرائيل) بثلاث لُغات، هي: العربية، والعِبريَّة، والفرنسية، عاشَت الطبعة العربية منها أربعة عشر عامًا، أمَّا الطبعة العبرية، فلم تعش طويلاً، ونالَت هذه المجلة اهتمامًا كبيرًا؛ سواءً على مستوى الصفوة، أو مستوى الجماهير اليهودية، خصوصًا وأنه كانت -كما يقول المؤرخون- صهْيَونية في قناعتها، وكانت تُقدِّم لقُرَّائها حقيقة التناقُضات بين الصِّهْيَونية كنظرية، وبين الواقع العربي الذي يعيش فيه اليهود المصريون.
أمَّا صحيفة (لوآرور)؛ فقد كانت تَظهر في القاهرة والإسكندرية في آنٍ واحد، وقد تأسَّست عام 1941م برئاسة (لوسيون سكويتو)، وتعرَّضت هذه الصحيفة للتهديد بالإغلاق، وركَّزت كصحيفة (إسرائيل) على القلق والصراع الذي يعيش فيه اليهود وهم بين أغلبيَّة عربية.
أما مجلة (للوسترايتون جوفي)، فقد أسَّسها الحَبْر الأكبر (دافيد برافو)، وكانت تُقدِّم مقالات كاملة، مستخرَجة من الأعمال اليهودية الأوروبيَّة المعاصرة في إطار صهْيَوني قومي، كما أسَّس (ألبرت ستراسلسكي) في القاهرة مجلة (صوت اليهود)، التي طُبِعت بعد ذلك في الإسكندرية (1931-1934)م، وقد عضَدَها (دافيد براتو) ووُجَهاء يهود الإسكندرية، وهناك أيضًا (لوترابيون جوفي 1936-1948)م التي أسَّسها (جاك رابين) في الإسكندرية.
العشرون: توحيد الهدَف بين التجمُّعات اليهودية والمحفل الماسوني:
انقسَم يهود القاهرة إلى قسمين متعارضين، يمثِّل أولهما وُجَهاء اليهود الذين الْتَفُّوا حول رئيس تجمُّعهم، وحاوَلوا أن يَحتفظوا بسيطرتهم على تجمُّعات اليهود؛ لضمان امتيازاتهم بصفتهم ممثلين لهم أمام السلطان، وعلى الجانب الآخر، كان هناك المحفل الماسوني (بناي بيرث) الذي كان بمثابة جماعة ديناميَّة تُدرك تمامًا ما يُسمِّيه اليهود بالقدر اليهودي القومي، وقد وزَّع المحفل اهتماماته على المستوى الشعبي والمستوى الصهيوني في ظلِّ منظور النهضة اليهودية، وفي عام 1925م وبعد سنوات من الصراع الداخلي الْتَحَمت هذه التنظيمات اليهودية، ونسَّقت فيما بينها، وعالَجَت مشاكلها المشتركة، ثم اتَّجهت بجهودها نحو تحسين وإنشاء تنظيمات تعليمية، وصِحيَّة وخيرية، تعمل جاهدة على استعادة الشباب اليهودي الذي تهدَّدت يهوديَّته؛ بسبب وجوده في بيئة عربيَّة، وتحسين ظروف حياتها الاجتماعية والثقافية بوسائل تؤكِّد القوميَّة اليهودية وإرثها الرُّوحي، مُبرزة هذا الشكل الجديد للصِّهْيَونية الذي يأخذ في اعتباره ما يُسميه المؤرِّخون اليهود بحقائق العصر.
وكانوا يرون أنَّ هذا هو السبيل الوحيد أمام الأقليَّة اليهوديَّة للتماسُك في جو سياسي، ودين إسلامي، وتقاليد وحياة عربية يَشعرون أنهم غُرباء عنها.
أمَّا يهود الإسكندرية فقد كانوا أكثر تنظيمًا تحت رئاسة الحبر (بيهور أياهو هازان 1888-1908)م، وخليفته (دافيد براتو) اللذَيْن كانا يَرَيان أنَّ أفضل فرصة للاستمرارية اليهودية، تَكْمن في قاعدة أنَّ المشكلة اليهودية لا يُمكن أن تحلَّ دون ما يُسمَّى بالقوة الأساسية التي يَحيا من أجْلها اليهود وهي (أرض إسرائيل).
الحادي والعشرون: دور التسامح الإسلامي في إرباك المُخطَّطات السياسية للصِّهْيَونية:
تعرَّض المؤرخون اليهود لقضايا تأثير التسامح الإسلامي على علاقة اليهود المصريين بالصِّهْيَونية الغربية، واختلاف قِيَم هذه الأخيرة عن قِيَم البيئة العربيَّة التي تربَّوا فيها.
يُقِرُّ اليهود بأنَّ المُخططات السياسية التنفيذية للصِّهْيونية نحو العرب ودولة الخلافة، كانتْ قائمة أساسًا على التسامح الإسلامي، وكان يهود الشرق يَرون أنَّ هذا التسامح قد تسبَّب في اغترابهم التاريخي والثقافي عن الصِّهْيونية، بل إنه أرْبَك التصورات اليهودية، بل والنصرانيَّة أيضًا، وفي ظلِّ هذا التسامح شعَر اليهود المصريون أنَّ قضية "الغالبية السائدة، والأقلية اليهودية المُضطهدة"، التي تُدافع عنها الصِّهْيَونية لا تَنطبق عليهم، وإنما على يهود أوروبا فقط، وأنَّ هذه الصهيونية وإن كانت حلاًّ ليهود الغرب، فإنها لا تُقدِّم حلاًّ ليهود الشرق؛ ولهذا اتَّهمها يهود الشرق بأنها تجاهَلت أو انصرَفت وقتيًّا عن مشاكلهم، واعتَمَدت على الانسجام العربي اليهودي، وركَّزت دعايتها وأنْشِطتها على أوروبا ومشاكل اليهود فيها، وتاريخ اليهود الروس والبولنديين، ونادرًا ما كانت تُناقش قضيَّة اليهوديَّة المصريَّة أو الشرقيَّة، كما أنَّ الصِّهْيَونية كأيدولوجية اشتراكيَّة، والقِيَم المُشتقة منها تتعارَض بشدَّة مع القِيَم التقليديَّة العربية التي عاش اليهود في ظلالها، وهذا يعني في نظرهم أنَّ الصِّهْيَوينة الغربيَّة، قد فَشِلت في التعرُّف على ما يجري وراء الحياة اليهودية المصرية وفي الالتحام معها.
ويُضاف إلى ذلك أنَّ الصِّهيونية الشرقيَّة كانت ترى نفسها دينيَّة الطموح، أرثوذكسية الاتجاه، وبالتالي كانت تَستنكر الإلحاد الاشتراكي، ورأى قادَتها في مصر أن يَسلكوا طريقًا مخالفًا لهذه التيَّارات؛ حتى يَتَمَكَّنوا من البحث عن طريق خاص، يُمكِّنهم من المناورة في البيئة العربية التي يعيشون في ظلالها.
الثاني وعشرون: إدراك اليهود لخطورة العروبة والإسلام على يهود مصر، وردود فِعلهم لذلك:
يُقِرُّ المؤرخون اليهود أنَّ صراعَهم ضد النازية، وارتباطهم بوعد بلفور، ومساعدتهم للمهاجرين والكِيانات اليهوديَّة، وإن أدَّت إلى تماسُك اليهود في مصر، فإن كلَّ ذلك قليلُ الأهمية، إذا ما قُورِن بالجهود التي يجب أن تُبذَل للوقوف في وَجْه الأخطار المترتبة على إعلان مصر نفسها دولةً عربيَّة وإسلاميَّة.
ويقول (ييئور) في هذا الصدد: ليس هناك من شكٍّ في أنْ تَغيُّرَ الاتجاهات المصرية نحو الصِّهْيَونية، زادَ من مخاوف اليهود، ففي السنوات الأولى من هذا القرن، كان المصريون يَعتبرون أن المسألة الفلسطينية مسألة ثانويَّة بالنظر إلى سَعْيهم نحو الاستقلال، أمَّا في الثلاثينيات، فإن الموقف قد تغيَّر.
كان هدفهم الأوَّل هو الاستقلال، أمَّا الآن فإنهم اعتَبَروا مصر أرضًا عربيَّة إسلاميَّة، وأدَّى الْتِزَامها بالتكتُّل العربي إلى تضييق مجال النشاط الصِّهْيوني، وخصوصًا بعد أن رأتْ مصر أنَّ الصِّهْيَونية تمثِّل تهديدًا لأمْن الأرض العربيَّة الإسلامية الكبرى، كما أخَذ التحوُّل مظهرًا ملموسًا تمثَّل في إرسال وفود تُبشِّر بالإسلام في السودان واليابان والهند، وأدَّى طبع العديد من المقالات والتحليلات عن التكتُّل العربي ونَشْر الكتب التي تُمجِّد الإسلام إلى إثارة مزاج ديني خاص، وظهَرَت نتائج أوَّل الْتِحام بين العرب الفلسطينيين والإخوان المسلمين في عام 1935م إلى إمداد عرب فلسطين بالمال والسلاح والتدريب العسكري، كما اشتَرَك الإخوان في الهجوم على القرى اليهوديَّة في فلسطين.
بحَث اليهود المصريون عن سُبل الدفاع عن أنفسهم في ضوء هذه التطورات، في ظلِّ انشغال الصِّهْيَونية الغربيَّة عن مشاكلهم، أسَّس (فيكتور بيلسوف) مزرعة يهودية بالقرب من القاهرة، أدْخَل فيها نمطَ حياة الكيبوتز، كما تأسَّست أيضًا مزارع يهودية أخرى بالقرب من الإسكندرية، وزادَت حملات التبرُّع وجَمْع الأموال، والقيام بالعديد من الأنشطة السريَّة المنظمة.
وقد أدَّى الخوف المتنامي عند اليهود المصريين إلى أن تُصْدِر رابطة الشباب اليهودي إعلانًا في عام 1937هـ تقول فيه: "إن مصر هي وطننا، والعربية هي لُغتنا"، وذلك في الوقت الذي كثَّفوا من أنْشِطتهم في تدريس العبرية والتاريخ اليهودي، والصِّهْيَونية وجغرافيا فلسطين واقتصادياتها، وأُرْسِل الشباب اليهودي المصري للتدريب على حياة الكيبوتزات في فلسطين، وتدرَّب البعض منهم في صفوف الهاجاناه، واشترَك الجنود اليهود الذين كانوا يحاربون في فلسطين في أنشطة تدريبيَّة عسكرية للشباب اليهودي في القاهرة والإسكندرية، وحينما بدأَتْ موجات الهجرة من مصر إلى فلسطين أخذَت أشكالاً عدة، منها: تأجير الزي العسكري البريطاني، والاستعانة بصيادي السمك من العرب، والاستخدام الجمعي لجوازات السفر المزوَّرة التي كانت تُباع بأربعين جنيهًا مصريًّا، وحينما وصَل اليهود إلى فلسطين، كانت أوَّل الكيبوتزات التي أسَّسوها هي: "برورها جيل، ناخشونيم، يوجيف".
يَفخر اليهود الآن بهذا التاريخ الحافل من أنشطتهم السريَّة والعَلَنية في بلاد الإسلام، لدرجة أنهم جعَلوا عنوان هذه الوقائع: "الصِّهْيَونية في أراضي الإسلام، مثال من مصر"[3].
هؤلاء هم اليهود، الذين قال عنهم هتلر: "لقد حاوَلت الوصول إلى هذه الرُّوح الشِّريرة التي تقف وراء تخلُّف أُمَّتنا وانهيارها، وتوصَّلت في النهاية إلى أنَّ السبب في معاناة أُمَّتنا يرجع إلى هذا المخلوق الوديع، ذي الشعر الأسود والأنف الطويل؛ إنه: اليهودي".
إنَّ الله سينتقم من هؤلاء الذين يُخالفون أحكامه، وإني إذ أدافع عن نفسي ضد هذا اليهودي، فإني في الواقع أدافع عن مشيئة الخالق، نَسِي أهل الأديان أنه عدوُّهم المشترك، فانصرفوا لقتال بعضهم البعض، نَسُوا هذا "الغريب ذا الشعر الأسود، والأنف الطويل"، الذي يعيش عَالَة عليهم، ويُدبِّر لهم المؤامرات، ويُلطِّخ دماءَهم، ويُحطِّم مصالحهم، ويُقاسم أعداءَنا في الخارج، تقسيم العام فيما بينهم، ساخرين من مشاكلنا الداخلية الحقيرة، أما الشعب فكان في غفلة من دسائس اليهود، ولقد حاوَلنا لفْتَ الانتباه إلى الخطر اليهودي المتفاقم، لكنَّ الناس استنكروا علينا ذلك، واتَّهمونا بالتطرُّف، لقد أجاد اليهود تمثيلَ أدوارهم، وأتْقَنوا لُعبتهم تمامًا، حينما كانوا يُلهون شعبنا الطيِّب بمسائل ثانوية جدًّا، لقد وجدتُ أنَّ إتقان الكذب فنٌّ يُجيده اليهود؛ لأن كِيانهم يقوم من أساسه على كذبة ضخَّمة، وهي زعمهم أنهم "طائفة دينية"، مع أنهم في الواقع جنس كسائر الأجناس، وأيُّ جنس هؤلاء؟ لقد وصفَهم "شوبنهاور" بأنهم أساتذة عظام في فنِّ الكَذب، ولا شكَّ فإن الرجل لَم يَظْلمهم؛ فهم بارعون في كتابة الأكاذيب المضللة"[4].
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] "بناي برث" أو "أبناء المعهد"، من أقدم الجمعيات والمحافل الماسونية المعاصرة، وذراع من أذرعتها الهدَّامة، ولا تختلف عنها كثيرًا من حيث المبادئ والغايات، إلاَّ أن عضويَّتها مقصورة على أبناء اليهود، وخِدمتها موجَّهة أساسًا لدعم الصِّهْيَونية في العالم، فالتلمود هو محور عقيدتها، وبروتوكولات حُكماء صِهْيَون رُكن أساسٌ في خُططها وأهدافها وتفكيرها.
[2] كان هذا الحظر بقرار اتَّخذته الدكتورة حكمت أبو زيد، وزيرة الشؤون الاجتماعية في عهد عبدالناصر، ويُعَد هذا القرار من مفاخر هذه الوزيرة، الذي ظلَّت تَعتزُّ به حتى آخر حياتها ووفاتها في الثلاثين من يوليو الماضي 2011م.
[3] Bat Ye'or Zionism In Islamic lands. The case of Egypt. The wiener Library bulleten 1977، Vol XXX. New series Nos 43/44
[4] أحمد إبراهيم خضر؛ جرثومة اليهود وانهيار الأمة صنوان لا يفترقان.