المضامين العلمانية للفكر التنويري؛ الجريمة والعقوبة
حديثنا في هذه المقالة هو فلسفة الجريمة والعقوبة في التنوير الغربي العلماني، وكيف استقبلها التنوير الإسلامي استقبالاً فيه من الشريعة والدين الحق، وفيه أيضاً من الباطل المحض المهدر لقطعيات الدين بسبب المضامين العلمانيية التي استبطنها التنويريون أثناء عملية الاستقبال والموائمة.
- التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -
ذكرنا في المقال الأول أن المحدد الذي على أساسه نفصل بين التنوير الإسلامي وبين مذاهب الفقهاء السائغة أن رجال هذا التيار قاموا بعملية موائمة وتوفيق بين مفاهيم التنوير الغربي العلماني وبين نصوص الوحي والشريعة وأنهم في عملية التوفيق هذه أضاعوا قطعيات من الشريعة وخالفوها إما بقبول باطل وإما برد حق، فكانت مخالفة القطعي، بقبول ما هو باطل من المفاهيم الغربية، أو برد ما هو ثابت قطعي من الدين هو الموجب لتصنيفهم على الصورة السابق ذكرها.
والواقع أن العامل الأساسي الذي يُخرج عملية التوفيق هذه عن مسارها الصحيح ويؤدي لتضييع القطعيات هو قبول الباطل وهو الذي يؤدي بعد ذلك لرد الحق، وأكثر هذا الباطل الذي يتورطون في قبوله يكون مُحملاً بمضامين علمانية لا ينتبهون إليها مما يؤدي لاستحالة التوفيق بينه وبين الوحي الصحيح إلا بتضييع شيء من الدين الحق، فاستبطان مضامين علمانية بصورة لا شعورية هو أساس الضلالة في التنوير الإسلامي.
وقلنا أننا سنفرد لهذه المضامين العلمانية عدداً من المقالات تُجليها على النحو الذي يُرشد للحق ويُضِلُ عن الباطل، ويهتدي به إخواننا التنويريون إن شاء الله.، وتحدثنا في المقالة السابقة عن الشرعية السياسية في التنوير الغربي العلماني، وطريقة استقبال التنوير الإسلامي لها، والمضمون العلماني الكامن خلف طرح التنوير الإسلامي لمفهوم الشرعية، وقطعيات الوحي التي أهدرها الطرح التنويري.
وحديثنا في هذه المقالة هو فلسفة الجريمة والعقوبة في التنوير الغربي العلماني، وكيف استقبلها التنوير الإسلامي استقبالاً فيه من الشريعة والدين الحق، وفيه أيضاً من الباطل المحض المهدر لقطعيات الدين بسبب المضامين العلمانيية التي استبطنها التنويريون أثناء عملية الاستقبال والموائمة.
1- مفهوم الجريمة والعقوبة وفلسفتهما في التصور التنويري العلماني:
بنى التنوير العلماني صرحه الفكري في هذا الباب على ركنين رئيسين:
الأول: نزع الدين عن أن يكون مصدراً للتجريم المدني.
الثاني: منع جريان العقوبات السلطوية على جرائم دينية.
في التصور العلماني: ليس عد الدين الفعل جريمة بموجب لأن تعده السلطة السياسية جريمة، وليس كون الفعل جريمة من وجهة النظر الدينية بالموجب لإجراء العقوبة السلطوية على فاعله.
فالعلمانية بعد أن نزعت سلطات الكنيسة وخلعتها على دولة ملوك الحق الإلهي ثم على حكومات التعاقد ثم على الدولة/الأمة بعد ذلك أبت أن تجعل للكنيسة كممثل للدين أي شرعية في تعيين الفعل المجرم أو طلب إجراء العقوبة عليه؛ وكان ذلك متسقاً مع أمرين:
الأمر الأول: رغبة العلمانية في تقليص سلطات الكنيسة وتقليص الدين في نفوس الناس وتقليص المساحة التي يشغلها من وظائف الدولة؛ فإن وضع جهاز العقوبات المدني في خدمة الرسالة الدينية يتنافى مع المبدأ العلماني القاضي بفصل الدين عن الدولة.
الأمر الثاني: رغبة العلمانية في ترشيد الفعل السلطوي والأساس القانوني وإرجاعه للنظر العقلي في المصالح والمفاسد الوضعية ونزع الدين عن أن يكون مكوناً من المكونات القانونية وموجباً من موجبات العقوبات السلطوية.
وفي النصوص التالية نستعرض كيف تطور هذا المفهوم في الفكر الغربي:
- صنف مارسيل البادواني أستاذ الفنون الأدبية ورئيس جامعة باريس في القرن الرابع عشر الميلادي مع جان دو جاندان "المدافع عن السلام" وفي أحد نصوصه المهمة يقولان: "يعود لسلطة الأمير وحدها، بمقتضى القوانين الصادرة عن المشترع البشري، حق إصدار الحكم الجزائي ضد الهراطقة وسائر من يقتضي ردعهم بالقصاص أو العذاب الزمنيين، كما يعود إليها الحق في إنزال عقوبة شخصية أو عينية بهم وتسريع تنفيذها".
- ويقول مارسيل: "إن السلطة لكي تتمكن من القيام بهذا الأمر إن كان مشروعاً يجب أن يكون بيد المشترع الإنساني وحده".
- ويقول مارسيل: "عندما يعاقب الأمير أحدهم فما ذلك فقط لأنه أخطأ ضد الشريعة الإلهية؛ فكثيرة هي الخطايا المميتة التي ترتكب ضد الشريعة الإلهية كالزنى مثلاً، وتتساهل فيها الشريعة البشرية عن علم وإدراك.. إن إنزال العقاب بالهرطوقي الذي يخل بالشريعة الإلهية أمر ممكن في هذا العالم إذا كانت الشريعة البشرية تحظر هذه الخطيئة أسوة بما عداها. إلا أن سبب العقاب المباشر في هذه الحالة أيضاً هو انتهاك الشريعة البشرية" (النصوص بواسطة: "تاريخ التسامح في عصر الإصلاح" جوزيف لوكلير، نشر: المنظمة العربية للترجمة).
في هذا النص المبكر المهم نجد تباشير الصلة بين العلمانية والتسامح العقابي بجعل مناط عقوبة المهرطق هو خرقه للشريعة الإنسانية لا انتهاكه للشريعة الإلهية، ومطالبته بنقل سلطة تلك العقوبة من الكنيسة إلى الملك، واحتجاجه بأشياء من الشريعة المسيحية لا تعاقب عليها الشريعة ليقيس عليها جنس الشريعة فلا يجعلها بمجردها مصدراً للعقوبة، وجميعها أفكار ستتناسل منها تصورات التنوير العلماني والتنوير الإسلامي بعد ذلك.
- يقول تودوروف: "إن أول سمة تكوينية لفكر الأنوار تتمثل في جعلنا نفضل ما نختاره ونقرره بأنفسنا على ما تفرضه علينا سلطة خارجة عن إرادتنا... ينبغي الانقياد طوعاً للقوانين والقيم والقواعد التي يرغب فيها بالذات أولئك الذين هي موجهة لهم".
- وكان من لوازم هذا التأسيس العلماني للقوانين والتشريعات ألا يكون من مكونات مفهوم الجريمة وتكييف عقوبتها دين أو وحي؛ لذلك يواصل تودوروف عرضه لأسس التنوير العلماني قائلاً: "ولم يكن هذا البرنامج ليشمل السياسة فحسب بل شمل كذلك العدالة؛ إذ غدت الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد" (روح الأنوار؛ تزفيتان تودوروف، ص: [15-17]).
- وقد استوى هذا المفهوم تاماً حين عبر عنه جيفرسون بقوله: "لا تمتد السلطات المشروعة للحكومة إلا إلى تلك الأعمال التي تؤذي الآخرين فحسب، لكن لا يؤذيني في شيء أن يقول جاري إن هناك عشرين إلهاً، أو يقول لا يوجد إله قط؛ فلا هذه ولا تلك تسرق جيبي أو تكسر ساقي" (عصر التنوير، ليود سبنسر، ص: [130]).
- ويقول بنتام في كتابه "أصول الشرائع": "يجب أن يكون سير الديانة موافقاً لمقتضى المنفعة؛ فالديانة باعتبارها مؤثراً تتركب من عقاب وجزاء، يجب أن يكون عقابها موجهاً ضد الأعمال المضرة بالهيئة الاجتماعية فقط... وهذه هي القاعدة الأولية، والطريقة الوحيدة في الحكم على سير الديانة، هي النظر إليها من جهة الخير السياسي في الأمة فقط، كما نظر إليها رجال الدين من قبل، وما عدا ذلك لا يلتفت إليه وكل أمر ديني رأى المقنن وجوب استعماله يصير مضراً إذا سلك في إلزام الناس به طريق التهديد والعقاب" (أصول الشرائع، للنتام، ص: [307]).
2- استبطان المفهوم العلماني للجريمة في الفكر التنويري الإسلامي:
والحقيقة أن التنويريين في تأثرهم بمفاهيم حقوق الإنسان والتسامح الغربية وفي محاولتهم المواءمة بينها وبين الدين الحق قد أضاعوا ثوابت من الدين ما أداهم إلى تضييعها سوى استبطان المفهوم العلماني للجريمة والذي لا يجعل الدين وتضييعه موجباً للعقوبة حتى يقترن هذا بالموجبات العلمانية للعقوبة من أذى الآخرين والاعتداء على حرياتهم وحصول الضرر الاجتماعي.
العلمانية في صلتها بتطور الدولة القومية الحديثة نقلت علاقات الولاء والبراء وقيم الانتماء للجماعة والخروج عنها من الدين إلى مؤسسة الدولة القومية عبر مفهوم المواطنة؛ ونقلت لهذه الدولة الوظائف العمومية للدين، وأبطلت عقوبة المرتد مثلاً لكن تنقلها إلى عقوبة للخارج عن الدولة أو الخائن لها، ثم أبطلت العلمانية إقامة الشأن السياسي على التصورات المعيارية الدينية والأخلاقية؛ لتقيمه على أسس عقلانية إجرائية تعاقدية لا تعاقب إلا على قانون تم سنه بهذه الآليات، وسنرى كيف ابتلع التنويريون العلمانية وكيف قلبوا مفاهيم الدين السابقة على مفاهيم الدولة الحديثة؛ ليجعلوا تشريعات الدين في عقوبات المرتدين وأصحاب الأقوال المحرمة مرتبطة بالولاء للدولة وحفظ استقرارها المجتمعي.
ويتجلى لنا هذا الطرح عند التنويريين باستعراض كلامهم التالي:
- يقول طارق السويدان[1]: "هناك فرق شاسع بين حرية التعبير التي أدعو وأؤمن بها، وبين حرية السب والشتم والاستهزاء، لأني تعريفي للحرية الذي أكرره دوماً (قول وفعل ما تشاء بأدب وبلا ضرر)، فإذا أساء الإنسان الأدب مع الله أو رسوله أو حتى مع الناس، أو استهزأ بدين الله أو المقدسات عندنا أو مقدسات غيرنا، فإن صاحب هذا الفعل ينبغي أن يعاقب لأنه تجاوز الحرية إلى الإساءة والضرر، سواء كان من المسلمين أو غيرهم... وألخص رأيي بأنه على الصعيد العملي أعتقد أن للإنسان الحرية في أن يعمل ما يشاء ما لم يتجاوز ما اتخذه المجتمع من أنظمة تكفل أمنه واستقراره.
أما في مجال الفكر فلا أرى للحرية فيه حدود إلا الأدب وعدم الإيذاء اللفظي.
أما ما عدا ذلك فللإنسان أن يعبر عما بدا له من قناعات وإن خالفت قناعات المجتمع، بل وإن خالفت الدين السائد والمذهب القائم، وواجبنا أن نسمع له ونعمل على إقناعه بالدليل والبرهان لا بالتهديد والقانون" (بيان موجود على صفحته في الفيس بوك).
قلت: وهذه العبارات نصوص دالة على استبطان المفهوم العلماني الذي يجعل سب فلان وفلان، وإيذاء المجتمع، وتكدير الأمن العام، كل تلك جرائم تستحق العقوبة السلطوية، أما الإلحاد ففكر يقارع بالحجة فحسب!
- يقول جاسر عودة: "هناك فرق في الشريعة بين الذنب أي الإثم أو المعصية التي يرتكبها الإنسان مخالفاً لأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه وما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الجريمة التي قد تكون ذنباً، لكن الفرق بينها وبين الذنب أن الجريمة لها عقوبة مدنية" (بين الشريعة والسياسة؛ ص: [93-98]، نشر: الشبكة العربية للأبحاث).
قلت: واستبطان المفهوم العلماني ظاهر جداً فيما طرحه جاسر عودة، وقد زاد عليه بسوء فهم غريب جداً؛ إذ ظن أن إجراء العقوبات التعزيرية يستلزم تقنينها مع ما يستتبع ذلك من عبء على الدولة.
ومع كون هذا ليس صحيحاً؛ بل طبيعة العقوبات التعزيرية القائمة على النسبية التقديرية والموازنة المصلحية تتأبى على التقنين، إلا أن تضخيم الأمر وجعله عبئاً على الدولة فيه مبالغة، لا تتناسب مع التناسل اليومي للقوانين وزيادة أعباء الأجهزة التنفيذية في العالم من أجل قضايا تافهة واستدراكات عصبية لقصور التشريع الوضعي.
كما أن الدكتور عبر ست صفحات كاملة لم يذكر حجة شرعية واحدة بل ظل يسطر الكلمات خلف بعضها في دعوى مجردة عن البرهان.
- يقول عبد الله المالكي: "الشريعة من جهة علاقتها بالسلطة والفعل السياسي تنقسم إلى قسمين:
1- أحكام شرعية إيمانية فردية أخلاقية.
2- أحكام شرعية إيمانية اجتماعية حقوقية.
فالقسم الأول لا يتصف بصفة قانونية حقوقية، ومن ثم لا يحق للسلطة التدخل في فرضه... ومنشأ هذا التقسيم هو أن منطق الشريعة من الوجهة السياسية السلطوية يقوم على تمييز البعد الفردي الأخلاقي من البعد الاجتماعي الحقوقي.. كلها محل إلزام من حيث الديانة.. ولكن الفرق هو أن الأحكام الفردية الأخلاقية التزامها ذاتي فردي مبني على الاختيار الحر المنوط بالمسؤولية التكليفية أمام الله تعالى من دون إجبار أو إكراه سلطوي، ومن ثم فالمسؤولية فيها مسؤولية أخروية فقط، وأما الأحكام الاجتماعية الحقوقية فالتزامها قانوني مؤيد بسلطة الدولة ومؤسساتها التنفيذية ومن ثم فالمسؤولية فيها دنيوية وأخروية في آن" (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة؛ ص: [67-68]، نشر: الشبكة العربية للأبحاث).
قلت: والحقيقية أن الشريعة بريئة من هذا التقسيم، وظاهر جداً التناص الذي يقارب التطابق بين هذا الكلام وبين الأساس التنويري العلماني الذي قرره تودوروف بقوله: "إذ غدت الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد" (روح الأنوار، تزفيتان تودوروف، ص: [15-17]).
وقد نقل المالكي نقلين عن القرافي وابن تيمية في مسألة أخرى تماماً وهي أن حكم الحاكم لا تعلق له بمسائل الفتيا تعلقاً يعين الصواب والحق فيها، ولا صلة لهذا المبحث بمسألتنا والدليل على عدم تعلق كلامهم بمسألتنا ما يلي:
أولاً: أنهم ذكروا مسائل خلاف الفقهاء وأن حكم الحاكم لا يجعل أحد القولين صحيحاً، ومسألتنا ليس في تصحيح أحد القولين وإنما في إمكان العقوبة على مخالفة الشريعة في ما سماه التنويريون أخلاقاً، وأكثر هذا لا تعلق له بخلاف الفقهاء بل هو من المسائل المجمع علي حرمتها، وليس في كلام القرافي وابن تيمية منع الحاكم من العقوبة على مخالفة المجمع عليه، بل في كلامهم النص على جوازها.
ثانياً: أن القرافي بيّن مقصده من كلامه في نفس الموضع الذي ينقل المالكي منه وهو قوله: "ويلحق بالعبادات أسبابها وشروطها وموانعها المختلف فيها، لا يلزم شيء من احكام المترتبة على اعتبار أحدها من لا يعتقده، بل يتبع مذهبه في نفسه ولا يلزمه قول ذلك القائل بحكم الحاكم به".
فدل ذلك قطعاً على أن القرافي يتكلم في مسألة أخرى لا تعلق لها بما نحن فيه، وبينة ذلك القطعية أن المالكي قرر أن الزكاة وأخذها هو من أحكام الحقوق المجتمعية والقرافي هنا يُدخل العبادات في كلامه، فهل يقصد القرافي أن ولي الأمر لا دخل له بجمع الزكاة، أم يقصد أن اختيار ولي الأمر إيجاب الزكاة في الحلي (مثلاً) لا يعين أن هذا هو الحق ويوجب بذلك على الناس تغيير مذاهبهم؟
لا ريب أن مراد القرافي هو الثانية، ومنها ننتقل إلى ما يقطع الجدل كله وهو سؤال:
هل إذا اختار الحاكم إيجاب زكاة الحلي وأراد جمعها من الناس، هل يقصد القرافي وابن تيمية أن ليس للحاكم فعل ذلك؛ لأنها مسألة خلافية؟
الجواب لا؛ إذا لا تخلو مسألة اجتماعية حقوقية "بتصنيف المالكي" من خلاف فقهي ولو كان مراد القرافي وابن تيمية عدم التدخل في الخلاف الفقهي لانسد على الحاكم التدخل في كل شيء حصل فيه خلاف وامتنع عليه اختيار قول يُمضى به القضاء، وهذا باطل لا يقول به فقيه قط، وإنما جرنا إلى كل هذه الثرثرة هذا الفهم العجيب للمالكي لكلام ابن تيمية والقرافي، ومراد الرجلين هو عدم صلاحية اختيار الحاكم لتعيين الحق وقمع الفتيا المخالفة، وليس عدم صلاحية اختيار الحاكم لإمضاء القضاء والتصرف السلطوي على مقتضاه، لا فرق في هذا بين خلقية أو اجتماعية وليس هذا هو مورد القسمة في كلام الشيخين أصلاً بل مورد القسمة عندهما في التفريق بين الفتيا وأن اختيار الحاكم لا يقضي عليه سواءً في الأخلاق أو الحقوق، والتفريق بين ذلك وبين الفعل السلطوي وأن تأثير اختيار الحاكم فيه لا جدال فيه لا يفرقون في ذلك بين أخلاق وحقوق.
ثالثاً: أن كلام ابن تيمية في الموضع المنقول كان في سياق اعتراضه على رفع كلامه في الواسطية لابن مخلوف القاضي، وليست هذه من مسائل القضاء، ولا علاقة لهذا كما ترى بتفريق بين خلقية وحقوقية كما يتوهم المالكي.
ثم إن أكثر كلام ابن تيمية في هذه المسألة كان عطفاً على قوله في الطلاق ثلاث وإرادة بعض الفقهاء منعه من الفتيا فيها؛ لأن فتياه على غير اختيار الحاكم، وهذا يدل دلالة قطعية على بطلان فهم المالكي لكلام ابن تيمية وذلك لسببين:
الأول: أن هذه المسألة من مسائل الحقوق في تقسيم المالكي فيلزم المالكي على فهمه أن ابن تيمية يقصد منع تدخل الحاكم بسن قانون في الطلاق مبني على اختياره من أقوال الفقهاء، وهذا باطل لا يقول به المالكي.
الثاني: أن ابن تيمية مقر بأحقية الحاكم في فرض قانون مبني على اختياره في الطلاق وإنما نزاع ابن تيمية في احتجاج خصومه بذلك على منعه من الفتيا؛ فكلام ابن تيمية كله في الفتيا وأن اختيار الحاكم لا يقيدها وليس في أن اختيار الحاكم وتصرفه مقيد.
وخاتمة الاحتجاج هاهنا: أن عبد الله المالكي لو أتم نقل كلام ابن تيمية سيجده في الصفحة المقابلة للصفحة التي فيها هذا الكلام يُتم كلامه فيقول: "والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين. إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء من الآية:59].
وإذا تنازعوا فهم كلامهم: إن كان ممن يمكنه فهم الحق فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه وأن يقر الناس على ما هم عليه؛ كما يقرهم على مذاهبهم العملية. فأما إذا كانت البدعة ظاهرة -تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة- كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والجهمية.
فهذه على السلطان إنكارها؛ لأن علمها عام، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر وترك الصلاة ونحو ذلك ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئاً -عند الجهال- لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة" (مجموع الفتاوى: [3/239]).
وهذا نص قاطع في عدم التفرقة بين شرائع الدين في إمكانية التدخل السلطوي، وأنا أعقد خلوة شرعية بين هذا النقل وبين أخي عبد الله المالكي، فليس بعد دلالته مجال لاحتجاج ولا متسع للجاج.
وثم خطأ آخر وقع فيه المالكي في هذا الموضع وحاصله:
أنه لما أراد الاحتجاج للتفريق العلماني بين جرائم الحق العام وبين الحريات الفردية في ارتكاب ما يحرمه المقدس أورد نصوص الفقهاء في عدم جواز التجسس وتتبع العورات، وموضع الغلط هنا: أن الفقهاء يحرمون التجسس، ولكنهم لا يقولون بأن الجريمة المستورة لا يعاقب عليها صاحبها إن تم كشفها بغير تجسس كالإقرار -ماعز والغامدية- مثلاً، أو انكشاف ستر من غير تجسس كما في واقعة الزنا التي سيقت لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
ويلزم المالكي أن يمنع عقوبة من أقر على نفسه بشرب الخمر؛ لأنه في تصوره إنما شربها في بيته ولم يقتحم بها المجال العام!
فالمالكي جعل منع التجسس منعاً للعقوبة السلطوية، والواقع أنه لا تلازم بينهما، وإنما جره إلى هذا استبطانه للتصورات التنويرية العلمانية الغربية في العقوبات ففرق بين الأخلاق والحقوق المجتمعية ثم فرق بين المجال الفردي والمجال العام، وكل هذه التفريقات مصادمة لنصوص الشريعة القطعية وغاية ما مع المالكي فيها هو أفهام بينة الخطأ لكلام الفقهاء، وهي الإشكالية الشائعة في الطرح التنويري.
والحقيقة أن هذا التصور ينافي تماماً الدين الحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكل معصية جعلتها الشريعة معصية وقدرت استحقاق فاعلها لعقوبة أخروية فهي جريمة يجوز التدخل السلطوي للعقاب عليها إن كان العقاب السلطوي هو الأصلح؛ فالأساس في اعتبار الفعل جريمة في نظر الإسلام هو مخالفة أوامر الدين (انظر: الجريمة؛ لمحمد أبي زهرة؛ ص: [25]).
ولعلي أختم بمثال من سياسة الفاروق عمر أوشك أن يعاقب فيه على تصرف غير أخلاقي لحق ديني هو حق مسجد رسول الله، ولم يمنعه إلا احتمال جهل الرجلين وعدم تفقههما:
عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَضَرَ رَجُلٌ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. فَذَهَبْتُ، فَجِئْتُ بِهِمَا فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ قَالَ: "لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ مَا فَارَقْتُمَانِي حَتَّى أُوجِعَكُمَا جَلْدًا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم!" (صحيح، أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة [1/33] قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ومن طريقه البخاري في صحيحه رقم: [470] عن الْجَعْدُ (وقد يصغر) عن يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ به).
3- القطعيات المهدرة في الطرح التنويري لمفهوم الجريمة والعقوبة.
بيّنا أن الطرح العلماني حول مفهوم الجريمة والعقوبة يمنع تدخل السلطة السياسية لدعم الرسالة الدينية، ويرفض تجريم ما تعده الرسالة الدينية جريمة، ويقصر التدخل السلطوي على الجرائم المجتمعية التي تتعلق بأذى الأفراد مع ضبط حدود ذلك بالقوانين التي يختارها الناس.
وبينا تأثر التنويريين واستبطانهم لهذا المفهوم ومحاولتهم موائمته مع النصوص الشرعية عن طريق أفهام غير صحيحة للطرح التراثي الفقهي، في غفلة شديدة منهم عن المتعلق العلماني لهذا المفهوم والذي ترجع جذوره لسياسات فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية.
ونذكر هاهنا أمثلة على القطعيات التي أهدرها التنويريون بسبب استبطانهم لهذا المفهوم وهي ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: تحريفهم للعقوبة الشرعية للمرتد.
اتفقت كلمةُ هؤلاء الإسلاميين على وجوب العقوبة على الردة المقترنة بالخروج بالقوة على النظام العام وهو قول محمد عمارة وطه جابر العلواني وحسن الترابي (انظر: التعددية؛ لمحمد عمارة؛ ص: [9]، و{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؛ لطه جابر العلواني؛ ص: [15]، و"السياسة والحكم" للترابي؛ ص: [156]).
ثم اختلفوا في الردة التي لم تقترن بذلك على أقوال:
الأول: إمكان قتل المرتد وأن العقوبة سياسية تعزيرية إن شاء الإمام أمضاها وإن شاء لم يُمضها، وهو قول راشد الغنوشي، ومحمد سليم العوا (انظر: "الحريات العامة في الشريعة الإسلامية" للغنوشي؛ ص: [49-50]، و"أصول النظام الجنائي في الإسلام" لمحمد سليم العوا؛ ص: [217]).
ثانياً: التفريق بين الداعية لردته فيقتل وغيره فلا يقتل وهو قول الشيخ يوسف القرضاوي (انظر: "جريمة الردة" للقرضاوي ص: [48-56]).
ثالثاً: استتابته أبداً، وهو قول عبد المتعال الصعيدي وعبد المعطي بيومي (انظر: "الحرية الدينية في الإسلام" ص: [69-70] "التكفير بين الدين والسياسة" ص: [10]. مع ملاحظة أنهم لا يقولون حتى بسجنه أثناء مدة الاستتابة فهذا رفع لمطلق العقوبة).
وظاهر جلي جداً تأثر كل قول من هذه الأقوال بالتكييف العلماني الذي لا يربط العقوبة السلطوية بمجرد المخالفة الدينية، ويتجلى هذا بمراجعة نصوص أقوالهم خاصة حين استرواحهم للمحاربة السياسية أو الدعوة للردة وتكييفهم لهذا بما يُخرج الجريمة عن صورتها الدينية الضيقة ليدخلها في حيز ما تُجرمه القوانين الغربية المعاصرة في غفلة شديدة عن الأساس العلماني لهذا التفريق؛ فكل استرواح لمثل هذا هو ضعف في تصور عظمة مصيبة الكفر بالله عز وجل بعد الإيمان به، وأنه لا تفتقر لمكون آخر لإيجاب العقوبة، وعلى ذلك تدل النصوص الشرعية التالية:
1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » ومفارقة الجماعة هاهنا صفة مفسرة وليست قيداً؛ إذ كل ترك للدين هو مفارقة لجماعة المسلمين وسيأتيك نص أهل العلم على هذا المعنى (راجع تخريج الأخبار كلها في مقالتي: "عقوبة المرتد بالنقل"، في ملتقى أهل التفسير).
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ».
2- وعن عكرمة أن علياً رضي الله عنه، حرَّق قوماً، فبلغ ابن عباس رضي الله عنهما فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « »".
3- في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري رضي الله عنه والياً إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما قدِمَ عليه ألقى أبو موسى وسادةً لمعاذ، وقال: أنزل، وإذا رجل عنده موثق، قال معاذ: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهوّد[2]، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله -ثلاث مرات- فأمر به فقُتِل.
5- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه، قال: أخذ ابن مسعود قوماً ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق؛ فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه: "أن اعرض عليهم دين الحق، وشهادة لا إله إلا الله فإن قبلوها فخل عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله".
6- وعَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِشَيْخٍ كَانَ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: "لَعَلَّكَ إِنَّمَا ارْتَدَدْتَ لِأَنْ تُصِيبَ مِيرَاثًا ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ" قَالَ: لَا. قَالَ: "فَلَعَلَّكَ خَطَبْتَ امْرَأَةً فَأَبَوْا أَنْ يُنْكِحُوكَهَا فَأَرَدْتُ أَنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ" قَالَ: لَا. قَالَ: "فَارْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ" قَالَ: أَمَا حَتَّى أَلْقَى الْمَسِيحَ فَلَا، فَأَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَدُفِعَ مِيرَاثُهُ إِلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وظاهر جلي دلالة هذه الأخبار بألفاظها وسياقاتها على عدم تقييد عقوبة المرتد بحرابة أو استتابة مطلقة، أو تقدير إمام، ونحو هذا، بل ألفاظها وسياقاتها قطعية في الدلالة على ما أجمع عليه فقهاء المسلمون من أن المرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل لمجرد ردته لا غير.
قال الشافعي: "فلم يختلف المسلمون أنه لا يحل أن يفادى بمرتد بعد إيمانه ولا يمن عليه ولا تؤخذ منه فدية ولا يترك بحال حتى يسلم أو يقتل" ("الأم": [6/169]).
وينص الشافعي نصاً لا ارتياب فيه على مناط قتل المرتد أنه: "إنَّمَا يُوجِبُ دَمَهُ كُفْرٌ ثَبَتَ عَنْهُ إذَا سُئِلَ النُّقْلَةَ عَنْهُ امْتَنَعَ، وَهَذَا أَوْلَى الْمَعْنَيَيْنِ بِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَتَلَ مُرْتَدًّا رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَبُو بَكْرٍ قَتَلَ الْمُرْتَدِّينَ وَعُمَرُ قَتَلَ طُلَيْحَةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ، وَغَيْرَهُمَا" ("الأم": (1/295).
وقال ابن تيمية: "الخروج من الدين يوجب القتل وإن لم يفارق جماعة الناس" ("الصارم المسلول": [1/320]).
ويقول الطاهر ابن عاشور: "حكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة من الآية:256]، على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام" ("التحرير والتنوير": [2/319]).
المسألة الثانية: منعهم العقوبة الشرعية على الآراء الشاذة المحرمة.
الآراء المحرمة: هي كل اختيار في مسألة دينية يُظهره من اختاره، ويكون هذا الاختيار مخالفاً للنص القاطع أو الإجماع القديم.
والعقوبة: هي الجزاء، وتكون العقوبة شرعية حين تكون جزاء معيناً يؤذن الشرع باستعماله في هذا المقام المعين.
يقول القرافي: "الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة... معظمها على العصاة زجراً لهم عن المعصية، وزجراً لمن يقدُم بعدهم عن المعصية" (انظر: "الفروق": [1/213]).
ومحل النزاع في بحثنا هذا هو الصورة الباطلة التي قبلتها هذه الطائفة من التسامح الغربي، وهذه الصورة هي: منع العقوبة على مطلق الآراء المحرمة، وإنما ينتقون هم أنواعاً من الآراء المحرمة -فمستقل ومستكثر- يجيزون العقوبة عليها، أما الأكثر الأعم من الرأي المحرم فلا يجيزون العقوبة عليه.
لذلك كان النزاع بيننا في دعوانا أنه: يمكن شرعاً العقوبة على كل قول أو فعل محرم.
أي: إمكان أن تقع العقوبة على أي قول محرم، ويكون تحقق هذا الإمكان ووقوعه على قول محرم معين راجع لاجتهاد الإمام ونائبه من قاض ونحوه إن كانت العقوبة قضائية، وراجع للمجتهدين إن كانت العقوبة مجتمعية كالهجر أو الرد العلني ونحوه.
ويكون مناط النظر الاجتهادي في العقوبتين القضائية والمجتمعية هو: مصلحة الأمة ممثلة في المجتمع الذي أُظهر فيه القول المحرم، ومصلحة قائل القول المحرم نفسه، ومدى تطلب تحقيق هذه المصالح ودرء ضدها من المفاسد إلى معاقبة صاحب الرأي المحرم.
كما أن باب الاجتهاد مفتوح أمام أي محاولة لتفصيل ضوابط المصلحة في هذا الباب، بل باب الاجتهاد عندي مفتوح أمام المطالبة بإيقاف بعض صور هذه العقوبة ولو كانت مستحقة سداً لذريعة التوظيف السياسي إن انضبط مناط سد الذريعة ولم تعترضه مصلحة راجحة بينة.
والذي تدل عليه الأدلة والوقائع التاريخية للتجربة الراشدة، وممارسات السلف هو تقليل العقوبات السلطوية المصلحية-بالذات حين خروج السلطان عن الممارسة الراشدة وعدم أمن تعديه- وتغليب وتكثير العقوبات المجتمعية كالذم والزجر والهجر لكن هذا التقليل لا يعني الإعدام، بل الأصل إمكان هذه العقوبة وأنها مما يجيز الشرع للإمام استعماله بحسبه، وأنها مما يوجب الشرع النظر في مناطات استعمالاتها، فهذا قدر ثابت ليس مع المنازع فيه حجة عقلية أو نقلية.
وأما هؤلاء المخالفين: فمنعوا فتح الباب لإمكان العقوبة بهذه الصورة، وخصوا العقوبة بنطاقات معينة مرجعها في الغالب لتوسعتهم[3] لمبدأي السب وتكدير السلم الاجتماعي في العقوبات المدنية الغربية بحيث يتناولان بعد التوسعة بعض القضايا التي لم يجدوا مناصاً من إثباتها كعقوبة ساب الرسول، ولا حاجة بنا لتفصيل الرد على كل واحد منهم بحسب ما اختاره من نطاق للعقوبة؛ لأن قولنا هذا إن أثبتنا كونه حقاً، فسيؤدي هذا لإبطال جميع تقييداتهم؛ لكونه يُقرر أصل الجواز وشموله.
والحق أن موقف التنويريين من تلك الآراء يمكن تعيينه من غير عسر بمجرد تأمل أقوالهم في الردة نظراً إلى أن الردة هي سقف الأقوال المحرمة نظراً؛ لأنها تقع حتى من غير تأويل وتقع قصداً للخروج عن الإسلام فمن كان لا يعاقب بها أو يضيق نطاق عقوبتها فكيف سيكون قوله فيما دونها؟
ومع ذلك فإن تعيين أقوال الناس لا يكفي فيه مجرد هذا الاستدلال، ولذلك سأذكر هاهنا شيئاً من أقوالهم الدالة على موقفهم من العقوبة على الرأي المحرم:
1- يقول عبد المتعال الصعيدي: "كل ما يدخل في باب الحرية الفكرية في مأمن من العقاب الدنيوي؛لأنه يجب فتحه على مصراعيه؛ إذ لا يخشى على المجتمع منه، وإنما يقصده رواد الخير للإنسانية؛ليصلوا بأفكارهم إلى ما فيه سعادتها دنيا وأخرى، فإذا أصابوا فبفضل من الله، وإذا وقعوا في خطأ، كانوا معذورين فيه، ولا يصح عقابهم بشيء ما عليه. فإذا تعسف الحكام في ذلك بالتضييق على الناس في باب الحرية الفكرية فإن الدين يكون بريئاً من هذا التعسف" (انظر: "الحرية الدينية في الإسلام" ص: [12]).
2- يقول عبد العزيز قاسم منتقلاً من الحديث عن عقوبة المرتد إلى العقوبة على الآراء المحرمة مفرقاً بينهما: "عقوبة المرتد عقوبة شرعية ورد بها النص في قوله عليه الصلاة والسلام: « » بيد أن تطبيقات هذه العقوبة تعرضت لتحولات خطيرة في التاريخ الإسلامي؛ فقد استغلت لتصفية حسابات سياسية في بعض الأحيان[4]، ووظفت في المواجهات المذهبية؛ فقد حوكم ابن تيمية مثلاً بتهمة مخالفة الإجماع -ما علاقة هذا بعقوبة المرتد؟!-، وكاد يُقتل، وقد توسعت بعض كتب الفقه في تشريع العقوبة حتى امتدت إلى المبتدع (هذا لم يكن من توسع كتب الفقه بل هو مستقر مستفيض في أقوال السلف وأفعالهم رحمهم الله).
وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين مع ردتهم، وعلل ذلك بأنه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتلُ أصحابه[5]؛ ولهذا[6] اعتبر بعض الفقهاء[7] أن هذه العقوبة مرتبطة بمفارقة الجماعة[8]، أي الخروج عليها" ("الحداثة والنص والإصلاح الديني" ص: [70]، نشر: الشبكة العربية للأبحاث).
وقد ذكرتُ هذا النقل رغم تفككه المعرفي؛ لأدلل على أن هذه الجمجمة في عقوبة المرتد وهي ثابتة بالنص فما بالنا بما دونها من الآراء المحرمة.
3- يقول نواف القديمي: "ما أريده هنا... أن نتأمَّل فقط في هامش الحريات الموجودة بمجتمع المدينة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، لأننا سنجد شيئاً مُذهلاً تتداعى أمامه كل مبررات الدعوة للطرد والإسكات واتهام العقائد والنيات، وذلك مع المنافقين الذين يعلم رسول الله نفاقهم القطعي من فوق سبع سماوات.. فكيف يكون الأمر في مجتمعاتنا اليوم أمام كتّاب -اختلفنا أو اتفقنا معهم- هم إسلاميون مهمومون بإصلاح المجتمع، ولهم آراؤهم الشرعية التي يستندون بها على أدلة من الكتاب والسنة.
لننظر فقط لما كان يقوله ويفعله المنافقون بالمدينة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبين ظهرانيه، وهو ما نقله لنا القرآن الكريم في آياتٍ تُقرأ إلى يوم القيامة... ورغم أن المنافقين كانوا يعيشون بين ظهراني الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الكِرام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإسكاتهم قسراً وعِقابهم على أقوالهم. فضلاً عن قتلهم لقولهم ما يوجِب الكفر الصريح... أمام كل هذا الهامش الواسع لحُريّة الكلمة في مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي مجتمع الصحابة الأول، هل ثمة بعد ذلك مبررٌ لكل هذا القلق من ترداد البعض لأفكار يراها آخرون مخالفة لما اعتادوه من أحكام شرعية، أو حتى تصريح البعض بما يُناقض الشريعة في المُجتمع المسلم؟!
رغم أن التعامل مع المنافقين في مُجتمع المدينة، وإسكاتهم، وإيقاف كفرهم وضلالهم، كان أيسر بكثير مما يمكن أن يستطيعه أي نِظام سياسي اليوم تجاه المُختلفين سياسيّاً وفكريّاً" (مقالة بعنوان: "على هامش فتوى البراك في جلبي" وانظر: "تجديد فهم الوحي" لإبراهيم الخليفة ص: [446-455]).
والحقيقة أن الاحتجاج بواقع المنافقين من أعجب ما قيل من الاحتجاج العلمي في تاريخ الإسلام، وهو أحد دلائل ضعف القدرة الاحتجاجية في العصر الحديث؛ لذلك لا تجد فقيهاً ولا متكلماً في تاريخ الإسلام يحتج بمثل هذه الحجج، وأبسط البدهيات العقلية تقضي بأنه لم يك ثم داع لنفاق ولا غيره إن كانت حرية المنافقين في إظهار عقائدهم متاحة؛ فأي حاجة لرسول الله أن تنقطع معرفته بباطل المنافقين إلا بلحن قولهم؟
وبدهية أختها: وهي أن بعض المنقول في القرآن عن المنافقين هو مما يدخل في نطاق السب الذي يجعله إخواننا هؤلاء جريمة؛ فلازم قولهم أنه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم فيه حرية ولا عقوبة عليه، وهم لا يلتزمون هذا مما يدلك على خلل قولهم بل خلل فهمهم لقولهم.
وتضييع تلك البدهيات الواضحات مما يدلك على الواقع المؤسف للحالة الاحتجاجية في الفكر العربي المعاصر.
وقد توسع بعض الباحثين في نقد هذه الحجة من وجوه كثيرة أخص من هؤلاء الباحثين إبراهيم السكران؛ فهو أحسن من وفاها نقداً.
يبقى أمر أخير: وهو النصاعة الظاهرة لقيام المانع الشرعي من عقوبة المنافقين على باطلهم وهو ما في الصحيحين من حديث عمر وجابر بن عبد الله قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري قال: فقال النبي عليه الصلاة والسلام: « »، وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر رضي الله عنه: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجه البخاري [4905]، ومسلم [2584]).
ورغم ذلك فإنه لما تصاعدت ظواهر نفاقهم ليأسهم من وقف المد الإسلامي بدأوا يكثفون خططهم، وبدأ القرآن يكثف الحملة ضدهم؛ فقد آن أوان محاسبتهم على نفاقهم فقد أصبح الإسلام قوة يعمل لها ألف حساب وقد سيطرت على الإمبراطوريات الكبرى والوقت لم يعد وقت مداراة للمنافقين المعوقين داخل الصفوف؛ فقد أصبحت المصلحة تقتضي بعد ظهور قوة الإسلام أن يعامل هؤلاء كالكفار الصرحاء.
- فأنزل الله تبارك وتعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا . مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا . سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:60-62].
قال ابن تيمية: "دلت هذه الآية على أن المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم وأنهم لا يجاورونه بعد الإغراء بهم إلا قليلاً وأن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا وأصيبوا أسروا وقتلوا وإنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوماً لا يمكن قتلهم".
فأين الحرية المكفولة لهم إذن؟!
فإذا انتهينا من هذه الشبهة رجع القول إلى أصل مسألتنا وهو حكم العقوبة على الآراء المحرمة، والحق أن الآراء المحرمة هي من المنكر الواجب تغييره بالاتفاق، وللمسلمين ولولي أمرهم طرائق لهذا التغيير منها جواز تغييره بالقوة لصاحب السلطان، ومنه عقوبة صاحب الرأي المحرم عقوبة سلطوية، وهذا هو الذي تدل عليه نصوص الشريعة القطعية وكلام أهل العلم لا يختلفون فيه ومن ذلك:
1- عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « » (أخرجه أحمد: [11460]، [11073]. ومسلم [49]).
2- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « » (أخرجه أحمد [4379] ومسلم [50]).
قلت: وكل صاحب سلطان يستطيع إزالة المنكر وإجراء العقوبة الشرعية على فاعله إن اقتضت المصلحة إجراءها فهو مخاطب بهذه الأدلة لا بينة على خروجه منها.
3- قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ . أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:12-13].
قلت: وهو صريح في اعتبار تصرف "الطعن في الدين" بمجرده تصرفاً حربياً يبرر القتال ويساوي تصرفات العداوات السياسية كنكث العهود، ويدل على جواز العقوبة السلطوية عليه، وأن الشريعة لا تفرق بين الطعن في الدين وبين التصرفات الحربية في استحقاق الجميع للعقوبة السلطوية.
- قال الشافعي: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويُحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" ("مناقب الشافعي"؛ للبيهقي [1/462]).
- قال الأجري: "يَنْبَغِي لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأُمَرَائِهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ مَذْهَبُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ -مِمَّنْ قَدْ أَظْهَرَهُ- أَنْ يُعَاقِبَهُ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلَهُ قَتَلَهُ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَضْرِبَهُ وَيَحْبِسَهُ وُيُنَكِّلَ بِهِ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَنْفِيَهُ نَفَاهُ، وَحَذَّرَ مِنْهُ النَّاسَ" (الشريعة: [1/483]).
- وقال الماوردي متحدثاً عن واجبات الحاكم المسلم: "أَحَدُهَا: حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَإِنْ نَجَمَ مُبْتَدِعٌ أَوْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ، أَوْضَحَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ، وَالْأُمَّةُ مَمْنُوعَةً مِنْ زَلَلٍ" (انظر: "الأحكام السلطانية" ص: [40]، ومثله عند أبي يعلى ص: [24]).
- قال ابن تيمية: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور؛ وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات. فمنها عقوبات مقدرة؛ مثل جلد المفتري ثمانين وقطع السارق. ومنها عقوبات غير مقدرة قد تُسمّى "التعزير".
وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها؛ وبحسب حال المذنب؛ وبحسب حال الذنب في قلته وكثرته.
"والتعزير" أجناس؛ فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، فإن كان ذلك لترك واجب مثل الضرب على ترك الصلاة أو ترك أداء الحقوق الواجبة: مثل ترك وفاء الدين مع القدرة عليه؛ أو على ترك رد المغصوب؛ أو أداء الأمانة إلى أهلها: فإنه يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الواجب ويفرق الضرب عليه يوما بعد يوم.
وإن كان الضرب على ذنب ماض جزاء بما كسب ونكالاً من الله له ولغيره: فهذا يفعل منه بقدر الحاجة فقط وليس لأقله حد... وأمر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة.
وأمر بضرب الذي نقش على خاتمه وأخذ من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة.
وضرب صبيغ بن عسل -لما رأى من بدعته- ضرباً كثيراً لم يعده.
ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل مثل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى البدع في الدين، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة من الآية:32].
وذهب مالك ومن وافقه من أصحاب الشافعي إلى قتل الداعية إلى البدع، وليست هذه القاعدة المختصرة موضع ذلك، فإن المحتسب ليس له القتل والقطع.
ومن أنواع التعزير: النفي والتغريب؛ كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزر بالنفي في شرب الخمر إلى خيبر؛ وكما نفى صبيغ بن عسل إلى البصرة وأخرج نصر بن حجاج إلى البصرة لما افتتن به النساء" (انظر: "الفتاوى" [28/108])
وقال ابن تيمية: "فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعياً، وهو لا يقبل الحق: إما لهواه، وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين. والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبينوا له الحق، كما فعل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه، ثم نكت التوبة بعد ذلك فقتلوه. وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم، ثم قاتل الباقين.
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قوبل بالعقوبة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّه مِنْ بَعْد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتهمْ دَاحِضَة عِنْد رَبّهمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَب وَلَهُمْ عَذَاب شَدِيد} [الشورى:16] (انظر: "درء التعارض" [7/172]).
قلت: ولا يحتج بأن الوحي لم يُرتب عقوبة معينة للأقوال الشاذ المحرمة؛ ذلك أنه لا حجة في ذلك لوجهين:
الوجه الأول: أن الاحتجاج بترك الوحي لا بد أن يكون بعد إثبات قيام المقتضى وانتفاء المانع والذي نقرره أن المقتضى لم يقم للنص على عقوبة للأقوال الشاذة لقلة وندرة ظهور هذه الأقوال زمن النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يك ثم من يستقل بنظر في الشريعة ليشذ في قوله، والناس كانوا تبعاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يك ثم مظنة لمثل ذلك سوى أقوال المنافقين الذين كانوا يستخفون بأقوالهم، وبعض أقوال لأعراب حديثي عهد بإسلام، واستخفاء الفريق الأول وحداثة عهد الفريق الثاني بالإسلام مع ندرة ذلك كله يقلل من اقتضاء النص على عقوبة لمثل ذلك، ومثلها بلوغ المحرمات رتبة تقتضي مصلحياً العقوبة عليها بعقوبات بدنية، فلا بينة على وقوع هذا ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم العقوبة رغم وقوعه، مع دلالة الأدلة على استعماله عقوبات زجر وهجر هي داخلة في جنس العقوبة المثبتة لأصل وجود عقوبة على جنس الذنوب.
يُضاف إلى ذلك قيام المانع: وهو تعذر إقامة العقوبات على مثل ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم والدين ينزلُ منجماً فحتى النادر من الأقوال الباطلة التي تقع من أصحابه صلى الله عليه وسلم يرجع لنقص العلم بالوحي ومراد الله ورسوله على نحو ما وقع من معاذ وعائشة وأسامة رضي الله عن الجميع، فكان يُكتفى بتعليمهم مع التشديد أو عدمه، مع تعذر عقوبة المنافقين لما سبق ذكره.
الوجه الثاني: أن الأقوال الشاذة في الدين لا تنضبط مقاديرها من جهة البطلان والطعن في الدين ولا من جهة الخطورة على المجتمع ولا من جهة انتهاكها لحرمة الدين ولا من جهة نفع العقوبة للقائل بها، ولا من جهة هذا القائل نفسه وما يظهر منه من حسن القصد والاجتهاد الموجبين للتخفيف، وهذه النسبية الشديدة في أحوال الأقوال الشاذة تمنع إجراء التعامل معها على وجه واحد فناسب ذلك جريانها على جهة السياسة والمصلحة كما قررناه.
فإن أبوا إلا التمسك بهذه الحجة، فإنا نذكر بينة قاطعة تدلهم على خطأ هذه الحجة، وتدل في الوقت نفسه على أن ما يحركهم هو المضمون العلماني لا الاحتجاج الفقهي: فإن لازم قولهم هذا هو عدم العقوبة السلطوية في جرائم السب المجرد كأن يسب الرجل أبا الرجل أو أمه؛ إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب على مثل هذه الجرائم أو أذن للناس أن يطلبوا العقوبة عليها، ولا يمكن تجويز العقوبة عليها إلا وفقاً لتأصيلنا لا لتأصيلكم.
المسألة الثالثة: إنكارهم قتال الطوائف المتتنعة عن الشريعة
يقول عبد الله المالكي: "فحروب الردة التي خاضها الصديق رضي الله عنه كانت لمواجهة انفصال القبائل المتمردة التي امتنعت عن دفع الزكاة، ولجل تثبيت الوحدة السياسية للدولة الناشئة.. فهو لم يحاربهم حرباً دينية؛ لأنهم على التوحيد في معظمهم ويدينون بالإسلام، ويصلون ويصومون ويحجون، بل ويزكون، ولكنهم يصرفون زكاتهم في مضارب قبيلتهم، ويمتنعون عن دفعها إلى عاصمة الخلافة وبيت مال الدولة، فلا وجه إذاً لمحاربتهم الحرب الدينية وإنما سيحاربهم حرباً سياسية تعيد للدولة هيبتها ووحدتها، وتضمن لهذه الوحدة النمو والتدعيم" (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة؛ ص: [175]).
والحقيقة إن هذه التصورات المستبطِنة للمفاهيم العلمانية عن الدولة الحديثة ذات السيادة والتي هي مركز الولاء ومنتجة القيم والتي تسقط الدولة بهذا المفهوم الحداثي العلماني على الخلافة الراشدة كلها أجنبية عن الشريعة والدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وفقه خليفه في إقامته الصديق أبي بكر رضي الله عنه؛ ذلك أن التكييف الذي لا يرتاب فيه لحروب مانعي الزكاة أنها حروب دينية لقوم ضيعوا شعيرة من شعائر الإسلام، هذا هو مناطها لا غير؛ لأنها دولة خلافة وإقامة للدين، وليست دولة العلمنة الحديثة التي تهمها حدودها ولا ترعى حدود ما أنزل الله، ويدل على هذا المناط دلالة قطعية لا يرتاب فيها فيه عالم بلسان الشرع قول أبي بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال" (أخرجه البخاري رقم: [1400]، وأطرافه فيه، ومسلم رقم: [20] من حديث أبي هريرة).
فجعل المناط هو التفريق بين شرائع الله في الاستجابة لها. وصريح قوله أنهم لو منعوا الصلاة لقاتلهم فدل ذلك دلالة قطعية على عدم تعلق القتال بالإمامة والسياسة، ولذلك نص الفقهاء على القتال على المندوبات المتواترة وليس فيها حق للإمام.
يقول مالك: "الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقاً عليهم جهادُه حتى يأخذوها منه" (الموطأ؛ ص: [269] ـ كتاب الزكاة، باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها).
ويقول شيخ الإسلام: "أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله، فلو قالوا: نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعاً، كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة" (في مجموع الفتاوى؛ [28/ 469-470] بتصرّف واختصار، وانظر: مجموع الفتاوى؛ [22/ 51، 28/ 308، 502، 556]، والفتاوى الكبرى: [2/ 32، 3/ 473، 5/ 529]، ومختصر الفتاوى المصرية: ص: [167، 468]).
خلاصة:
الحق أنك مهما حاولت استقراء الأساس الفكري للتفريق بين الآراء الباطلة المحرمة وبين غيرها من الأقوال والأفعال التي لا يمانع المخالف من العقوبة الدنيوية عليها.
ومهما حاولت أن تجد فرقاً منضبطاً بين السب والشتم الذي يجيز التنويريون العقوبة عليه وبين الجناية على الدين والاعتداء على حق الله الكامنين في الردة والطعن في الدين.
ومهما حاولت أن تتأمل لم جعل المخالفون العقوبة على الرأي جائزة إن اقترن بعدوان على الدولة ومنعها إن لم يقترن بذلك.
مهما حاولت التأمُّل في كل ذلك لن تبصر مناطاً منضبطاً لتفريقاتهم هذه سوى كونها نوعاً من الاستبطان اللاشعوري للعلمانية.
فالعلمانية وحدها هي الأساس الذي يفسر كل تلك الفروقات التي يرفضها العقل السليم.
فالعلمانية هي التي أسست لعدم تدخل القانون الزمني لحماية الديني.
والعلمانية هي التي تنزع القداسة عن الديني وتبقيها للإنسان فلا تعاقب على التجديف وسب الله والأديان وتعاقب على سب الإنسان.
والعلمانية هي التي ابتدعت التفرقة بين الجرائم الدينية وبين الجرائم المدنية.
والعلمانية هي التي فرقت بين الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد.
وستجد الحقيقة الناصعة التي لا تحتجب إلا بأخلاق النعام: أن استبطان التنويريين لهذه التصورات العلمانية هو الذي أنتج أقوالهم الشاذة في أبواب الردة والعقوبة على الأقوال الشاذة وقتال الطوائف الممتنعة وجهاد الغزو، وسائر ما أضاعوه من قطعيات الدين.
كل ذلك نفق مظلم أدخلتهم فيه المفاهيم الغربية ومجاهدة بلاء الموائمة غير المنضبطة بينها وبين الشريعة بالتأويلات المتكلفة والتحليلات المتطرفة والأفهام المعتسفة للنصوص والوقائع وكلام الفقهاء.
أسأل الله أن يهديهم وأن يشرح صدورهم وأن ينير دربهم وأن يُجري ماء الفرح بهذا الدين وثوابته دافقاً بين ترائب صدورهم.
ـــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] (أختار حذف الألقاب من كلامي اختصاراً مع حفظ مقامات أصحابها؛ فأرجو ألا يُفهم من حذفها إرادة تنقص).
[2] (لاحظ كيف أنه لم يذكر مناطاً آخر كترك الجماعة أو غيره، بل فقط مجرد الارتداد).
[3] (وجعلتها توسعة؛ لأنه حتى الغرب لا يعاقب تحت هذين المبدأين على سب المقدسات غالباً، وإنما حشرها التنويريون تحتهما عنوة، فلا الحق ظل معهم ولا الباطل يقبلهم).
[4] (انظر لإبطال هذه الدعوى: "التفسير السياسي للقضايا العقدية" للشيخ سلطان العميري ص: [99-122]).
[5] (هذه هي العلة إذن).
[6] (أي لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم كي لا يتحدث الناس هذه هي مقدمة التعليل فننظر ما نتيجته؟).
[7] (لم يثبت بطريق صحيح يُطمئن إليه عن فقيه قط، وإنما هو قول محدث).
[8] (للقارئ الكريم جائزة من المؤلف إن استطاع أن يجد لي رابطاً بين امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين خشية سوء الشائعة وبين قصر قتل المرتد على مفارقة الجماعة).
أحمد سالم