حلم جميل وأمنية رائعة

حلم جميل، وأمنية رائعة أن نرى أبناءنا يفكرون بطريقة موافقة للقيم العليا، ونشعر بأحاسيسهم ومشاعرهم تنبض دائمًا بأهيمة وضرورة تلك القيم وأثرها على أنفسهم على الآخرين، ونرى ذلك كله يترجم في أرض الواقع على هيئة سلوك راق وأفعال رائعة متوافقة مع القيم.

  • التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام -


حلم جميل، وأمنية رائعة أن نرى أبناءنا يفكرون بطريقة موافقة للقيم العليا، ونشعر بأحاسيسهم ومشاعرهم تنبض دائمًا بأهيمة وضرورة تلك القيم وأثرها على أنفسهم على الآخرين، ونرى ذلك كله يترجم في أرض الواقع على هيئة سلوك راق وأفعال رائعة متوافقة مع القيم.

والأجمل والأروع أن نغرس باستمرار الحافز الداخلي لديهم والذي يدفعهم دائمًا إلى تمثُّل القيم في حياتهم وسلوكهم.

ولكي يتم لنا ذلك إن شاء الله؛ لابد من بناء منظومة القيم داخل نفوس أبنائنا وأن نبذل الجهد والوقت في ذلك، وهذا البناء يتكون من عدة ركائز، نبدأ في هذا المقال بالركيزة الأولى:

الركيزة الأولى: التفكير القيمي

ونعني به كيف يفكر الإنسان الذي يتصرف قيميًّا؛ لكي تخرج تصرفاته ومواقفه موافقة للقيم العليا؟

"فالقيم ما هي إلا تقييم للأفكار والمواقف والسلوكيات بالصواب والخطأ؛ ولذلك فإننا سنحاول من خلال تعرضنا للمكوِّن المعرفي، أن نغوص داخل عقل الإنسان القيمي ونعرف كيف يفكر؟ لماذا يتصرف قيميًّا؟ وما هي الأفكار التي تدور في خلده، والتي تجعله يحافظ على نفس التصرف المناسب في كل المواقف، ويتحمل تبعات ذلك؟ ما هو الصواب والخطأ بالنسبة له؟ وهل يتغير ذلك تبعًا لتغير العمر والبيئة؟" (كيف تغرس القيم في طفلك، د. محمد صديق).

وسنتناول في هذا المقال عنصرًا من أهم عناصر التفكير القيمي، وهو المستويات القيمية:

المستويات القيمية:

وصل KOHLBERG -أحد أساتذة علم النفس التطوري- من خلال أبحاثه، إلى أن التفكير القيمي يمر بمراحل متدرجة مثل الهرم، يمثِّل قاعه أدنى مستويات التفكير القيمي، بينما تمثل قمته أقصى وأرقى مستويات التفكير القيمي.

"وكل الأطفال يولدون في المستوى الأول، والذي يُمثِّل قاع الهرم، ثم تتولى البيئة وطرق التربية بتحديد ما إذا كان الطفل سيكمل الهرم حتى يصل إلى قمته، أم يتوقف النمو القيمي عند مرحلة معينة.

إذًا؛ فكل طفل يولد عند نفس المرحلة -عند قاع الهرم- لكن لا ينتهي الجميع عند القمة، فقط من توفرت له تربية مناسبة وبيئة داعمة، سينتقل انسيابيًّا من مرحلة لأخرى، حتى يصل إلى قمة الهرم، وهي قمة درجة الرقي القيمي.

وقد وصل KOHLBERG إلى هذه التقسيمة من خلال ما يُسمّى "بالمعضلات القيمية"؛ وهي مجموعة من المواقف الافتراضية والتي تتطلب من الإنسان التفكير في قيم الصواب والخطأ، ومن أشهر معضلاته "HEINZE DILEMMA" أو "معضلة هاينز".

وتحكي المعضلة عن سيدة كانت تعيش في أوروبا، وهي تعاني من مرض السرطان، ويوجد دواء واحد من مادة الراديوم القادر على تعجيل شفائها، وهذا الدواء قد اكتشفه أحد مصنِّعي الدواء حديثًا في قريتها، ولكنه كان يبيعه بأكثر من ثمن تكلفته عشرة أضعاف.

فبذل هاينز -زوج هذه السيدة- كل جهوده لاقتراض المال من أصدقائه؛ لكنه لم يستطع إلا الإتيان بنصف ذلك المبلغ، فذهب الزوج إلى هذا الصيدلي وسأله أن يبيع له الدواء بمبلغ رخيص، أو أن يمهله في دفع باقي قيمة الدواء لأَجَل، إلا أن هذا الصيدلي لم يرضَ، فما كان من الزوج إلا أن تملكه الغضب، وقام بكسر دكان الصيدلي، وسرق الدواء من أجل زوجته.

وبعد حكاية تلك المعضلة، قام بطرح سؤال على العينة المختارة، وهي من مختلف المراحل السنية، وكان السؤال كالتالي:

هل كان صحيحًا ما فعله الزوج؟ ولماذا؟

ومن خلال الإجابات المختلفة؛ قسَّم KOHLBERG المستويات القيمية إلى ثلاثة مستويات رئيسية".

المستوى الأول: ما قبل التقليدي

ويظهر هذا المستوى في المرحلة السنية قبل دخول المدرسة حتى نهاية المرحلة الابتدائية، وهو أقل المستويات نضجًا، ويتشكل التفكير القيمي في هذه المرحلة وفق تبعات ما يقوم به الطفل من أفعال، فالسلوكيات التي تؤدي إلى مكافآت وحوافز وسعادة هي الصواب، والسلوكيات التي تؤدي إلى عقاب وحزن هي الخطأ.

ولذلك؛ فالأطفال في هذه المرحلة لن يستجيبوا إلا لمن يملك القدرة على إعطاء الحوافز، أو توقيع العقوبات، وهم بالأخص الآباء والأمهات في المنزل، والمعلِّمين في المدرسة، وبعض الرفقاء.

وينقسم هذا المستوى إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: الثواب والعقاب

وهنا ترتكز القيم لدى الطفل على ما ينفعه وما يضره، بغض النظر عن مشاعر الآخرين، ومن ثم فإن السلوكيات السيئة هي المعاقب عليها.

ومن النادر في هذه المرحلة أن يعتبر الطفل مشاعر أو نوايا الآخرين؛ وبالتالي فإن السلوكيات السيئة هي السلوكيات التي يعقبها عواقب مادية وخيمة، دون أن يكون للأمر علاقة بما تحدثه السلوكيات من مشاعر سلبية لدى الآخرين.

المرحلة الثانية: تبادل السلوكيات

يبدأ الأطفال في هذه المرحلة بإدراك مفهوم السلوك التبادلي، فيتبادل السلوك الحسن مع من يقدم له السلوك الحسن، ويتبادل السلوك السيئ مع من يقدم له سلوكًا سيئًا، فيظل المنظور شخصيًّا وماديًّا صرفًا، فالطفل شعاره: "إن ضربتني على ظهري؛ فسأضربك على ظهرك".

المستوى الثاني: التقليدي

ويظهر هذا المستوى في المرحلة الإعدادية والثانوية من المراحل الدراسية، وفيها يبدأ المتربي بتقبُّل الاتفاقات الاجتماعية المتعلقة بالصواب والخطأ، فيعتبر ما اتفق مجتمعه على كونه صوابًا فهو الصواب، وأن ما اتفقوا على أنه خطأ فهو الخطأ؛ ومن ثَم يبدأ في طاعة القواعد واتباع الأعراف الاجتماعية، حتى لو لم تكن هناك مكافأة للطاعة أو عقاب على المخالفة.

وتتصف هذه المرحلة في عقل المتربي بالجمود، حيث يعتبر القواعد غير قابلة للتغيير؛ وبالتالي فإن مناقشتها أو تناول تحقيقها للعدالة أمر نادر.

وينقسم هذا المستوى إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: ولد ممتاز، بنت ممتازة

يبدأ المتربي في هذه المرحلة بالتركيز على الأشخاص المؤثرين في حياته؛ (الآباء، الأمهات، المدرسين والمدرسات، زملائه المعروفين) لاستقاء الصواب والخطأ، ويحاول إرضاء هؤلاء الأشخاص المؤثرين في حياته، كما يحاول أن يكسب تقبُّلهم له، ويحب دائمًا أن يوصف بأوصاف من نوع: ولد ممتاز، بنت ممتازة.

ولذا؛ فالأبناء في هذه المرحلة يحاولون الحفاظ على العلاقات الشخصية عن طريق معاني المشاركة والثقة، والولاء والحفاظ على الوعود والتعهدات، وتبرز عند أغلبهم قاعدة ذهبية في التعامل الشخصي: (عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك).

المرحلة الثانية: القانون والنظام

يبدأ الأفراد في إدارك المجتمع كوحدة واحدة، وليس مجرد الاتفاقات الاجتماعية التي تسود في مجتمعهم القريب، وإنما المجتمع تحكمه مجموعة من القوانين والأنظمة، والتي تضمن أن يمضي المجتمع نحو أهدافه في سلاسة.

المستوى الثالث: ما بعد الاعتيادي

وتبدأ هذه المرحلة في الظهور من مرحلة الجامعة، وقد لا تظهر؛ لأنها تُعبِّر عن ارتقاء في الثقافة والتربية المجتمعية بصورة كبيرة، وهي في أحيان كثيرة مفتقدة في المجتمعات الشرقية التي تعاني إلى حدٍّ كبير من ضعف البرامج التربوية.

وقليل من أفراد المجتمع يصلون لهذا المستوى، حيث يبدأ الفرد في استخلاص مبادئه الشخصية، والتي يعرف بها الصواب والخطأ، وهذه المبادئ تتضمن معاني سامية؛ مثل: معاني الحرية والعدالة وحقوق الآخرين؛ ولذا فإن أصحاب هذا المستوى لا يتبعون من القواعد إلا ما يوافق هذه المبادئ التي استخلصوها، بل ربما يتعمدون عصيان القواعد والأنظمة التي تتعارض مع مبادئهم.

وينقسم هذا المستوى إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: العقد الاجتماعي

ففي هذه المرحلة يرى الأفراد قواعد الصواب والخطأ على أنها صورة من صور العقد بين الناس، اتفقوا فيها على كيفية التصرف في المواقف المختلفة، وهم يعتبرون هذه القواعد آليات مفيدة لدعم النظام الاجتماعي العام، والحفاظ على الحريات، وهو تفكير يفوق مجرد الالتزام بالقواعد لمجرد أنها قواعد ونظم.

فمثلًا؛ يحافظ أبناء المجتمعات الغربية على قيمة الحرية ويدافعون عنها من منطلق أنها قيمة، قد تم الاتفاق عليها بينهم، وليس لمجرد أن القوانين تدعمها، فهم يدركون أن هذه القيمة هامة لتماسك مجتمعهم ورفاهية الأفراد الذين يعيشون فيه.

ومن هنا؛ تبرز أهمية وجود مرجعية عليا لهذه القيم التي تُبث في المجتمع، والتي سيتلقاها الناس بالقبول بعد ذلك ويتعاملون من خلالها، ويعتبرونها عقدًا لا يصح الخروج عليه.

ففي الغرب لا توجد مرجعية لهذه القيم، اللهم إلا الحضارة الرومانية القديمة، وبعض تعاليم الكتاب المقدس والذي تم تحريفه؛ ومن ثَم تجد أن كثيرًا من القيم الموجودة في المجتمعات الغربية وإن كان أصلها صحيحًا إلا أنها شُوِّهت؛ بسبب أن البشر كانوا هم المرجعية الأساسية لها.

أما في المجتمع الإسلامي الرشيد؛ فالمرجعية العليا لهذه القيم هي القرآن والسُنة، وهما مصدران لا يأتيهما الباطل من بين يديهما ولا من خلفهما؛ لأنها من عند الخالق تبارك وتعالى، فهو الأدرى بأحوال عباده، ويعلم ما يصلحهم مما يفسدهم، ومن ثَم فإذا طُبِّقت القيم الإسلامية بصورة صحيحة؛ فمن المستحيل أن يتم تشويهها أو استغلالها من قِبل مخلوق كائنًا من كان.

المرحلة الثانية: المبادئ الأخلاقية العامة

وهذه هي أكثر المراحل رقيًّا، فالأمر تعدَّى مجرد العقد الاجتماعي، ولكنه يصل إلى تمسك أصحاب هذه المرحلة ببضعة مبادئ أخلاقية عامة، تتجاوز المكان والزمان، وتحترم كرامة الإنسان وحقوقه، وهم بذلك يلبُّون نداء الضمير داخلهم.

وهذه المرحلة لاشك أن دعاة الإسلام الحقيقيين هم سادتها وروادها، فالأمر عندهم تعدَّى مجرد بضعة مبادئ ينشرونها في مجتمعهم ويربُّون عليها الناشئة، وإنما القضية أصبحت رسالة حياة، فقضيتهم هو بث الخير للناس في جميع أنحاء الأرض، ونشر قيم العدل والإخاء والمساواة في أرجائها.

وفي الختام:

هذا التقسيم المرحلي يعطينا نظرة متفحصة لتدرج تطور الإنسان القيمي، ويكشف لنا عن خلفيات ومبررات فعل السلوكيات القيمية، كما يوضح آليات التفكير التي تدفع الإنسان لتقرير ما الصواب وما الخطأ، وهو لاشك شديد الصلة بموضوع القيم.

إن فهمنا لهذا التقسيم المرحلي يجعلنا نعرف كيف نعلِّم القيم لأطفالنا، فالقيم ستظل هي القيم لا تتغير بتغير المراحل، ولكن الذي يتغير هو مبررات ارتكاب الأفعال والسلوكيات القيمية.

فالخلاصة: أن أمرًا مهمًّا ينبغي الانتباه إليه في العملية التربوية؛ وهو أننا نستطيع غرس ما نشاء من صفات وسلوكيات في الأطفال بإذن الله، لكن ينبغي ملاحظة المستوى الذي وصل إليه الطفل حتى نغرس ما نريد من قيم إيجابية على خلفية المرحلة التي يعيشها، وذلك حتى نستطيع تفهم ما نريد.

فالطفل في مرحلة (ولد ممتاز وبنت ممتازة)، ينبغي أن تُغرس فيه القيم على هذه الخلفية، ثم إذا شئنا تصعيده في هرم التفكير القيمي فلا بأس إذًا أن ننفذ البرنامج التربوي المتعلق بذلك، لكن أن نحاول القفز على المراحل؛ فهذا لن يؤدي إلا للفشل (كيف تغرس القيم في طفلك، د.محمد صديق).


عمر السبع


 

المصدر: مفكرة الإسلام