(كل فتاة بأبيها معجبة)



جملة سمعتها وأنا صغيرة فأعجبتني؛ وبمرور الزمن كلما تذكرتها افتخرت بها، وبعد سنين النضج وبعد سماعي ومعايشتي لكثير من مشكلات البنات وجدت أن تلك الجملة لا تنطبق على كثير منهن، إذ كانت معاملة الأب لهن السبب الأول في كرههن للحياة ولأنفسهن ولفكرة الزواج من أساسها، إذ يخشين أن يقعن تحت براثن أزواج من نوعية آبائهن، فعاودني السؤال: هل حقا كل فتاة بأبيها معجبة؟ أم أن هناك مواصفات خاصة للأب لكي ينال ثقة وحب وإعجاب ابنته؟

  • التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية - قضايا المرأة المسلمة -

 

جملة سمعتها وأنا صغيرة فأعجبتني؛ وفهمتها شابة فأقنعتي، وبمرور الزمن كلما تذكرتها افتخرت بها، وبعد سنين النضج وبعد سماعي ومعايشتي لكثير من مشكلات البنات وجدت أن تلك الجملة لا تنطبق على كثير منهن، إذ كانت معاملة الأب لهن السبب الأول في كرههن للحياة ولأنفسهن ولفكرة الزواج من أساسها، إذ يخشين أن يقعن تحت براثن أزواج من نوعية آبائهن، فعاودني السؤال: هل حقا كل فتاة بأبيها معجبة؟ أم أن هناك مواصفات خاصة للأب لكي ينال ثقة وحب وإعجاب ابنته؟

إن أول من تقع عليه عين الفتاة من الرجال هو أبوها، الذي يمثل لها -بصورته التي يتخذها وبتعاملاته معها ومع أمها ومع كل الدوائر المحيطة به- النموذج الذي تبني عليه الفتاة تقييمها للرجال، وربما يسبب لها بقصد أو بدون قصد صدوداً نفسياً عن فكرة الزواج ذاتها نظراً لما علمته من طبائع أبيها وتعاملاته وأحواله.

إن مهمة الأب في بيته لا تقتصر على توفير الطعام والشراب والكساء لأبنائه، ولا على تأمينهم ضد غوائل الأحداث فحسب، بل إن مهمته الأولى لابنته هو تقديم الصورة المثلي للتعامل وخاصة مع البنت فيجعلها تتمنى -إن كتب الله لها الزواج- أن يكون في زوجها من المواصفات التي رأت أباها عليها.

فإنجاب البنات نعمة كبيرة لا يشعر بها الكثير ممن وُهبوها، ويشعر بها جداً من حرم منها، وقد ذكرهن الله عز وجل في كتابه العزيز، ووصفهن بأنهن هبة منه سبحانه، فقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49-50].

وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فضل من يحسن تربية بناته وجزاء صنيعه وصبره وحلمه معهم، بدخوله جنة الخلد، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وسرائهن وضرائهن أدخله الجنة بفضل رحمته إياهن»، قال رجل: وابنتان؟ قال: «وابنتان»، قال رجل: وواحدة؟ قال: «وواحدة».

وللأب دور هام وجوهري في تلوين وتحديد شخصية ابنته منذ نعومة أظفارها إلى أن تتزوج وتصير مسئولة عن بيت وأسرة وأولاد، ولعظيم دوره في حياة ابنته نستعرض عدداً من أنماط شخصيات الآباء وسلوكياتهم لنتبين أن هذه الجملة السابقة قد لا تنطبق على كثير من الآباء وإنها ليست جملة حتمية أن تكون كل فتاة بأبيها معجبة.

الأب الجاهلي:

على الرغم من وجود الأخلاق الإسلامية التي غيرت كثيراً من النظرة للمرأة في ضوء تعاليم الإسلام إلا أن هناك نوعية من الآباء تتعامل مع بناتها بخلق جاهلي وتعتبر إنجاب البنات عاراً عليهم يجب التخلص منه، ولولا حرمة القتل لفعلوها، وبالتالي يحاولون قتل بناتهم معنويا بمعاملتهن أسوأ معاملة ومحاولة التخلص منها عند وجود أول طارق على بابهم، وهذه النماذج من الأسر وهى للأسف لا تزال كثيرة في مجتمعاتنا العربية وخاصة في البيئات القبلية أو الريفية إذ أنهم يعيشون جاهلية برغبتهم المعلنة في إنجاب الذكور والابتهاج بهم وفي المقابل الحزن والكآبة منذ لحظة ميلاد البنات.

وقد ذم الله عز وجل في كتابه العزيز أهل الجاهلية على رغبتهم في الذكور دون الإناث، وعاب عليهم فرحتهم بالذكر وحزنهم بالأنثى، فقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ . يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58-59].

إن كراهة إنجاب الأنثى في حقيقته هو عدم رضا عن عطاء الله وهبته ومنته، وإظهار السخط على قدر الله ونعمه، فالذكور هبة من الله يهبها لمن يشاء، والإناث أيضاً هبة من الله يهبها لمن يشاء، ويهب لمن يشاء الاثنين معاً، ويحرِم من يشاء من الاثنين معاً لحكمة هو وحده الأعلم بها.

وهناك بعض أسباب لكراهيتهم إنجاب البنات وكلها أسباب واهية مصطنعة مرذولة لا أساس لها ولا قيمة ومنها:

- سبب مادي مثل الخوف من انتقال نصيبها من ميراث عائلتها إلى زوجها الذي قد يكون غريباً عن تلك العائلة فتفقد العائلة المال بإنجاب البنات.

- سبب قبلي أو عشائري لأن البنت لا تساهم في زيادة عدد أفراد عائلتها أو قبيلتها وبزواجها لا تُمثِّل امتداداً لوالدها وعائلتها لكونها تُنجِب أطفالاً يحملون اسم ولقب عائلة زوجها لا عائلة أبيها.

- سبب سلوكي نظراً لاعتبارها مجلبة للعار إن أخطأت؛ فالخوف الشديد على شرفها وعفتها يجعل الأب يضيق عليها الخناق ويحيطها بسياج من القيود والسيطرة والقسوة ظناً منه أنه يحميها من خطر الانحراف أو سوء السمعة.

- سبب نفسي مثل الرفض النفسي لفكرة التعب في تربيتها وتعليمها والإنفاق عليها ثم يذهب كل ذلك لرجل غريب بعد زواجها.

- سبب عكسي مثل حب البنت والخوف عليها، فهذا الحب الزائد والخوف الشديد يتحوّل لا إرادياً إلى حدة في التعامل وقسوة مفرطة قد تصل إلى البعض منهم إلى قتل البنت أو وأدها كما كانت الجاهلية تفعل.

الأب المهمل:

هناك نوعية من الآباء يهتمون اهتماماً خاصاً بتربية البنين ويحيطونهم بكثير عنايتهم ويهتمون بشئونهم ومتطلباتهم ويتابعونهم بشكلٍ دقيق، في حين لا يُعيرون البنات التفاتاً ظناً منهم أن تربية البنات مسئولية الأم وحدها وأنها مهمة يسيرة لا تحتاج منهم إلى تدخُّل ولا من الأم إلى مجهود، وأن التعامل مع البنت يحتاج فقط إلى كثير من الحزم، ويعتبرون أنهن أقل من أن يُعيّروا تربيتهن اهتماماً مثل تربية البنين.

فهذا الأب يقطع كل جسور الحوار أو المناقشة أو حتى التواجد المكاني بينه وبين بناته، فلا يستمع إليهم ولا يستمعون إليه إلا في لحظة إصداره لأوامره فقط، ولا يستطيع الأب أن يوجد شكلاً من أشكال التفاهم بينهما، وتعتمد البنت دائماً على الوساطة بينها وبين أبيها، فإن دار الزمان دورته، وفُقِدت تلك الواسطة، انقطعت الصلة بينهما نهائياً، ولن يستطيع الأب غالباً إيجادها مرة أخرى مهما حاول أو مهما حاولت الفتاة.

الأب القاسي الغليظ:

هناك نوع من الآباء يعتبر أن هناك طريقة واحدة لا ثاني لها ولا بديل في تربية بناته، ألا وهي القسوة الدائمة والعبوس المتكرِّر والتجهم الدائم والصراخ العالي في وجوههن، ويعتبرون أن هذه هي الطريقة المثلى التي تضمن لهم وجود واستمرار خوف دائم من بناتهم لهم، وتضمن لهم بالتالي -حسب ظنهم- عدم انحراف البنات أو ميلهن لارتكاب أي خطأ، ويعتبرون البنت الأكثر رعباً من أبيها وأسرتها هي الأكثر أدباً بين أخواتها، وأن التي تفتح فمها بأي كلمة -استيضاحاً أو اعتراضاً- هي أقلهن أدباً وحياءً وينبغي إخضاعها بكل وسائل القمع حتى تعود إلى سابق عهدها.

ومما يُدمي القلوب أن نسمع قصصاً من فتيات عشن قسوة الأب وفقدن الحنان والحب والاحتواء والدفء العائلي الذي يحصن الفتاة ويحميها من أية إغراءات خارجية، فنجد أباً يضرِب ابنته بعنف يصل إلى جرحها أو كسر أحد عظامها، ومنهم من يسبّ ابنته باستمرار سباً قبيحاً ويسمعها كلاماً يؤذي مشاعرها، وثالث يضرِب ابنته ضرباً مبرِّحاً دون ذنب إلى أن تفارق الحياة.

وتحكي إحدى الفتيات قصتها بحرقة وتقول: "أنا فتاة ابلغ من العمر أربعة وعشرين سنة ولي خمس أخوات فتيات أصغر مني، أنا أكبرهن، المشكلة إنني منذ نعومة أظافري وأنا أسمع أبي يقول: أتمنى لابنتي الموت لأني كنت أريد ولد ليحمل اسمي وأرفع رأسي به بين الناس، إنه يكرهنا كلنا، وينادينا بأسماء شباب، ويشتمنا ويضربنا ويهين أُمَّنا ويشتمها ويضربها أمامنا ويقول لها: سوف يأتي يوم من الأيام وأقتلك أنت وبناتك لأنكن من جعلتنني أمشي حاني الرأس بين الناس".

فهل هذه النماذج لآباء تعجب بهم بناتهم ويصبحون رمزاً لصورة الأب الذي تبحث عنه كل فتاة؟!

ولكن هناك آباء مسلمون أتقياء ظلوا نماذج مشرفة وعلامات مضيئة تدل على وعيٍ كاملٍ وعقلٍ راجح وثقة في الله عز وجل وشكر لنعمه الجليلة فأحبوا بناتهم وأكرموهن واتقوا الله فيهن وقاموا بدورهم التربوي كما يحب ربنا ويرضى.

تقول إحدى الفتيات عن والدها رحمه الله بعد موته بست سنوات: "أحتاج لأبي جداً بالرغم من أن عمري ثلاثون عاماً؛ إلا أنني أشعر كأنني طفلة صغيرة خرج أبوها وتركها وهي تبكى لأنها لا تشعر بالأمان إلا معه، أبكي فقدان أبي كثيراً، أحتاج إليه دائماً ويزداد احتياجي له في فترات الابتلاءات".

وأخرى تقول: "أفتقد أبي جداً كان بيننا تفاهم كبير بالرغم من أنه عوَّدنا على تحمُّل مسؤوليتنا منذ صغرنا، إلا أنني أحس معه بالأمان والتفاهم والاحتواء والطمأنينة".

أيها الآباء:

عندكم في بيوتكم ضعيف لا يقوى إلا بكم، ومن شيم الكرام أن يحموا الضعيف الغريب الذي يحتمي بهم لا أن يقسوا عليه ويظلموه، فكيف بالضعيف الذي هو من أصلابكم والذي لا يجد له حِمىً إلا في قربكم وفي حماكم فلا تكونوا قساة عليه فاتقوا الله في القوارير، وتذكروا وصية النبي صلى الله عليه وسلم فيهم الذي رواها أبو هريرة في مسند أحمد وابن ماجة: «اللهم إني أحرج حق الضعيفين، اليتيم والمرأة».

 

 

سلوى المغربي