ميلاد الآمال من الجراح والآلام

إذا كانت آلام المخاض -مهما اشتدت وطالت- تسفر عن مولود جديد، فإن الآمال تولد من الجراح والآلام، ولاسيما لمن سعى إليها بالعمل لا بالأماني والأحلام!

  • التصنيفات: أعمال القلوب -


شاء الله جل جلاله الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب؛ أن يجعل من العسر يسرًا، ومن الكرب فرجًا، ومن الهم فرحًا، ومن الشدة رخاء، ومن الضيق سعة، ومن الآلام آمالاً. فما وجد عُسر إلا وكان معه يسران؛ كما قال الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن: «لن يغلب عسر يسرين» (أخرجه الحاكم والبيهقي).

وعلى هذا ربّى الله عز وجل أنبياءه، وهم في أشد اللحظات ضيقاً وحرجاً أن لّا ينشغلوا بالجراح والآلام، عمّا ينتظرهم في الغد المشرق من البشريات والآمال.

تأمَّل نبي الله يوسف عليه السلام عندما ذهب به أخوته وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب، أوحي الله إليه وهو في غيابة الجب بالغد المشرق الذي سيتمكن فيه، وسيخبرهم بما فعلوه: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف:15].

وقد كان، وأنبأ أخوته بما فعلوا به وبأخيه، بعد أن مكّن الله له، وجعله على خزائن الأرض: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89].

وتأمَّل ما حدث لـ "أم موسى عليهما السلام" إذ أحيط بها وهي الأنثى وهي خائفة تترقّب، تحتضن ولدها، وفرعون يُذبِّح الأطفال من حولها، فبينما هي كذلك إذ أوحى الله إليها بأن تلقي ولدها وفلذة كبدها في اليمّ، ووعدها سبحانه برده إليها ومن ثمّ فعليها ألّا تخاف ولا تحزن: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].

وقد كان، ورده الله إليها بعد أن سخّر له فرعون وهو لا يشعر فكانت ترضع ولدها وتأخذ أجرها: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13].

وما حدث مع نبي الله يوسف ومع أمّ موسى عليهم السلام حدث مع النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم إذ اضطر للخروج والهجرة بعد ما ضاقت مكة به وبدعوته، وتآمر القوم على الخلاص منه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

وبينما النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه وهو مطارد إلى المدينة، أوحى الله إليه بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص من الآية:85].

وقد كان، وفتح الله عز وجل له مكة، وأتم نعمته عليه، ونصره نصراً عزيزا.

بهذه الروح وتلك التربية القرآنية؛ التي تربّي النبي صلى الله عليه وسلم عليها وتشبّع بها، ربّى عليها أصحابه، رباهم على أن يرتفعوا فوق الأحداث، وألّا ينشغلوا بها عما ينتظرهم في الغد من بشريات الخير ونسائم الرحمة.

عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت عليَّ صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريبٌ مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان عليَّ، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة"، قال: "ثم ضرب به ضربة أخري، فلمعت تحته برقة أخري"، قال: "ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخري، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: «أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟» قلت: نعم. قال:«أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق» (الحديث حسن بطرقه).

بشّر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفتوحات في وقت عصيب ألمّ بالناس، وصفه الله عز وجل بقوله تعالى: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10].

هذا الجو الخانق جعل أرباب النفاق يتندرون في ضيق وغيظ بقولهم: إن محمداً يعدنا كنوز كسري وقيصر، وأحدنا لا يأمن على خلائه.

بيد أن ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم قد تحقق وفتح الله لرسوله وصحابته بلاد كسري بفارس، وبلاد قيصر بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة.

إذا كانت آلام المخاض -مهما اشتدت وطالت- تسفر عن مولود جديد، فإن الآمال تولد من الجراح والآلام، ولاسيما لمن سعى إليها بالعمل لا بالأماني والأحلام!



إبراهيم التركاوي