بين الديمقراطية والشورى

محمد العبدة

سوف لا نطيل الحديث هنا عن مساوئ الاستبداد وأثره على الفرد والمجتمع، فقد سحقت الحكومات الاستبدادية شخصية الفرد وساهمت في تشويه أخلاقه، وأفسدت الناس فكرياً، وأفسدت الحياة الاقتصادية، لا نطيل الحديث لوضوح هذا الأمر عند كثير من الناس، ولكن المعترك السياسي هو حول الديمقراطية والشورى.

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -


ما هي الديمقراطية؟

إذا أردنا تبسيط المصطلح إلى أقصى ما يمكن فإن الديمقراطية هي سلطة الشعب أو سلطة الإنسان، وهل هي محض آلية للحكم، وهل هي قضية إجرائية عارية عن كل منظور اجتماعي أو فكري؟ أم هي مشروع مجتمعي يرمي إلى تأمين الارتقاء الشخصي للمواطن، أي أنها (نمط حياة) وهل تستطيع أن تصل إلى درجة (المواطن السياسي) الذي يرتفع إلى مستوى المسؤولية إزاء السياسة العامة؟ وهل من واجب الحكومات الديمقراطية نشر المعلومات لاستثارة القدرة على استقلال الشخصية، وليتمكن المواطن من حسن الاختيار؟


سنرى من خلال عرض مزايا الديمقراطية وعيوبها إن كانت قادرة على تحقيق كل هذه الأهداف.

لا شك أن الديمقراطية كاختراع بشري هي -كما يجب أن تكون- نقيضاً للاستبداد، فالناس يختارون من يحكمهم ولهم الحق في عزله إن حاد عن المبادئ المرسومة والمتفق عليها، وهي (الديمقراطية) وإن بدأت بسيطة وناقصة في (أثينا) حيث كان الاختيار للرجال فقط، ولا يحق للنساء ولا للعبيد ولا للبرابرة (غير اليونانيين) الانتخاب، وكان لكل مدينة نصيب، ولكل قبيل نصيب، والخطباء لهم الدور الأكبر في تكوين الغالبية (كما في أمريكا اليوم حيث الإعلام له دور كبير في صنع الرئيس) ولكن هذه الديمقراطية تطورت مع الرومان (مجلس الشيوخ) ثم تطورت في أوروبا في العصر الحديث، حيث أنشأت المدن الايطالية مجالس للحكم بمشاركة الجمهور، ثم استقرت وتطورت في بريطانيا ثم باقي دول غرب أوروبا وأمريكا.

هذه الديمقراطية يقول عنها رئيس وزراء بريطانيا (تشرشل) هي أحسن الأسوأ  أي هذا الذي وصلنا إليه ولا بديل عندنا غيره.

وكان من نتائجها أشياء إيجابية مثل تداول السلطة، ومبدأ فصل السلطات، والقضاء المستقل، والمؤسسات المدنية، وتشجيع المبادرة الفردية، وكان من نتائجها أن البرلمان يمارس سلطة رقابية على الحكومة وهناك رقيب على البرلمان وهو القضاء(دستورية القوانين).

الديمقراطية هنا هي ثقافة سياسية، الفرد فيها ينتمي إلى مجتمع معين، يُسمع صوته ولو بشكل غير مباشر، وهو معني بالقرارات التي تؤثر على حياته، وهي ليست مثالية لأنها تعترف بأخطائها وتجدد نفسها بين الفينة والأخرى، ومن مبدأ تداول السلطة يعتقد البريطانيون أنه من الضروري من وقت لآخر تغيير الحكومة، ليس الحكومة الفاشلة فقط، وإنما الناجحة أيضاً، لأن هذه الأخيرة إما أن تصبح غير فعالة مع الزمن، أو تصبح مختالة مغرورة، فالتداول يجدد النخب ويبعث حياة جديدة في ورشة الدولة ومؤسساتها، لأن طول احتكار السلطة يقسي جلدها، ويعدم الحساسية لقبول النقد.

رغم هذه المزايا للديمقراطية من حيث شكل الحكم والبعد عن الاستبداد ولكن هل أصبحت شيئاً مقدساً أو مطلوباً لا بديل عنها وهل نأخذها كمسلمات نقتدي بها دون أن نحقق في درجة صحتها واتفاقها مع جوهر شخصيتنا، أليس من الأفضل أن تتعرض لمراجعة نقدية خالصة، وإذا كان الغربيون قد صلح معاشهم عليها فترة من الزمن، واحترموا قانونها لأنه لا بديل لها عندهم، وإذا كان مثل (لي كوان يو) رئيس سنغافورة الذي يلقب بالكاهن الأكبر للقيم الآسيوية يرى أنه يجب تطوير صيغة غير الصيغة الغربية للديمقراطية، فما بالنا نحن المسلمين وقد ظهر في الديمقراطية من العيوب الشيء الكثير، ما يدعونا لأن نفكر في منهج آخر ينسجم مع مبادئنا وقيمنا.

إن من عيوب الديمقراطية اعتمادها على التشابه التام بين أفراد الشعب، فهي تقدم الكم على النوع، أي تقدم صندوق الانتخابات على صندوق (الرأس) وهذه الطريقة تقضي على كل تجديد، وتسد الطريق أمام كل موهبة وعبقرية كما يقول الفيلسوف الاسباني (سانتيانا) في الاعتماد على الكم لا تنتفع الأمة بأعظم رجالها وتتركهم لا يسمع بهم أحد، لأنهم قد لا يخوضون الانتخابات، أو يخوضونها ولكن هناك من هو أقدر لساناً منهم أو أقدر مالاً ويكون النجاح حليفه، وقد ينتخب الشعب أكثر الناس بلاهة وبلادة، وذلك لمقدرة هؤلاء على تملق الناس ومداهنتهم، ولذلك يجب أن يحصر حق الترشح في أصحاب الخبرة والعلم والمقدرة، وبذلك نغلق باب المناصب الكبيرة في الدولة أمام الدجالين والمنافقين، وهذا ما يميل إليه (سانتيانا) حين يدعو إلى حكومة من أصحاب المواهب والشرف من الرجال، إنها أرستقراطية ولكن المجال فيها مفتوح للجميع.

لا شك أن العدد له أهمية عندما يجتمع أصحاب الرأي والاختصاص، فلو اجتمع نفر من الأطباء وتشاوروا في قضية طبية، فلا شك أن رأي الأغلبية له وجاهة واهتمام، وكذلك قادة عسكريون في أمر من أمور الحرب، فالأغلبية ذات اعتبار في الأمة التي تعرف حقوقها وواجباتها وتحسن اختيار من يمثلها لإدارة شؤونها.


إن وسائل الإعلام اليوم تستطيع التحكم في (الرأي العام) وهذه الوسائل قد تشجع الأقليات الثقافية والقوميات الصغيرة، وعندئذ يسود الفكر الرخو الذي يفتت الأمة ويشتت أمرها، وبعض الناس يتميزون بسرعة التصديق، ففي معركة انتخابية قد يتهم إنسان ما خصمه بأسوأ التهم، ويفتري عليه وسرعان ما يصدق الناس هذه التهم، وقد يكون المرشح كثير التواضع أيام الانتخابات ثم لا يلبث أن يتحول إلى متمرد على الضعفاء، وقد يطلق الوعود جِزافاً لإغراء ناخبيه، فإذا اختير نسي وعوده وتنصل منها.

في الديمقراطية البرلمانية المعاصرة يرشح أصحاب المصالح نواباً، ويمولون حملتهم الانتخابية، ليسخرونهم بعدئذ لمصالحهم، فالمال يلعب دوراً مهماً، وقد حذر من تأثيره الذي يلقبونه بأبي الحرية (جون ستيورات مل) واعتبره من عيوب الديمقراطية وكذلك الجهل، حيث لا يحسن الناس الاختيار.

إن المساواة بين أصوات الناخبين هو نوع من الظلم، لأن مساواة من يستحق بمن لا يستحق هو الظلم بعينه، وإن كان الأصل أن الناس سواء في اعتبار البشرية والحقوق العامة، مثل حق الحياة وحق العمل، والعدالة في القضاء، ولكن هذه المساواة لا تعني المساواة في المواهب، "والمسلمون سواء في الصلوحية للمزايا والجزاء على ما يصدر من نفع، ولكن هناك استثناءات لهذه المساواة، مثل تفاوت العقول لإدراك المدركات ومنع مساواة الجاهل للعالم في التصدر للنظر في مصالح الأمة، ومثل الموانع الجبلّية، مثل منع مساواة المرأة للرجل فيما لا[1] تستطيع عليه بموجب الخلقة، مثل إمارة الجيوش والخلافة... ".

إن كثيراً من الناس لا يتجاوزون العاشرة من الناحية النفسية إذن هو طغيان المساواة، يقول عالم الإجتماع والنفس (أريك فروم): "إذا أردنا أن يكون للإنسان رأي حقيقي وعن اقتناع، لا بد من توفر شرطين: معلومات كافية، ومعرفة أن لرأيه قيمة وأثراً، وإذا لم يتوفر هذان الشرطان فلن يختلف التصويت[2] كثيراً عن التصفيق في مباراة رياضية".

لقد تراجعت نسبة المقترعين في أوروبا، فهي لا تتعدى في أحسن الأحوال نسبة 50 % وذلك لعدم الثقة بوعود المرشحين، وتراجعت الديمقراطية والحرية لدى الحكومات الغربية، وشرعت تحذو حذو الحكومات المستبدة في استخدام وسائل الدعاية والإعلام وطرق التربية في بث الآراء التي تريد، وفي أحداث 11/9 أخضع المسلمون في أمريكا لكل أشكال الضغط والتمييز العنصري، وكل هذا بموافقة الديمقراطية، ويعبر الصحافي البريطاني (سامبسون) في كتابه (تشريح بريطانيا في الصميم) عن قلقه على الديمقراطية بسبب ازدياد المركزية في اتخاذ القرارات وانحسار نفوذ المواطن بسبب ضعف نقابات العمال.

وبسبب الحرص على أصوات الناخبين تقول التقارير أن السياسيين في أمريكا أفسدوا التعليم والمدرسة، لأنهم يراعون أولياء التلاميذ ليكسبوا أصواتهم، وهذا مما مكن التلاميذ من سلطة لم يطالبوا بها، وأصبح لهم سيطرة على المدرسة.

يقول الكاتب (دنيس ماكشين) في مقال له بعنوان: (نهاية سويسرا): "إن أي مبادرة من البرلمان أو من المجلس الاتحادي يمكن صدها بسهولة عبر التلويح بإجراء استفتاء أو من جانب الكانتونات، وتتيح هذه المنظومة للشعب أن يكون له رأي في مجريات العمل في الحكومة، ولكنها في الوقت نفسه تمنع القيادة[3] الوطنية للبلاد من اتخاذ قرارات حاسمة".

بعض المفكرين يتهمون الديمقراطية بأنها تدور في فلك النسبية أي أنها تعتمد الأكثرية، ولو كانت هذه[4] الأكثرية لا تتقيد بالقيم الأخلاقية أو القيم الدينية، قد يكون هذا الكلام ليس على إطلاقه قبل فترة من الزمن، فقد كان هناك شيء فوق القوانين والبرلمان، هي مبادىء عليا مثل حقوق الإنسان أو القانون الطبيعي كما يسمونه أو بعض القضايا التي تفرضها الكنيسة، ولكن الواقع اليوم أن بعض البرلمانات الغربية أقرت أموراً تتنافى مع الفطرة الإنسانية ومع الأخلاق، يقول أحد الباحثين في موضوع الديمقراطية: "إذا كانت الديمقراطية تستخدم الوسائل التي لا تتفق مع[5] العدالة والحرية، فإن ذلك سيكون عملاً لإفناء الديمقراطية".

إن الذين يطرحون الديمقراطية وكأنها الحل السحري الذي يشفي كل أدواء العالم العربي أو الإسلامي، وبلا مجهود ولا كلفة، هؤلاء لا يعلمون أن الديمقراطية حتى لو كانت (ترياقاً) بنظرهم لا يمكن أن تطرح بعنوانها الفكري السياسي المطلق، وإذا كانت تحمل ايجابيات سواء في بعض الإجراءات أو في التجدد في تطبيقاتها فإن المسلم سوف يستفيد من هذا، وليس عنده مركب نقص بحيث لا ينتفع مما عند الآخرين.

وهؤلاء لا يعلمون -لو سلمنا لهم فرضيتهم- أن هناك اختلافاً بين ديمقراطية دامت قروناً وبين ديمقراطية تؤسس في زمان ومكان معينين، أي أنها ليست نباتاً في أصص من الفخار يمكن نقله لأي مكان، أو ربما يأخذها البعض للزينة وخداع الجماهير.

هذا لا يعني العودة للاستبداد، أو أن يكون الخيار كما قال أحدهم: المستبد العادل، ليس هذا مما يصلح عليه أمر الإنسان، وأمور السياسة هي من الأهمية بحيث لا يصلح أن يشارك فيها من لا يعلم ولا يدرك ما يصلح للبشر وما لا يصلح. نريد حلاً آخر غير الديمقراطية الغربية، بمفاهيمها وشموليتها حين يكون (التشريع) للبشر وليس لخالق البشر.

الشورى:

عندما نتحدث عن الشورى فإننا نتحدث عن مبدأ من مبادئ الإسلام، تجري فيه المناقشات والحوار وتبادل الرأي تحت مظلة القيم الأساسية التي تضمنتها الشريعة، تتحرى فيه الآراء القرب من العدل والحق الذي تفرضه الشريعة، هي الشورى التي تتعمق داخل المجتمع الإسلامي، وليست مجلساً سياسياً فقط، وإن كان المجلس هو قمتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤولٌ عن رعيته» (متفقٌ عليه).

الشورى بمعناها الواسع تشمل جميع صور التشاور سواء كان خاصاً يستفاد من خبير في شأن ما أو في قرار سياسي أو فتوى فقهية.

وهنا لا بد أن نفرق بين الشورى والتشاور، فالمقصود بالشورى هو التشاور الذي يؤدي إلى قرار صادر من مجلس أو مجموعة في الشؤون العامة، فهو بهذا الصدد إلزامي ويأخذ برأي الأغلبية إذا لم يتوفر الإجماع.

نتحدث عن الشورى (الإسلامية) وأكبر ضمان لها هو واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كُلِّف فيه المسلم حسب استطاعته وبشروط وآداب معروفة، فهذا الواجب هو مصدر صريح للشورى، وهو يطهر المجتمع المسلم من آفتي الاستبداد من جهة واستعباد الآخرين من جهة أخرى.

فالقضية ليست في شكليات (الدستور) أو (المواد الدستورية) أو طريقة الاختيار، القضية هي في نفسية الفرد وثقافته وعقيدته، فعندما يفقد الفرد شعوره بقيمته كإنسان ينتهي كل شيء.

الإسلام وضع حاجزين لمنع تدهور الإنسان: حاجز يمنعه أن يُستعبد ويُذلّ، وحاجز كي لا يستعبد الآخرين أي لا يكون مستبداً، ففي الحاجز الأول قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:96].

والحاجز الثاني الذي يمنع المسلم من الاستبداد واستعباد الآخرين قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

قد تمنح الديمقراطية العالمانية الحقوق للإنسان والضمانات الاجتماعية ولكنها تتركه عُرضةً لأمرين: إما أن يكون ضحية مؤامرات لمنافع خاصة، أو لا مانع عنده من ممارسة الديكتاتورية[6] على الآخرين أي استعباد الشعوب الأخرى. أمرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بالشورى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران من الآية:159]، وظاهر الأمر أنه للوجوب بل يَعتبر الشيخ ابن عاشور أن الشورى مما جبل عليه الإنسان يقول: "والشورى مما جبل الله عليه الإنسان في فطرته السليمة، أي فطره على محبة[7] الصلاح".

قد يظن البعض أن قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آلِ عمران من الآية:159]، لا تعني إلزامية الشورى بل أفضلية الاستشارة، ولكن معنى الآية كما قال الرازي: "إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه، بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته، وقد أمر الله تعالى أولي الأبصار بالإعتبار، ومدح المستنبطين {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء من الآية:83]؛ فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه وحي، والإجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة، وقد شاورهم صلى الله عليه وسلم[8] يوم بدر في الأسارى، وكان من أمور الدين...".

يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير الآية: "الظاهر أن معناه فإذا عزمت على الأمر الذي تشاورهم فيه فافعله وتوكل، ففي الآية إيجاز بحذف متعلق عزمت، وحذف جواب {إِذَا}[9] استغناء عنهما بما دل عليهما من قوله {
فِي الْأَمْرِ}.

والذي يتتبع مصادر الشريعة ومواردها يدرك أن نصوصها تأبى الاسستبداد، وأن الأمر بالشورى للوجوب، ولو فرضنا أن رأي الأغلبية أخطأ في أمر من الأمور، فإن الضرر الناتج عن هذا الخطأ أخف من الضرر الناتج عن ترك مبدأ الشورى وما يتبعه من استبداد  الحكام.

أما الحديث عن كيفية إجراء الشورى وكل ما يتعلق بها من ناحية الاختيار والعدد والصلاحيات، كل هذا متروك للاجتهاد والوصول إلى أفضل الطرق المناسبة، فإن معظم مسائل الحكم (عريّة عن مسالك القطع خلية من مدارك اليقين) كما يقول الإمام الجويني، وقد شاور الرسول صلى الله عليه وسلم علياً وأسامة بن زيد رضي الله عنهما في مسألة خاصة وهي حادثة الإفك، وشاور زعماء المدينة سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في أمر يخص أهل المدينة في أن يعطي الأعراب ثلث ثمار المدينة على أن ينسحبوا من تحالف الأحزاب في حصارهم للمدينة (غزوة الخندق) وشاور عموم الصحابة قبل معركة بدر وحصل الإجماع على القتال، وهذا ما كان يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ برأي الأغلبية في الخروج لقتال الكفار في أحد وفي أعقاب غزوة هوازن طلب من عموم الجيش أن يبعثوا ممثلين لهم (عرفاء) فقد جاء في السيرة أن هوازن جاءوا بعد أن أسلموا يطلبون رد السبي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنا لا ندري من أذن فيه ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» (رواه البخاري).

والذين سيأذنون برد السبي هم أفراد الجيش الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع الناس، وكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا، فرد السبي إلى هوازن، فهذا يدل على أن اختيار الناس ممثلين عنهم للدفاع عن قضاياهم ومطالبهم هي طريقة صحيحة، ولم تكن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة هي على جهة تطييب النفوس فقط كما يقول الجصاص، إذ أنه إذا استفرغوا جهدهم في استنباط الصوب عما سئلوا عنه ولم يكن معمولاً به، لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم، وهنا يجب أن نبين الفرق بين الشورى والديمقراطية، فهناك شروط يجب أن تتوفر فيمن يكون من أهل الشورى، روى الدارمي عن ميمون بن مهران قال: "كان أبو بكر رضي الله عنه إذا أعياه أمر دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجنمع رأيهم على أمر قضى به، وأن[10] عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك".

ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "اجمعوا العالمين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد"، وجاء في فتح الباري، قال البخاري: "كان القراء -العلماء-[11] أصحاب مشورة عمر، كهولاً كانوا أو شباناً رضي الله عنهم".

إذن هناك صنف من الناس هم أساس الشورى، وهم العلماء وأصحاب الرأي والإختصاص، وكما يقول الإمام الجويني "هم الأفاضل المستقلون الذين حنكتهم التجارب، وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية، هؤلاء البصيرون بمن يصلح[12] للسياسات"،  فهذه الصفات وغيرها التي يجب أن تتوفر في أهل الشورى توضح أن المعمول عليه هو تعاون الأمة بجميع طبقاتها أي أن أهل الشورى يمثلون الأمة كلها، ولا يمثلون طبقة م عينة، ومن الفروق المهمة بين الشورى والديمقراطية:

1- الشورى في الإسلام خاضعة للشريعة التي رسمت الحدود التي لا يجوز للشورى أن يتجاوزها فإذا صدر قرار من الأغلبية مخالفاً لمبادئ الشريعة فإنه سيكون باطلاً ديانة، والديمقراطية لا تعرف الحدود الثابتة، وحتى الحدود الثابتة التي كانت بالأمس خرقتها البرلمانات الأوروبية أخيراً.

2- الفقه الإسلامي أوجد فصلاً كاملاً بين الهيئة العلمية التي تجتهد في كل عصر وتستنبط الحكم، وبين السلطة السياسية التي تتولى التنفيذ، والواقع التاريخي للأمة الإسلامية يثبت أن الحكام لا يتدخلون في شؤون اجتهاد العلماء وشوراهم أو لا يستطيعون التدخل، لأن أمر الفقه والاجتهاد ليس تابعاً لهم، بينما نرى الحكام المستبدين اليوم يصدرون القوانين والمراسيم ويطلبون من برلماناتهم التصديق عليها، فالدول الإسلامية وإن لم تمارس الشورى السياسية، ولكنها لم تتجرأ على التشريع خارج نطاق الشريعة الإسلامية.

3- في الشورى لا بد من شروط معينة في المرشح تؤهله لأن يمارس الرقابة على السلطة التنفيذية، وأن يكون ممثلاً للأمة في جميع مناحي حياتها، فلا يطمع للوصول إلى هذه المناصب أحد بسبب ماله أو ذلاقة لسانه أو ممن يلتف حوله أناس لعصبية جاهلية.

إن هذه الفروق وغيرها لا تعني الوصول إلى إجابات نهائية في كل قضية مطروحة، ولكنه الاجتهاد الدائم للتحسين، والمهم هو تطوير النظم دون أن تفقد هويتنا وتراثنا.

ومن باب التدرج يمكن أن يكون هناك مجلسان: مجلس سياسي ومهمته سياسية اشرافية على الحكومة، وقد يكون بعضه منتخب مباشرة من قبل مجموع الأمة، وبالشروط التي ذكرناها سابقاً وبعضه من رؤساء النقابات وأهل الاختصاص في السياسة والإعلام والفكر... ومجلس علمي فقهي اجتهادي يتكون من علماء الشريعة والبارزين في العلوم المساعدة كالاقتصاد والاجتماع والطب لحاجة العلماء لأمثالهم. وهذا المجلس يصدر القوانين المناسبة تحت مظلة الشريعة. وهذا المجلس قد يكون بترشيح من المجلس الأول (السياسي) أو من خلال لجنة حيادية تختار من يصلح لهذا الأمر بعد الاطلاع على رأي الجمهور. ومن بعض مهام المجلس الأول اتخاذ الإجراءات المناسبة لكيفية استلام السلطة وطريقة ممارسة الحكومة لخدمة المجتمع والإجراءات الكفيلة بمراقبة عمل الوزراء.

وكذلك تحديد مدة ولاية الرئاسة الأولى، وما هي الأسباب التي تدعو إلى انتهائها قبل تلك المدة. وتحديد قرارات لا يجوز للحاكم[13] اتخاذها إلا بموافقة مجلس الشورى مثل إعلان القتال وعقد المعاهدات.

وكل هذا من باب الاقتراحات والاجتهادات ورؤية الأصلح في كل زمان ومكان لأن من الإشكالات التي ترد على أذهان بعض المسلمين ظنهم أن شكل الحكم قد حدد وليس هناك صورة أخرى، وهذا من الجمود الذي نهى عنه القرآن الكريم، وإن استدعاء صورة معينة وتطبيقها على الواقع دون معرفة خصوصية هذا الواقع الآن وتعقيداته، هو أمر لا يفيدنا اليوم.

"فالشرع الإسلامي لم يدخل على الناس في معترك الحياة بتصورات مثالية، فلم يتمثل في مراحله الأولى جميع الأطوار السياسية التي ستتعاقب على أمة الإسلام، وكانت هذه مزية له على كل النظم السياسية في القديم والحديث، وكأنما آثر الإسلام بتركه صورة الحكم بسيطة لا تعقيد فيها أن يتنافس المسلمون في بناء مجتمعهم تبعاً لما يصيبون من أسباب الحضارة والنماء، فالمهم هو المضمون، أي تطبيق النظم الإسلامية والعدل الإسلامي، وهذا الذي تحدث عنه ابن تيمية حين طفق يدعو للإصلاح[14] الداخلي في الدولة المملوكية لمواجهة الانقسام والتصدع الداخلي".

وقد كان الإمام الطرطوشي يدرك هذه الصعوبات، وقد عاش فترة من حياته في الإسكندرية التي كانت تحت حكم الدولة العبيدية الباطنية، يقول رحمه الله: "فلا يقوم السلطان (الحكم) لأهل الإيمان ولا لأهل الكفر إلا بإقامة العدل النبوي أو[15] ما يشبه العدل النبوي من الترتيب الاصطلاحي".

ويعني بالترتيب الاصطلاحي، ما اتفق عليه البشر من السياسة العادلة.

الشورى المطلوبة تحتاج إلى ثقافة معينة عند الناس، إلى إعداد وتربية حتى يكون حسن الاختيار.

فقد يظن بعض الناس أن المجتمع الذي عاش فترة معينة ثم جاءت حركة إصلاحية أو ثورة على النظام القديم، هذا المجتمع سيتحول فيه الإنسان بشكل مفاجئ إلى إنسان مختلف تماماً عن الوضع السابق، وهذا خطأ واضح فالتحولات لا بد لها من زمن تجري فيه التربية والإعداد، ولا بد من تغطية الهوة بين ما هو ضروري ومطلوب وغاية، وبين ما هو ممكن وتحت الاستطاعة.

والناس حين يرون التخطيط على مقاييس كبيرة، مع اقتراح الخطوات العملية المباشرة، فإنهم يتشجعون، ويتغلبون على ما في نفوسهم من التحفظات أو نقص العلم.

ــــــــــــــــــــــ

المراجع:

1- (انظر مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور).
2- (المظهر والجوهر: [197]).
3- (مجلة نيوزويك: 16/2/2010م).
4- (عبد الوهاب المسيري؛ الفلسفة المادية وتفكيك الانسان: [239]).
5- (جان ماريتان: الفرد والدولة: [79]).
6- (انظر ما كتبه مالك بن نبي في: ميلاد مجتمع وتأمُّلات).
7- (اسماعيل الحسني: مقاصد الشريعة عند ابن عاشور: [279]).
8- (التفسير الكبير:  [5/69]).
9- (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: [73]).
10- (مجلة المنار؛ م: [5/173]).
11- (فتح الباري: [13/339]).
12- (الغياثي: [64]).
13- (يشارك مجلس الشيوخ في أمريكا الرئيس في تعيين الوزراء وقضاة المحكمة العليا والسفراء، وهو مختص دون مجلس النواب، بموضوع المعاهدات مع الدول الأجنبية).
14- (صبحي الصالح: الإسلام والحضارة: [12).
15- (سراج الملوك: 174 ت  البياتي).