أهمية التوبة

علي بن عبد الرحمن الحذيفي

والتوبةُ واجبَة على كلِّ أحدٍ مِن المسلمين، فالواقعُ فِي كبيرة تجِب عليه التّوبة لئلاّ يبغتَه الموتُ وهو على معصية، فيندم حين لا ينفع الندم، والواقعُ في صغيرةٍ تجِب عليه التّوبة لأنّ الإصرارَ على الصغيرة يكون من كبائر الذّنوب...

  • التصنيفات: التوبة -


الخطبة الأولى:

أمّا بعد،

فاتّقوا الله، معشر المسلمين، حقَّ التقوى، فتقوى الله الجليل عدّة لكلّ شدّة، وحصنٌ أمين لمَن دخله، وجُنّة من عذاب الله.

واعلموا، عبادَ الله، أنَّ ربَّكم خلق بني آدم معرَّضًا للخطيئات، ومعرَّضًا للتقصير في الواجبات، فضاعف له الحسناتِ، ولم يضاعِف عليه السيِّئات، قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله كتب الحسناتِ والسيّئات، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبَها الله عندَه حسنةً كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عندَه عشرَ حسنات، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعافٍ كثيرة، فإن همَّ بسيّئة فلم يعملْها كتبَها الله حسَنة كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عنده سيِّئة واحدة» (رواه البخاري، صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: من همّ بحسنة أو بسيئة: [6491] بنحوه، وأخرجه أيضاً مسلم في الإيمان، باب: إذا همّ العبد بحسنة: [131]).

فشرَع الله لكسبِ الحَسَنات طرُقًا للخيرَات وفرائضَ مكفِّراتٍ للسيِّئات رافعةً للدّرجات، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلواتُ الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفِّراتٌ لما بينهنّ إذا اجتُنِب الكبائر» (رواه مسلم، صحيح مسلم: كتاب الطهارة، باب: الصلوات الخمس: [233])، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعون خَصلةً أعلاها مَنيحَة العَنز، ما مِن عاملٍ يعمَل بخصلةٍ منها رَجاءَ ثوابِها وتَصديقَ مَوعودِها إلاّ أدخله الله بها الجنّة» (رواه البخاري، صحيح البخاري: كتاب الجنة وفضلها، باب: فضل المنيحة: [2631]).


وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضعٌ وسبعون -أو بضعٌ وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطّريق، والحياءُ شعبَة من الإيمان» (رواه البخاري ومسلم، أخرجه البخاري في الإيمان، باب: أمور الإيمان: [9]، ومسلم في الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان: [35] واللفظ له).

وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت: "يا رسولَ الله، أيُّ العمل أفضَل؟" قال: «الإيمانُ بالله والجِهاد في سبيلِه»، قلتُ: "أيُّ الرِّقاب أفضل؟" قال: «أنفسُها عندَ أهلها وأكثرُها ثمَنًا»، قلتُ: "فإن لم أفعل؟!" قال: «تُعين صانعًا أو تصنَع لأخرَق»، قلت: "يا رسولَ الله، أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعضِ العمَل؟!" قال: «تكفُّ شرَّك عن النّاس، فإنّها صدقةٌ مِنك على نفسِك» (رواه البخاري ومسلم، أخرجه البخاري في العتق، باب: أي الرقاب أفضل؟ [2518]، ومسلم في الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال: [84] واللفظ له).

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق» (رواه مسلم أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء: [2626]) وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلةَ فيحمَده عليها، أو يشربَ الشربة فيحمَده عليها» (رواه مسلم، أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب: [2734]).

وكما شرع اللهُ كثرةَ أبوابِ الخير وأسباب الحسنات سدَّ أبوابَ الشرِّ والمحرَّمات، وحرَّم وسائلَ المَعاصي والسيِّئات، ليثقلَ ميزانُ البرِّ والخير، ويخِفَّ ميزانُ الإثمِ والشرِّ، فيكون العبد من الفائزين المفلحين، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما نهيتُكم عنه فاجتنِبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم» (رواه البخاري ومسلم، أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله: [7288]، ومسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر: [1337]).

وجِماع الخير ومِلاك الأمر وسببُ السعادة التوبةُ إلى الله تعالى، قال عز وجل: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].

ومعنى التوبةِ: هي الرجوعُ إلى الله والإنابةُ إليه مِن فعلِ المحرّم والإثم، أو مِن ترك واجبٍ أو تقصير فيه، بصدقِ قلبٍ ونَدمٍ على ما كان.


والتوبة النّصوحُ يحفَظ الله بها الأعمالَ الصّالحة التي فعَلها العبد، ويكفِّر الله تبارك وتعالى بها المعاصيَ التي وقعت، ويدفعُ الله بها العقوباتِ النّازلةَ والآتيَة، قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ في الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].

روى ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية عن قتادة قال: "لم ينفَع قرية كفرت ثمّ آمنت حينَ حضرها العذاب فتُرِكت إلاّ قوم يونس، لمّا فقدوا نبيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم قذَف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبِسوا المسوح، وألهَوا بين كلّ بهيمة وولدها -أي: فرّقوا بينهما-، ثمّ عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلمّا عرَف الله الصّدقَ من قلوبِهم والتّوبة والنّدامةَ على ما مضى منهم كشفَ الله عنهم العذابَ بَعد أن تدلَّى عليهم" انتهى (تفسير الطبري: [11/171]).

وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3].

والتوبةُ واجبَة على كلِّ أحدٍ مِن المسلمين، فالواقعُ فِي كبيرة تجِب عليه التّوبة لئلاّ يبغتَه الموتُ وهو على معصية، فيندم حين لا ينفع الندم، والواقعُ في صغيرةٍ تجِب عليه التّوبة لأنّ الإصرارَ على الصغيرة يكون من كبائر الذّنوب، والمؤدِّي للواجباتِ التاركُ للمحرّمات تجِب عليه التّوبة أيضًا لما يلحَق العملَ مِن الشّروط وانتفاء موانع قبوله، وما يُخشَى على العمَل من الشّوائب المحذَّر منها كالرّياء، عن الأغرّ بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها النّاس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإنّي أتوب إليه في اليوم مائةَ مرّة» (رواه مسلم، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار: [2702] بنحوه، ومرّة رواه عن الأغرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما).

والتّوبة بابٌ عظيم تتحقّق بهِ الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبّها الله؛ لأنّ العبدَ إذا أحدَث لكلّ ذنبٍ يقَع فيه توبةً كثُرت حسناتُه ونقصَت سيّئاتُه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:68-70].

أيّها المسلمون؛

تذكَّروا سعَةَ رحمةِ الله وعظيمَ فضلِه وحِلمِه وجودِه وكرمِه، حيثُ قبِل توبةَ التائبين، وأقال عثرةَ المذنبين، ورحِم ضعفَ هذا الإنسان المسكين، وأثابَه على التّوبة، وفتحَ له أبوابَ الطّهارة والخيرات، عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النّهار، ويبسط يدَه بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل» (رواه مسلم، صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب: [2759]).

والتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصفَ بها تحقَّق فلاحُه وظهَر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67].


وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فرحُ الرّبِّ بها فرحًا شديدًا، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه من أحدِكم سقَط على بعيره وقد أضلّه في أرض فلاة» (رواه البخاري ومسلم، أخرجه البخاري في الدعوات، باب: التوبة: [6309] واللفظ له، ومسلم في التوبة، باب: من الحض على التوبة: [2747]).

والتّوبة من صفاتِ النبيّين عليهم الصلاة والسلام ومن صفات المؤمنين، قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:117].


وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف من الآية:143]، وقال تعالى عن داود عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17]، وقال عز وجل: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الركِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112]. ألا ما أجلّ صفةَ التّوبة التي بدَأ الله بِها هذه الصفاتِ المُثلى من صفاتِ الإيمان.

والتّوبة عبادةٌ للهِ بالجوارِح والقلب، واليومُ الذي يتوبُ الله فيه على العبدِ خيرُ أيّام العُمُر، والسّاعة التي يفتَح الله فيها لعبدِه بابَ التّوبة ويرحمُه بها هي أفضلُ ساعاتٍ في الدّهر؛ لأنّه قد سعِد سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصّة توبَة الله عليه في تخلّفه عن غزوة تبوك أنّه قال: فلمّا سلّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرُق وجهُه من السّرور: «أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك» (رواه البخاريّ ومسلم، أخرجه البخاري في المغازي، باب: حديث كعب بن مالك: [4418]، ومسلم في التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك: [2769]).

معشرَ المسلمين؛

إنّها تُحيطُ بِكم أخطارٌ عظيمة، وتنذِركم خطوبٌ جَسيمة، وقد نزَل مِن أعداء الإسلام بالمسلمين نوازلُ وزلازل، وأصابتهُم الفتَن والمِحن، وإنّه لا مخرَجَ لهم من هذه المضايِق وهذه الكربَات إلاّ بالتّوبة إلى الله والإنابَة إليه، فالتّوبة واجبةٌ على كلّ مسلِم على وجهِ الأرض من الذّنوب صغارِها وكبارها؛ ليرحمَنا الله في الدّنيا والآخرة، ويكشِف الشرورَ والكرُبات، ويقيَنا عذابَه الأليم وبطشَه الشّديد.

قال أهلُ العِلم: "إذا كانتِ المعصيةُ بينَ العبد وبين ربّه لا حقّ لآدميٍّ فيها فشروطُها أن يقلِعَ عن المعصيةِ وأن يندَمَ على فعلها وأن يعزمَ أن لا يعودَ إليها أبدًا، وإن كانتِ المعصيةُ تتعلّق بحقّ آدميٍّ فلا بدَّ مع هذه الشّروط أن يؤدّيَ إليه حقَّه أو يستحلّه منه بالعفو".

والتّوبة من جميع الذّنوب واجبَة، وإن تابَ من بعضِ الذّنوب صحّت توبتُه من ذلك الذّنب، وبقيَ عليه ما لم يتُب منه.
فتوبوا إلى الله أيّها المسلمون، وأقبِلوا إلى ربٍّ كريم، أسبَغَ عليكم نعمَه الظاهرةَ والباطنَة، وآتاكم من كلِّ ما سألتموه، ومدّ في آجالِكم، وتذكّروا قصصَ التائِبين المنيبين الذين مَنّ الله عليهم بالتّوبة النّصوح بعد أن غرقوا في بحارِ الشهوات والشّبهات، فانجَلت غشاوةُ بصائِرهم، وحيِيَت قلوبُهم، واستنارت نفوسُهم، وأيقظهم اللهُ من موتِ الغفلةِ، وبَصّرَهم مِن عمَى الغَيّ وظلماتِ المعاصي، وأسعدَهم من شقاءِ الموبِقات، فصاروا مَولودِين من جَديد مستبشرين {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران من الآية:174].

بسم الله الرحمن الرحيم: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} [التحريم:8].

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهَديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستَغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمدُ لله العزيز الوهّاب، الذي خلق الأسباب، وقدّر المقادير، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا إله إلا هو سريعُ الحساب. أحمد ربّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً مبرّأة من النفاق والارتياب، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المنعَم عليه بأفضل كتاب، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله والأصحاب.

أمّا بعد؛

فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه، فإنّ طاعته أقوم وأقوى، وتزوّدوا بهذه التّقوى لداركم الأخرى، فإنّها دار القرار، نعيمُها أبديّ، وعذابها سرمديّ، واشكُروا نعمَ الله عليكم بطلبِ رضوانِه وملازمة طاعتِه والبعدِ عن معصيته.

وأعظمُ النّعم نعمة الإسلام والإيمان، وما أجلَّ نعمةَ الأمن والأمَان. الأمنُ تنتظِم به مصالحُ الدّنيا والدّين، وتصلح به الحياةُ في جميع جوانبها، وتندفِع بوجودِه الشّرور والمخاوف عن النّاس، وتدرّ معه الخيرات، وقد امتنّ الله به على أهلِ بيته العتيق في قوله: {أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شيء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص:57].

وبيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم قدرَ نعمة الأمن وفضلَها بقوله: «من أصبح منكم ءامنًا في سربه معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنّما حيزَت له الدّنيا بحذافيرها» (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي رضي الله عنه، سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله: [2346]، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد: [300]، وابن ماجة في الزهد، باب: القناعة: [4141]، والحميدي في مسنده: [439]، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني السلسلة الصحيحة: [2318]).

وشكرُ هذه النّعمة بالمحافظة على أسبابِها والحذرِ من أسباب اختلالها. ومن أسبابِ المحافظةِ على الأمن الأخذُ على يدِ العابثين بالأمن والاستقرار، من السّفهاء والفسّاق والمجرمين الذين يهدمون ولا يبنون، ويفسِدون ولا يُصلحون، ويفارقون جماعةَ المسلمين وإمامَهم، قد زيَّن لهم الشيطان صنيعَهم، ودفعهم إلى مزالقِ الشرّ أعداءُ بلادهم، الذين شوَّهوا صورةَ الإسلام، وحقّقوا مكاسبَ لأعداءِ الإسلام بهذه الأعمال التخريبيّة الإجراميّة الإرهابيّة التي تظهَر بين آونةٍ وأخرى.

فإنّ أمنَ بلدكم مسئوليّة الجميع، فمَن عُلم عنه التوجّهُ لهذا المسلك الخبيثِ والإعداد للإفساد في الأرض فيجِب رفعُ أمره للسّلطة، قبلَ أن يحدثَ شيء من الحدَث الذي يحقِّق أهدافَ أعداءِ الأمّة، ويحقّق أهدافَ أعداءِ البلاد.

وعلى الشّباب الذين غرِّر بهم أن يُبصِروا مواقعَ أقدامهم، وأن يحذَروا كلَّ فكرٍ يخالف كتابَ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا ينخدِعوا لمن يدعو إلى هذا الفكرِ المنحرِف، وإن زعَم لنفسه ما زعم، أو ادَّعى له أحدٌ ما ادّعى، أو وصفه بما وصفه.


معشرَ الشّباب، خذوا العلمَ من كتاب الله ومن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على فهم السّلف الصّالح الذين جعلهم الله وسطًا بين الأمَم على يدِ الراسخين في العلم.

عبادَ الله؛

إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال عزّ من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا».

فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آلِ محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمّد وعلى آلِ محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين.