«لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً»

«انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم»

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي -


روى البخاري ومسلم في صحيحهما، عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه»، قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال صلى الله عليه وسلم: «أين علي بن أبي طالب؟»، فقالوا: يشتكي من عينيه يا رسول الله، قال: «فأرسلوا إليه فأتوني به»، فلما جاء بصق في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: علي يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (رواه البخاري: [3498]، ومسلم: [2406]).

هذه الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تبين لنا بجلاء الميزان الشرعي الذي يكشف لنا حرص النبي عليه الصلاة والسلام على الناس؛ كيف لا، وهو من قال عنه ربه عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

تتحقق الرحمة بالناس جميعا على اختلاف فئاتهم، وانتماءاتهم، وهذا ما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً حياً في أكثر من موطن؛ ليكون درساً لمن يأتي من بعده يتقلد بقلادة الحسبة، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمثلة مع أنصاره وأتباعه، وأعدائه ومن آذوه، ففي بداية دعوته عليه الصلاة والسلام بعد أن آذاه المشركون، ولقي منهم ما لقي يوم العقبة، بعث الله عز وجل إليه ملك الجبال ليأمره بما شاء فيهم، فلم ينتصر لنفسه بعد كل هذا الأذى والعنت، بل قال صلى الله عليه وسلم لملك الجبال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» (رواه البخاري: [3059]، ومسلم: [1795]).

وهذا حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أُناسٍ من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يضرب عنقه، قال له عليه الصلاة والسلام: «إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (رواه البخاري: [2845]، ومسلم: [2494])، وهذا عبد الله بن أبي كبير المنافقين حين قال: "أقد تداعوا علينا؟، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر رضي الله عنه ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه» (رواه البخاري: [3330]، ومسلم: [2584]).

فهذا هو حال القدوة الأولى للمحتسبين، وللدعاة والمصلحين صلى الله عليه وسلم في أحوال كان يستطيع أن يثأر، وينتقم لهذه الأعمال، والحق معه، لكن كرم أخلاقه، وحرصه على هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق جعله عليه الصلاة والسلام يؤثر كتم غيظه؛ ليستقيم العبد على الدين، وهذا ما حصل بالفعل مع ثمامة بن أثال رضي الله عنه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دمٍ وإن تُنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: ما قلت لك، إن تُنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي ما قلت لك: فقال صلى الله عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة»، فانطلق إلى نخلٍ قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان من دِينٍ أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب دين إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ..." (رواه البخاري: [4114]، ومسلم: [1764]) الحديث.

هذا غيض من فيض، وقطرة من بحر، والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم وحاله مع الناس المدعوين يجد أمثلة ودروساً قل أو انعدم أن يوجد مثلها في واقعنا المعاصر في أوساط كثير من المحتسبين، والدعاة.

إن من تصدر للحسبة، يجب عليه أن يعلم أنه في مقام القدوة، وعليه أمور وواجبات لا ينبغي أن يغفلها، أو أن يتجاهلها طيلة حياته الدعوية ومنها:

أولاً: الحرص على الناس، والرفق بهم، فمن يحمل المشروع الإصلاحي هو أرفق الناس بالناس، يتمثل التيسير عليهم دون التفريط أو التنازل، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة من الآية:143]، ولا يعني هذا التفريط في الثوابت والمسلمات، فالدين بني على اليسر ورفع الحرج، وهذا مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العليا، لكن أن يعتبر التيسير والأخذ بالرخص إلى أن يقع أحدهم في رد بعض النصوص أو تأويلها بما لا تحتمل وجهاً في اللغة أو في الشرع، فهذا ليس من الوسطية، أو التيسير في شيء.

ثانياً: أن يكون صابراً على أمر الحسبة مثابراً عليها لا يكل ولا يمل ولا ينقطع، بل يجب عليه الاستمرار في الحسبة بقدر المستطاع، وهذه وصية الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، ولن يكون المحتسب أكثر صبراً منه عليه الصلاة والسلام.

ثالثاً: الحكمة في جميع أموره، سواء في الحسبة، والدعوة إلى الله أو في التعامل مع الناس؛ لأنها مطلب ندب الشارع الحكيم إليها: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].

"فإن كان الاحتساب بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده، فيما قص الله عنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان من الآية:17]، ولمّا قال النبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل: «أو مخرجي هم؟
[1]
» يعني قريشاً، أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "ما ترك الحق لعمر صديقاً، واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين" (أضواء البيان: [1/464]).

فالمحتسب أرحم الناس بالناس، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران من الآية:159]، فاللين للمؤمنين رحمة بهم، والشدة على الكافرين، من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، وهذا جانب يجب على المحتسبين من عدم إغفاله.

ولكن ليعلم المحتسب أن الخطاب الديني الذي يصدر عنه هو خطاب التحرير والتنوير، تحرير العقول والقلوب من الزيغ والهوى؛ ليستنير بنور الهدى والتقى، وهو خطاب التبصير والتذكير، خطاب السماحة والرفق والرحمة واللين والدفع بالتي هي أحسن، وهو خطاب التسامح والتعايش والسلام والتعاون على البر والتقوى؛ ليحل بهذا الرقي والتقدم والتمدن والتحضر لكل المجتمع المسلم، فالخطاب الديني المنشود الذي هو في نصوص الشرع ومقاصده خطاب ينبذ التعصب والتزمت والانغلاق والتحجر، يقاوم الفرقة والفتنة ويحارب كل ما يمكن أن ينال من كرامة الإنسان ويتصادم مع حقوقه الأساسية، إن الخطاب الديني يأبى على المؤمن أن يظل في تخلف وتقهقر وضعف ومهانة ومذلة، إنه خطاب يدفع إلى تحقيق الخيرية الفعلية لأمة الإسلام: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].

هذه جوانب من حياة المحتسب، وكل من وهب نفسه لله تبارك وتعالى، ليرد الناس إلى دينهم، وعبادة ربهم عز وجل، لا يوجد فيها انقطاع، ولا ملل، بل فيها الحرص على تحقيق كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم» واقعاً ملموساً في أولوياتهم؛ لأن الأصل تعبيد الناس لربّ الناس عز وجل، وإخراجهم من العبودية لغير المولى تبارك وتعالى.

أسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.


ــــــــــــــــ


[1]- (أخرجه البخاري؛ حديث: [4]؛ باب: بدء الوحي، ومسلم في كتاب: الإيمان؛ باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حديث: ‏[257‏]).


محمد أحمد المطاع