الاعتزاز بحضارة الإسلام
إبراهيم بن محمد الحقيل
كل أمة من الأمم لديها ما تفاخر به من رجال خطوا أسماءهم في منجزاتها، أو أيام كانت موعدًا لانتصارها ومجدها، أو أحداث أظهرتها وأشهرتها. وامتازت أمة الإسلام عن سائر الأمم بأنها أمة كتابها محفوظ، ودينها موروث، وعلى وفق دينها بنت حضارتها، وسنّت تشريعاتها، وتعاملت مع غيرها؛ فكانت أمة حق وعدل ورحمة حين كان غيرها من الأمم أهل باطل وظلم وقسوة.
- التصنيفات: ماذا قالوا عن الإسلام -
الحمد لله؛ مالك الملك، وخالق الخلق، ومدبّر الأمر، يرفع من يشاء بفضله، ويضع من يشاء بعدله، وهو العليم الحكيم، نحمده على نعمة الإسلام، ونشكره إذ جعلنا من أمة خير الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ رفع بدينه أقواماً ووضع آخرين، فمن رَفع بالإسلام رأساً أعزّه الله تعالى إذ أعزّ دينه، ومن حط على الإسلام حط الله تعالى قدره، وأرغم في التراب أنفه، وأبطل في الدنيا سعيه، ورأى من عِزّ الإسلام ما يقهره ويُذلّه {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20-21].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ اعتز بالله تعالى، وفاخر بالإسلام، وعلَّم أصحابه الفخر به، ولما قال قائل المشركين: أعل هبل، قال: « »، ولما قالوا لنا العزى ولا عزى لكم، قال: « »، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد؛
فاتقوا الله تعالى، والزموا طاعته، وتمسكوا بدينه، وفاخروا بالانتساب له؛ فإنه الحق من ربكم، وفيه ذكركم وفخركم {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:43-44]، وفي آية أخرى {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]. أي: فيه شرفكم وفخركم، وعلو قدركم، وعظم أمركم، وارتفاع أمتكم.
أيها الناس؛ كل أمة من الأمم لديها ما تفاخر به من رجال خطوا أسماءهم في منجزاتها، أو أيام كانت موعدًا لانتصارها ومجدها، أو أحداث أظهرتها وأشهرتها. وامتازت أمة الإسلام عن سائر الأمم بأنها أمة كتابها محفوظ، ودينها موروث، وعلى وفق دينها بنت حضارتها، وسنّت تشريعاتها، وتعاملت مع غيرها؛ فكانت أمة حق وعدل ورحمة حين كان غيرها من الأمم أهل باطل وظلم وقسوة.
إن حضارة الإسلام هي أوسع الحضارات امتداداً عبر الزمان والمكان، فعمَّت أرجاء الأرض، وحكمت العالم ثلاثة عشر قرناً، ورغم هذا الاتساع الهائل والمدة الطويلة فإنها أقل الحضارات البشرية سفكاً للدم، وتعذيباً للبشر، ونشراً للجوع والفقر؛ لأن دعاتها فتحوا قلوب الناس للإسلام قبل فتح بلدانهم بالسنان، ورأى الناس منهم الرحمة والعدل والإحسان فسلموا لهم، وفضلوهم على حكم غيرهم، وأكثر بلاد الأرض إبان الفتوح دانت للمسلمين سِلماً، ورضي أهلها بحكمهم قبل الحرب.
وطالب نصارى حمص أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن يستمر في حكمهم ولا يتخلى عنهم لبني دينهم. وبعد فتح سمرقند ادّعى أهلها أن الفاتحين المسلمين لم يُخيِّروهم بين الإسلام والجزية والحرب، فقَبِلَ قاضي المسلمين حجتهم، وحكم لهم، وأمر جند المسلمين بإخلائها وتخييرهم قبل فتحها، فأسلم أهل سمرقند؛ لأنهم لم يروا لهذا العدل مثيلاً وقد وطئ أرضهم غزاة كُثر.
وفي فتح القسطنطينية بكى رهبانها من عدل المسلمين فيهم، وإكرامهم لهم، وقد قارنوا عدلهم بظلم الكاثوليك لهم لما استباحوا بيزنطة وارتكبوا فيها المذابح، واغتصبوا النساء، وخربوا العمران، ونهبوا آثارها، رغم أنهم على دينهم.
إن حضارة الإسلام لما تمكنت في الأرض أقامت العدل في الجملة، وحكمت بين الناس بشريعة الله تعالى فأَمِن المؤمن والكافر، والبَرّ والفاجر، وأخذ كل ذي حق حقه.
إنها حضارة لم تحتكر العلوم والمعارف، ولا الصناعة والتجارة، وأتاحت علومها ومعارفها لكل منتفع بها، وفتحت معاهدها ومصحاتها لكل محتاج إليها، فبرع في العلوم التجريبية من طبٍ وهندسةٍ وصناعةٍ ونحوها النابغون من شتى الملل والأجناس، من يهود ونصارى ومجوس وباطنيين إضافة إلى المسلمين، ونعم بها روم وفرس وترك ولاتين وغيرهم من الأجناس بالإضافة إلى العرب.
وسبب ذلك ما أصَّله دينهم في نفوسهم من نفع الناس، وبذل المعروف لهم، والإحسان إليهم، ونصوص الكتاب والسنة قد روضت المسلمين على ذلك {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج من الآية:77] {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة من الآية:2]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:7].
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « » (رواه مسلم)، وفي الصحيحين: « ». وعند الطبراني: « ».
إنها حضارة لم تفسد الاقتصاد بالربا والقمار، ولم تخنق الفقراء بالغش والاحتكار، وراعت حاجة الكبير والصغير، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والرجل والمرأة، والمسلم والكافر، فأعطت كل ذي حق حقه بلا زيادة ولا بخس. "مَرَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِشَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ فَقَالَ: "مَا أَنْصَفْنَاكَ أَنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ"، ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ".
هذه الحضارة العظيمة وسعت الناس كلهم، وشهد لها المؤرخون من شتى الأديان والأجناس، وأقروا بأنها أعظم حضارة مرّت على البشرية منذ دون التاريخ إلى زمننا هذا.
هذه الحضارة المميزة في جميع الميادين والمجالات تجد عقوقاً وحِقداً عليها من بعض أبنائها، يفوق حقدهم عليها حقد أعدائها؛ فيفضلون عليها حضارات اليونان والرومان والفرس والفراعنة، وكلها حضارات وثنية دموية ظالمة، ويزرون بحضارة الإسلام عند مقارنتها بحضارة الغرب العلمانية الإلحادية، رغم ما فيها من توحش ودموية.
إن حضارة الغرب المعاصرة هي أكثر حضارة في التاريخ نزفت فيها الدماء، وقتل البشر وعذبوا. وأبيدت أمم في صفقات سياسية أو اقتصادية، والشام شاهد حي على ذلك؛ فمنذ ثلاث سنوات وهم يبادون ويقطعون، وتغتصب نساؤهم، ويُسحل شبابهم، ويمزق أطفالهم، والقتلى مئات آلاف، والمشردون بالملايين، والصفقات السياسية والاقتصادية تدار على جثثهم، وتخط بدمائهم.
إن حضارة الإسلام كانت لها السيادة في الأرض ثلاثة عشر قرناً، ومن قتل فيها طيلة تاريخها لم يبلغوا العشر ممن قتلوا لما سادت حضارة الغرب في قرن واحد فقط وهو القرن العشرين.
لقد جاء في إحصاءات الحروب أن من قتلوا من البشر خلال القرن العشرين ربع مليار إنسان. وفي الحرب الكونية الأوروبية الأولى قتل قرابة عشرة ملايين، غير ملايين أخرى ممن جُرِحوا وفُقِدوا وشُرِدوا. وفي الحرب الكونية الأوروبية الثانية قتل سبعون مليوناً من البشر، وعشرات الملايين من الجرحى والمشوهين والمفقودين، وسلسلة الحروب التي يفتعلها الغرب لتحقيق مصالحه لا تنتهي.
إنها الحضارة التي نشرت الرعب في العالم، وعمَّقت المآسي في البشر، ففي كل بيت مأساة، وفي كل بلدة مذبحة.
إنها الحضارة التي أُسست على قانون الانتخاب الطبيعي العنصري، والبقاء للأصلح، والأصلح هو الأقوى، فلا بد من نشر الحروب والكوارث في الأرض، وإثارة القلاقل والفوضى في الدول؛ ليبيد الناس بعضهم بعضاً، من أجل تقليل عدد البشر حتى لا تُنتقص رفاهية الغرب المتخم بما ينهب من ثروات العالم.
إنها الحضارة التي يجوع فيها خمسة وثمانون بالمئة من البشر لضمان رفاهية خمسة عشر بالمئة منهم. إنها الحضارة التي تصطنع الفقر والجوع فتلقي فائض الحبوب والطعام في البحار، وتتلف ملايين من منتجات اللباس والدواء؛ للحفاظ على أسعار عالية للسلع، في الوقت الذي يموت فيه آلاف من البشر في العراء جوعاً وبرداً ومرضاً.
إنها الحضارة التي ضربت ستاراً حديدياً على العلوم والمعارف، والصناعات الثقيلة، واحتكرت المخترعات والمكتشفات؛ لئلا ينتفع أحد من البشر بشيء منها إلا عن طريقها، ولتضمن الهيمنة والسيطرة على العالم لسلبه واستعباده.
إنها الحضارة التي بيعت فيها الأجنة والأطفال فحُرموا من الأمومة الحقيقية والأبوة الحقيقية إلى أم وأب بديلين بالتبني؛ استغلالاً لفقر الأبوين الحقيقين، وتلبية لشهوة الأبوين البديلين من الغربيين.
إنها الحضارة التي عُرِضَ فيها جسد المرأة سلعة للإغواء وترويج السلع والمنتجات، وهي الحضارة التي تباع فيها الشهوة بأبخس الأثمان؛ ليسفل بها الآدمي من آدميته إلى أن يكون حيواناً بشرياً، وتنحط بها المرأة لتصبح مصرفاً لشهوات أقذر الرجال.
تلك هي حضارة الغرب التي لم ير فيها العلمانيون العرب إلا بنايات شاهقة، وسفن عملاقة، وإنتاجاً كثيراً، وتقدما في شتى المجالات المادية. ولم يروا انحسار آدمية الآدمي فيها، ولا اندثار الدين والقيم والأخلاق والعدل والرحمة. والله تعالى عليم بهم وبما تُكنه صدورهم من ضغائن على الإسلام وأهله {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام من الآية:139].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وفاخروا بدينكم وحضارتكم؛ فإن الله تعالى جعل الاعتزاز بالإسلام والفخر به أحسن القول {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
أيها المسلمون؛ الفرح بالإسلام، والفخر بالانتساب لحضارته ليس لأننا ولدنا فيها، ولا لأن آباءنا وأجدادنا كانوا من أهلها، ولكن لأن دين الإسلام هو دين الحق، وحضارته حضارة الرحمة والعدل، فالاعتزاز بها اعتزاز بالإسلام، والاعتزاز بالإسلام اعتزاز بالعبودية الحقة لذي العِزّة والجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس من الآية:65]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون من الآية:8].
إن الكارهين للإسلام من المنافقين لا يجترئون على الطعن المباشر في الإسلام؛ لأن قولهم يُرَدُّ عليهم، ولكنهم في سبيل ترويجهم لإفكهم ضد الإسلام يطعنون في بعض أحكامه، أو شريعته، أو حملته ونقلته، أو ينكرون حضارته؛ لأن الطعن في الناقل طعن -ولا بد- في المنقول، وإذا نفيت حضارة الإسلام نفي كون الإسلام حقاً؛ لأنه إما أن يكون ديناً باطلاً فلم يبن حضارة صحيحة، وإما أن المسلمين طوال عهدهم لم يطبقوه، فيكون ديناً مثالياً لا يمكن تطبيقه، وهذا يفضي إلى أنه باطل، أو أنه أمكن تطبيقه لكن الأمة اجتمعت على عدم تطبيقه وهذا باطل؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة؛ ولأن الله تعالى لا يمكن أن يصف أمة الإسلام بكونها {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران من الآية:110]؛ ثم لا تطبق دين من وصفها بذلك. فلم يبق إلا أن هؤلاء الكارهين للإسلام وحضارته قد فاضت أحقادهم من قلوبهم فعجزوا عن حبسها، فنطقت بها ألسنتهم، وكتبتها أقلامهم، فكشفوا عن مكنون قلوبهم.
إن الناقمين على الإسلام وشريعته وحضارته من أبناء جلدتنا قوم جربوا أن يكونوا شيئاً في الإسلام، فلما عجزوا أن يكونوا فيه شيئًا انقضوا عليه بالتنقص والثلب. كطالب أخفق في أرقى المدارس فلما طرد منها ادعى أنها أسوأ المدارس. {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال من الآية:23]، {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة من الآية:46].
إنهم قوم بحثوا عن ذواتهم في حضارتنا، وحاولوا أن يكونوا شيوخاً في الإسلام؛ فلما لم يفلحوا راحوا يبحثون عن ذواتهم في حضارة من يصفعونهم ويركلونهم ويحتقرونهم ويرونهم من سقط المتاع. يتوسلون إليهم بالطعن في الإسلام وحضارته لعلهم يرضوا عنهم.
إنهم قوم قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فعوقبوا على جحودهم ونكرانهم بزيغ قلوبهم، وعمى بصائرهم، حتى قال قائلهم ومنظّرهم: "إن سبيل النهضة واضحةٌ بينةٌ مستقيمة، ليس فيها عوجٌ ولا التواء، وهي أن نسير سيرةَ الأوربيين، ونسلكَ طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرِّها، حلوِها ومرِها، وما يُحبُ منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يعاب".
وآخر كان أكثر انحطاطاً منه فقال: "إنا عزمنا أن نأخذ كلَّ ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في صدورهم، والنجاسات التي في أمعائهم".
سقاهم الله تعالى من نجاسة من ابتغوا نجاستهم، وحشرهم في الدار الآخرة معهم، وكفى المسلمين شرّهم. إنه سميع مجيب.
وصلوا وسلموا على نبيكم...