أيها الدعاة والمجاهدون: احذروا حرب الجيل الرابع

لقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة في تحذير الأمة من الفرقة والاختلاف وبيان أنها سبب الفشل والنكبات. كما تبين لنا فيهما أن فرح شياطين الأنس والجن إنما هو في افتراق المسلمين واختلاف كلمتهم لا سيما الدعاة والمجاهدين منهم وأن غيظ الكافرين من الإنس والجن وغمهم حينما يرون اجتماع كلمة المسلمين وتآلفهم.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فلقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة في تحذير الأمة من الفرقة والاختلاف وبيان أنها سبب الفشل والنكبات. كما تبين لنا فيهما أن فرح شياطين الأنس والجن إنما هو في افتراق المسلمين واختلاف كلمتهم لا سيما الدعاة والمجاهدين منهم وأن غيظ الكافرين من الإنس والجن وغمهم حينما يرون اجتماع كلمة المسلمين وتآلفهم.

ولذا فهم لا يفتأون في الليل والنهار يسعون بالتحريش والتهريش في أوساط المسلمين. قال الله عز وجل: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء:53].

كما بيّن الله تعالى تراحم المسلمين فيما بينهم وتآلفهم وأن هذا يغيظ الكفار فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» (رواه مسلم: [2812]).

وقال أيضاً: «إن ابليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئاَ قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت» (رواه مسلم: [2813]).

ولما رأى اليهود اجتماع كلمة الأوس والخزرج بعد أن صاروا مسلمين ومتحابين متآلفين وقد كانوا قبل ذلك أعداء متحاربين غاظهم ذلك وغمهم وسعوا للإفساد بينهم وتفريق كلمتهم، فذكروهم الحروب التي كانت بيهم وما قيل فيها من أشعار حتى كادت فتنة القتال تنشب بينهم لولا أن الله عز وجل أخمدها بحكمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته.


وأنزل الله عز وجل في ذلك آيات بينات قال فيها سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ . وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ . وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۗ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ . وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ . كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ . لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ . ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آلِ عمران:99-112].

وها هم شياطين الجن الإنس في واقعنا المعاصر من اليهود والنصارى وأوليائهم من المنافقين يمارسون سياسة أسلافهم بمكرٍ جديد ومتنوِّع، يستخدمون فيه الإعلام المسخَّر في أيديهم، ومواقع التواصل الاجتماعي في تنفيذ فتنة التفريق والفوضى وعدم الاستقرار في بلدان المسلمين، وذلك بما يُسمونه بـ(حرب الجيل الرابع) فهل نعي أبعاد هذه الحرب ونحذر بأن لا نكون معاشر الدعاة والمجاهدين أداة لتنفيذ هذه الحرب التي تصب في خانة الخصم الكافر من حيث لا نشعر؟!

يحدد أهداف هذه الحرب أحد المخططين لها (ماكس مايوراينج) الأستاذ بمعهد الدراسات الإستراتيجية بالجيش الأمريكي وأحد أعمدة المخابرات العسكرية السابقين فيقول: "إنها إفشال الدولة المغزوة وزعزعة استقرارها، ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية عن طريق السيطرة على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والغرض من ذلك إنهاك وقضم إرادة الدولة المستهدفة ببطء وثبات لتحقيق هدفنا النهائي. وهو إرغام العدو على تنفيذ رغباتنا ويقولإن: أسلحتنا في هذه الحرب الناعمة ليست المدافع والدبابات والطائرات؛ ولكن قوة المال والقدرات العقلية وهو أهون علينا وأقل تكلفة، لأن من سينفذها لحسابنا هم مواطنون من الدولة العدو الذين يتولون عنا زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى" ا. هـ.

من خلال هذه التصريحات يتبين لنا خطورة هذه الحرب الناعمة التي هي إصدار جديد من إصدارات الحروب الموجهة للمسلمين، حيث تقوم هذه الحرب على إثارة الفوضى الفكرية والأمنية في الدولة المقصودة بالحرب والسعي لتفتيتها بمواجهات بين أبناء المسلمين عن طريق دعم طرف دون الآخر ولا سيما بين الجماعات المختلفة وإذكاء الخلاف بينها وإشاعة الفوضى لإجبار الدولة على التقسيم والتشرذم لتصبح دويلات لا حول لها ولا قوة.

دويلات ضعيفة متهالكة لا تستطيع أن تحيا من دون وصايتهم وسيسهُل تشكيلها والتلاعب بها بحجة حمايتها في حين أنها تستخدم وتسخَّر للاقتتال نيابة عنها بعد أن تمزق أوصالها عن طريق زرع الفتن والانشقاقات وإشاعة الفوضى ونشر الأكاذيب والافتراءات مستخدمة الإعلام الملبس في إثارة الفوضى والغبش في الأفكار وإثارة الشبهات وهذا مما يسعى ويخطط له المشروع الأمريكي فيما يسميه الشرق الأوسط الجديد.

ويتم تنفيذ هذه السياسة الماكرة من خلال العملاء المنافقين من أبناء البلد أو من يزرعه الكفار من أوليائهم داخل البلد، وغالباَ ما يكون هؤلاء المنافقون والعملاء من السياسيين واللبراليين وأصحاب الأقلام ورواد منابر الإعلام والفنانين والذين تكون مهمتهم خلق الأزمات وإثارة الشبهات وزعزعة الاستقرار؛ بحيث يردد وراءهم عامة الناس ما يرفعونه من شعارات فيُخرِبون بيوتهم بأيديهم وتبقى الدولة المغزوة في فوضى وعدم استقرار تغتنمه الدول الغازية في تمرير ما يريدون من تدخل سافر في شئون البلاد، وسيطرة على مقدراتها وتنفيذ مخططاتها ومشاريعها وذلك بأقل خسارة تنالهم ودون تدخُّل عسكري يكلفهم الخسائر في الأرواح والمعدات ولو احتاجوا للتدخل العسكري يتم لهم بأقل الخسائر لأنهم يدخلون بلداََ مفككاً ضعيفاََ قد اختلفت كلمة أهله وأفكارهم وغاياتهم.

وهذا للأسف ما يجري في هذه الأزمنة من حرب يشنها الأعداء على بلدان المسلمين دون أن تكلفهم هذه الحرب سلاحاً وجنوداً. فهل نعي معشر المسلمين هذا النوع من الحرب ونسعى لفضحها وتحذير الناس منها وقطع الطريق على أهلها؟ بأن لا نكون أداة لتنفيذ خطط الأعداء لتدمير أنفسنا بأنفسنا ونحن لا نشعر وذلك بتفرقنا وانشغالنا ببعضنا عن عدونا؟!

ونصحاً لنفسي ولإخواني الدعاة أذكر بعض الوقفات التي تُعين بإذن الله تعالى المخلصين من الدعاة والمجاهدين على جمع الكلمة وإحباط خطط الأعداء التي ترمي إلى جعل المسلمين ومنهم دعاتهم ومجاهديهم يدمرون أنفسهم وبلدانهم بأنفسهم وذلك بإشاعة الفوضى وإذكاء التفرق والتخريب بينهم.

الوقفة الأولى:

يجب على من يقوم بالرد على المخالف أن يراجع نيته وذلك بأن تكون قومته لله عز وجل وحميةَ لدينه وليست حمية للنفس وإظهار الغلبة وشفاء للغيظ وهذه مسألة دقيقة فكم من قائم حمية لنفسه لا لدين الله عز وجل وكم من قائم حمية لله عز وجل ولدينه في بداية أمره ثم لا يلبث أن يدخل حظ النفس والهوى ويتحول الأمر إلى إثبات الذات والغلبة على الخصم. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وكذلك الحمية لله والحمية للنفس، فالحمية لله يثيرها تعظيم الأمر والآمر، والثانية يثيرها تعظيم النفس والغضب لفوات حظوظها" (الروح؛ ص: [234]).

ومن الآفات التي تنافي الإخلاص وتسبب الفرقة والاختلاف العجب والغرور بالنفس والاعتداد بها وازدراء آراء ومواقف الآخرين ولا علاج لذلك إلا بالإخلاص والتبري من الحول والقوة وتحقيق التوكل على الله عز وجل وحده بالاستعانة به دون ما سواه واليقين بأن المرء هالك ضائع خاسر لو وكله لله عز وجل إلى نفسه طرفة عين وهذا عين تحقيق قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فقوله: {
إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ينفي الرياء وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ينفي العجب والموفق من وفقه الله.

الوقفة الثانية:

الأصل في العلاقة بين المسلمين مهما اختلفوا أنها علاقة ولاء وتراحم وتغافر وتناصح أما مع الكفار فليس لهم إلا البراءة والعِزَّة عليهم قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].

وبناءً على علاقة الولاء والتراحم بين المسلمين؛ يكون التعاون بينهم فيما اتفقوا عليه والتناصح بينهم فيما اختلفوا عليه دون أن يحدث هذا الاختلاف منابذة وخصومة وعداوة كما يبنى عليه حسن الظن بينهم وإقامة الأحكام والمواقف على العدل والإنصاف فيما بينهم والسعي للإصلاح إن حصل ما يفسد الأخوة قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]

الوقفة الثالثة:

على الدعاة والمجاهدين في حال الاختلاف والنقد أن "يسمعوا من بعضهم لا عن بعضهم" وهناك فرق كبير بين السماع من الجهة المختلف معها وبين السماع عنها إذ السماع عن المخالف يعتريه بالعنعنة مشوشات كثيرة منها سوء الفهم من الناقل أو سوء التعبير من المنقول عنه أو عدم التثبت والتوثيق أو الكذب والهوى ولا سيما إذا كان الناقل عن المخالف خصم له أو من أقرانه.

وفي ذلك يقول الحافظ الذهبي في ميزانه في ترجمة الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ما نصه: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد. وما ينجو منه إلا من عصمه الله وما علمت أن عصراً من الأعصار سلِم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ولو شئت لسردت من ذلك كراريس اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم" (ميزان الاعتدال: [1/111].

أما السماع من بعضهم؛ فإن كثير من المشوشات السابقة تزول حيث يسمع المختلفون الذين ينتقد بعضهم بعضاً سماعاً مباشراً من بعضهم يذكر كل فريق حجته، والملابسات التي عاشها والظروف التي أحاطت به حتى صدر منه موقفه كل ذلك وجهاً لوجه وقد ينفي أحد الأطراف ما نسب إليه من موقف خاطئ أو يكذبه أو يُصحِّحه إذا كان النقل مشوهاً. كما أن في السماع مباشرة بين الإخوة المختلفين إجابة بعضهم لسؤالات بعض بشكل مباشر الأمر الذي لا يملكه الناقلون للأخبار بالعنعنة. والمقصود أن في سماع الدعاة والمجاهدين بعضهم من بعض لا عن بعض يقضي على كثيرا من أسباب الخلاف ونزغات الشيطان وظلم بعضهم لبعض.

الوقفة الرابعة:

على من يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل أو الجهاد في سبيل الله تعالى ولا سيما القادة منهم أن يكون لهم العناية التامة بعلم القواعد الشرعية وفقه الموازنات ومقاصد الشريعة وذلك للحاجة الماسة لهذا العلم في نوازل الزمان والتعارض بين المصالح والمفاسد ومآلات الأمور واختلاف المواقف باختلاف الحال والزمان والمكان وكما قيل ليس العاقل من يعرف الخير من الشر ولكن العاقل من يعرف خير الخيرين وشرّ الشرين.

ومن أهم هذه القواعد التي تعين على جمع الكلمة ونبذ الفرقة:

1- الجماعة أصل فلا يضيع الأصل للمحافظة على الفرع كما أتم ابن مسعود رضي الله عنه الصلاة في منى وهو يرى القصر وقال: "إن الخلاف شر".

2- الموقف من المخالف -ولو كانت مخالفته بدعية مالم تكن مكفرة- يختلف في حالة الضعف ووجود عدو كافر يستبيح الجميع عنه في حالة القوة والتمكين. فبينما يكون الهجر للفاسق والمبتدع في حالة القوة والتمكين فإن هذا لا يصلح أن يكون في حالة الضعف وتسلُّط الكافر الحاقد على الجميع. بل قد يكون من المتعين أن يتفق مع المخالف ولو كان مبتدعاً في قتال العدو الكافر الصائل مع مناصحة المبتدع في ترك بدعته، فكيف إذا كان المخالف أو المخطئ من أهل السنة؟!

وهذا ما قام به شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حينما اجتمع مع طوائف الأمة وفيهم الأشعري والصوفي من غير الغلاة وجيش الأمة لقتال التتار ومقابلة ملكهم عندما أراد التتار اجتياح بلاد الشام.

وقد روى الذهبي رحمه الله تعالى في السير: "أن بعض علماء أهل السنة ومنهم أبو إسحاق الفقيه اتفقوا مع الخوارج بقيادة أبي يزيد الخارجي في قتال الدولة العبيدية الباطنية وقال عن الخوارج هم من أهل القبلة وأولئك -يعني العبيدين- ليسوا من أهل القبلة وهم بنو عدو الله فإذا ظفرنا بهم لم ندخل في طاعة أبي يزيد لأنه خارجي" (سير أعلام النبلاء: [15/154]). وهذا والله من الفقه والفهم لمقاصد الشريعة.

3- إذا كان يترتب على إنكار المنكر منكر أكبر منه فلا يجوز الإنكار في هذه الحالة كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة ليقيمها على قواعد إبراهيم عليه السلام خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام.

وكما ترك قتل عبد الله بن أُبيّ الذي ظهر نفاقه وكفره خشية أن يقال إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه. ومن ذلك أن مفسدة تُفرِّق المجاهدين من فرح العدو الكافر وإفشال الجهاد تربو على ما تفرّق المجاهدون بسببه فيتنازل عن ذلك حفاظاً على وحدة الصف. ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن تقطع يد السارق في الغزو خشية لحوق صاحب الحد بالمشركين حمية وعصبية.

الوقفة الخامسة:

ليس لازم المذهب مذهباَ. وبناء على هذه القاعدة فلا يلزم القائل بلازم قوله وما يترتب عليه ويؤل إليه من المآلات ما لم يلتزمه صاحب القول إلا أن يكون حقاً، ولكن إلزام القائل بلازم قوله يستخدم في المناظرات لإظهار تناقض الخصم وإبطال مذهبه الذي يقول به. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ فأجاب: "وأما قول السائل هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب فالصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذباَ عليه بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال" (مجموع الفتاوى: [20/217]).

وقال في موطن آخر: "وعلى هذا فإن لازم قول الإنسان نوعان:

أحدهما: لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره وكثيراً ما يضيف الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.

والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالِم غير النبيين عليهم السلام. ثم إن من عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا بلازمه" (الفتاوى الكبرى: [4/26]).

وفهم هذه القاعدة وإدراكها يساهم في حل إشكالات كثيرة من شأنها جمع الكلمة وذلك بعدم تحميل شخص أو طائفة ما لا يحتمل وإلزامه بما لم يلتزمه.

ذلك أن كثير من الخلافات والاتهامات التي تكون بين الأشخاص أو الجماعات إنما تنشأ من إلزام القائل بلازم قوله ومن ثم يتخذ معه موقف المفارقة والمفاصلة لا سيما إذا كان اللازم يوقع صاحبه في البدعة أو الكفر ومن أمثلة ذلك ما يقفه بعض الغيورين على العقيدة والجهاد برمي من يفرّق بين فعل الكفر وفاعله وأن تكفير المعين لابد فيه من توفر الشروط وانتفاء الموانع أنه مرجئ مبتدع أو أن من يرى أن الجهاد العام في الثغور فرض كفاية وليس فرض عين لاكتفاء أهل البلد المغزو برجاله أن هذا من المخذلين عن الجهاد المحسوب على الأنظمة المفسدة أعداء الجهاد والأمثلة كثيرة ذكر بعض أهل العلم منها عدم إلزام المرجئة الذين يقولون بأن الإيمان هو التصديق بأن إبليس وبعض اليهود وأبا طالب مؤمنون لأنهم مصدقون مقرون لكون المرجئة لم تقل بذلك ولم تلتزمه.

الوقفة السادسة:


مهما اختلف الدعاة والمجاهدون فيما بينهم فإن التكفير واستباحة الدماء بينهم خط أحمرلا يجوز الوصول إليه وإذا تحول القتال إلى أن يكون بين المجاهدين فلا خير يرجى منهم، ويتحتم على من يحب لنفسه النجاة اعتزال الجميع والإقبال على إصلاح النفس والدعوة إلى الله، وإن مثل هذه الفتنة لا يجوز التقليد فيها واتباع الداعين إليها فالجهاد عبادة عظيمة لله تعالى يحبها الله عز وجل أما القتال بين المسلمين فإنه مكروه مبغوض لله تعالى فلا يجوز تقديم مرادات البشر وما يحبون على مراد الله تعالى وكل عبد يأتي يوم القيامة ربه عز وجل فرداً يجادل عن نفسه وليس معه أحد من متبوعيه، ولا ينفعه أن يقول اتبعت فلاناً أو طائفة من الناس.

وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رغم حبه العظيم لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق الأكبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثقته في علمه وإيمانه وشفقته إلا أنه ناظره في قتال المرتدين من أهل اليمامة حين خفي عليه مشروعية قتالهم فكيف بمن دون أبي بكر رضي الله عنه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عَصَمَ مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»، قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأُقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق" (البخاري: [1399]، مسلم: [20]).

وهذا عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يوم أمر خالد أبن الوليد رضي الله عنه أن يقتل كل رجل منهم أسيره يوم بني جذيمة، فقال عبد الله ابن عمر رضي الله عنه: والله لا أقتل أسيري ولا يَقتل رجل من أصحابي أسيره" (رواه البخاري: [6679]).

وعن عمر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم عن أبيه أنه قال: يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأساً؟! لا والله حتى أُعطى سيفاً إن ضربت به مؤمناً نبا عنه، وإن ضربت به كافراً قتله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يحب العبد الخفي التقي» (الحلية: [1/94]، وأصله في مسلم).

وساق الذهبي بسنده عن حميد بن هلال قال: "أتت الحرورية مطرف بن عبد الله يدعونه إلى رأيهم فقال: يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدىً أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها" (سير أعلام النبلاء: [4/195])

الوقفة السابعة:

إن من الأسباب التي توقع في الفرقة واختلاف الكلمة العجلة في اتخاذ المواقف وقلة الاستخارة والاستشارة لا سيما إذا صدرت من رموز العلم المتبوعين وعليه فإن التأني والحلم وكثرة استخارة الله عز وجل واستشارة أهل العلم والتقوى والعقل والحكمة تعد من أسباب التوفيق واجتماع القلوب ووحدة الصف ولئن يخطئ الرجل في التؤدة والتأني أهون من أن يخطئ في العجلة والطيش.

الوقفة الثامنة:

إن من أعظم الوسائل التي تستجلب بها الألفة واجتماع القلوب بين المسلمين سؤال ذلك من علام الغيوب ومالك القلوب ومصرفها إذ لا أحد يؤلف القلوب سوى الله عز وجل بعلمه وعزته وحكمته ورحمته قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63]، وإذا علم الله عز وجل صدق الداعين استجاب لهم دعاءهم.

لذا ينبغي أن يتوجه الدعاة والمجاهدون إلى الله عز وجل في أوقات الإجابة بأن يجمع كلمة المسلمين وأن يؤلف بين قلوبهم ويوحد صفوفهم وأن يعيذهم من التفرق والاختلاف.

أسأل الله عز وجل أن يجمع كلمة الدعاة والمجاهدين على الحق، وأن يؤلف بين قلوبهم ويوحِّد صفوفهم، وأن يجعل جهادهم في سبيله وإعلاء كلمته، وأن ينصرهم على القوم الكافرين.

والحمد لله ربّ العالمين.



عبد العزيز الجليّل