من خلق المسلم: حفظ السر

حفظ أسرار الناس خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وأمانة من الأمانات التي يجب على المسلم أن يحفظها، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء من الآية:34]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8].

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق - أخلاق إسلامية -

 

حفظ أسرار الناس خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وأمانة من الأمانات التي يجب على المسلم أن يحفظها، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء من الآية:34]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8].

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ» (رواه الترمذي وحسنه).

قال المباركفوري في شرحه للحديث: "تَحْسُنُ المَجَالسُ، أو حُسْنُ المجَالسِ وشَرَفُها، بأَمَانة حَاضِريها على ما يقع فيها من قَول وفعل". فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه ويراه.

وعنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» (رواه مسلم: [1437]، وأحمد: [3/69]، [11678]).

وقد عاتب الله تعالى بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم على إفشاءها سِرّاً للنبي عليه الصلاة والسلام.

وكان ذلك سبباً لنزول سورة كاملة من سور القرآن الكريم وهي سورة التحريم التي قال الله تعالى في مبتدأها: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:1-3].

أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: "نزلت سورة التحريم بالمدينة، ولفظ ابن مردويه سورة المحرم".

وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: "أنزلت بالمدينة سورة النساء: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}".

قوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}.

اختلف في سبب نزول الآية على أقوال: الأول قول أكثر المفسرين.

قال الواحدي: "قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها: «لا تخبري عائشة ولكِ عليَّ أن لا أقربها أبداً»، فأخبرت حفصة عائشة وكانت متصافيتين، فغضبت عائشة ولم تزل بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية، فأنزل الله هذه السورة".

قال القرطبي: "أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة، وذكر القصة".

وقيل السبب: "أنه كان صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة رضي الله عنهن أن تقولا له إذا دخل عليهما إنا نجد منك ريح مغافير فحرّم النبي صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه فأنزل الله هذه الآيات" (تفسير ابن كثير: [8/161]، تفسير القرطبي: [10/312]، فتح القدير للشوكاني: [5/348]، صحيح البخاري: [5431]).



يقول الشاعر:
 


إذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ *** وَلاَمَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ
إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ *** فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ


وأسرار البيت ليست على درجة واحدة من الأهمية، فهناك أسرار العلاقة الخاصة بين الزوجين وهذه يجب أن تحتفظ بها الزوجة في بئر عميق داخل نفسها وكذلك الزوج، وقد مرّ علينا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من إفشاء هذه الأسرار.

قال الله تعالى في وصف المؤمنات الصالحات: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله} [النساء من الآية:34].

وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: عَنْ شَهْرٍ، قال: حَدَّثَتْنِي أسْمَاءُ فِيْ يَزِيدَ؛ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ. فَقال: «لَعَلَّ رَجُلاً يَقُولُ مَا يَفْعَلُ بِأَهْلِهِ، وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا، فَأَرَمَّ الْقَوْمُ». فَقُلْتُ: إِي وَالله، يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُنَّ لَيَقُلْنَ، وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ، قال: «فَلاَ تَفْعَلُوا، فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَالِكَ مِثْلُ الشَّيْطَانِ لَقِيَ شَيْطَانَةً في طَرِيقٍ فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ» (أخرجه أحمد: [6/456]).

قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم من الآية:10].

قال بعض المفسرين عن هذه الخيانة: "إن امرأة نوح كانت تكشف سِرّه فإذا آمن مع نوح أحد؛ أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، أما امرأة لوط فكانت إذا استضاف لوط أحدًا أخبرت أهل المدينة ممن يعملون السوء حتى يأتوا ويفعلوا بهم الفاحشة" (تفسير الطبري: [23/497]).




يقول الشاعر:

 


واحفظ لسانك واحترز من لفظه *** فالمرء يسلم باللسان ويعطب
والسِرّ فاكتمه ولا تنطق به *** فهو الأسير لديك إذ لا ينشب

واحرص على حفظ القلوب من الأذى *** فرجوعها بعد التنافر يصعب

إن القلوب إذا تنافر ودها *** مثل الزجاجة كسرها لا يشعب
وكذاك سِرّ المرء إن لم يطوه *** نشرته ألسنة تزيد وتكذب



وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته على ذلك عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَرْحَبَاً بِابْنَتي»، ثمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثَاً فَبَكَتْ، فَقُلْتُ: لهَا لِمَ تَبْكِينَ؟ ثمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثَاً فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ فَرَحَاً أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتى قُبِضَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِليَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُني القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَني العَامَ مَرَّتَيْنِ وَلا أُرَاهُ إِلا حَضَرَ أَجَلي وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتي لَحَاقَاً بي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُوني سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ» أَوْ «نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ» فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ" (أخرجه البُخَارِي: [4/247]، وأحمد 6/282]).

وعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: "قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ، إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذهُ فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، وَلاَ سَبَّنِي سَبَّةً، وَلاَ انْتَهَرَنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَنْ قَالَ: «يَا بُنَيَّ، اكْتُمْ سِرِّي تَكُ مُؤْمِنًا». فَكَانَتْ أُمِّي وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلْنَنِي عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلاَ أُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَمَا أَنَا بِمُخْبِرٍ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا أَبَدًا" (أخرجه التِّرْمِذِي: [589]، و[2678]، و[2698]. وانظر: المسند الجامع: [2/396]).

وعند البُخَارِي عن أنس: "أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ صِبْيَانٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، قَالَتْ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: فَاحْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم" (رواه البُخَارِي في "الأدب المفرد": [1139]).

وأسرّ معاوية رضي الله عنه ذات يوم حديثاً إلى الوليد بن عتبة، فقال الوليد لأبيه: "يا أبت إن أمير المؤمنين أسرَّ إليَّ حديثاً، وما أراه يطوي عنك ما يبسطه إلى غيرك"، فقال له أبوه: "لا تحدثني به؛ فإن من كتم سِرّه كان الخيار له، ومن أفشى سِرّه كان الخيار عليه".

وقال بعض الحكماء لابنه: "يا بني، كن جواداً بالمال في موضع الحق، ضنيناً بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجوه البر، والبخل بمكتوم السِرّ".

وإفشاء الأسرار يلحق الأذى والضرر بصاحب السِرّ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].

فيدخل الحزن والألم عليه ويكسر قلبه ممن استودعه سِرّه، ويفسد العلاقات الطيبة بين الناس، كما قد يلحق الأضرار المادية بهم.

 

 

بدر عبد الحميد هميسه