ذكرى أوسلو وبداية الانحدار
لقد وجه البيان القرآني إلى طريقة تعامل المسلمين مع من يتكرر منه نقض العهد والخيانة للمواثيق، [فإِذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ وَثَبَتَتْ دَلَائِلُهَا، وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ لِئَلَّا يُوقِعَ التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ، وَجَازَ إِسْقَاطُ الْيَقِينِ هُنَا ضَرُورَةً. وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْيَقِينُ فَيُسْتَغْنَى عَنْ نَبْذِ الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، لَمَّا اشْتُهِرَ مِنْهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَالنَّبْذُ كما هو معلوم: الرَّمْيُ وَالرَّفْضُ]
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
ورد تحذير الله تعالى لنا من تصديق وعود اليهود والكفار في القرآن الكريم بقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 55، 56]. قال مجاهد وغيره: الْمَعْنِيُّ بِهِمْ يهود بني قُرَيْظَة وَبني النَّضِير، نَقَضُوا الْعَهْدَ فَأَعَانُوا مُشْرِكِي مَكَّةَ بِالسِّلَاحِ، ثُمَّ اعْتَذَرُوا فَقَالُوا: نَسِينَا، فَعَاهَدَهُمْ صلى الله عَلَيْهِ وسَّلَمُ ثَانِيَةً فَنَقَضُوا العهد يوم الخندق ثانية.
لقد كان العلاج القرآني لهذه الخيانة المتكررة من اليهود والكفار ونقض العهد المستمر منهم هو قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 57، 58]. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "الْمَعْنَى أَنْذِرْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَكِّلْ بِهِمْ، وقال الزَّجَّاجُ: افْعَلْ بِهِمْ فعلا مِنَ الْقَتْلِ تُفَرِّقْ بِهِ مَنْ خَلْفَهُمْ".
لقد وجه البيان القرآني إلى طريقة تعامل المسلمين مع من يتكرر منه نقض العهد والخيانة للمواثيق، [فإِذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ وَثَبَتَتْ دَلَائِلُهَا، وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ لِئَلَّا يُوقِعَ التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ، وَجَازَ إِسْقَاطُ الْيَقِينِ هُنَا ضَرُورَةً. وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْيَقِينُ فَيُسْتَغْنَى عَنْ نَبْذِ الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، لَمَّا اشْتُهِرَ مِنْهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَالنَّبْذُ كما هو معلوم: الرَّمْيُ وَالرَّفْضُ] (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/31-32).
مع كل هذه التوجيهات القرآنية المطالبة بعدم الركون إلى عهود اليهود وتصديقها، وبنبذ عهودهم ومواثيقهم التي خانوها ونقضوها، ومواجهتهم باللغة التي يفهمونها، ألا وهي لغة القوة والسلاح، إلا أن بعض العرب والمسلمين ما زالوا يلهثون وراء التفاوض مع الكيان الصهيوني، طامعين بفتات قد ينعم به الغاصب المحتل، يستر به الفشل الذريع الذي مني به المسار التفاوضي منذ اتفاق أوسلو عام 1993م وحتى الآن.
لقد مرت ذكرى مرور عشرين سنة على توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم في 13/أيلول/1993م، الذي أوهم الفلسطينيين بأنه يمهد الطريق لإقامة دولة لهم على أساس حل الدولتين بحلول عام 1999م، دون أن يحقق لهم حلمهم باستعادة أرضهم المسلوبة أو حتى جزء منها كما كان مقررا، بل دون أن يكونوا كما كانوا عليه من قبل من المقاومة والعزة والكرامة.
لقد كان اللقاء الذي تم بين ياسر عرفات وإسحق رابين الذي صاحب توقيع الاتفاق في البيت الأبيض الأمريكي، في حقيقته مجرد استثمار للوقت لتهويد القدس وتغيير الوقائع على الأرض لصالح سلطات الاحتلال، من خلال زيادة النشاط الاستيطاني، وإقامة الجدار العازل (جدار الفصل العنصري)، وجعل فرصة إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران من عام 1967م شبه مستحيلة. ورغم المعارضة الشديدة التي أبدتها غالبية الفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني على الاتفاق، إلا أن حركة فتح دافعت عن موقفها، معتبرة أن الاتفاق إنجاز وطني، وأن ما عجزت بندقيتها من تحقيقه قد تحقق بالصلح والتفاوض، وهو ما ثبت عكسه على مدار 20 عاما من عمر الاتفاق.
ورغم أن موقع الاتفاق وزعيم حركة فتح ياسر عرفات قد تنبه للخديعة التي وقع بها في نهاية حياته، وذلك حين جاء وقت الوفاء بالعهد، ونكص الاحتلال على عقبيه وخالف العهود، فرفع الرجل صوته عاليا، تاركا الأمر للشعب ليقرر عودة المقاومة الشعبية والمسلحة، فاغتالوه نتيجة لذلك، إلا أن أتباعه اليوم ما زالوا ماضين في طريق المفاوضات.
لقد كانت آثار اتفاقية أوسلو كارثية على الشعب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية على حد سواء، فهي من جهة حرمت الفلسطينيين من كثير من حقوقهم وأهمها حق اللاجئين بالعودة إلى وطنهم الأم، وهي من جهة أخرى أوجدت شرخا عميقا بين حركة فتح من جهة وفصائل المقاومة من جهة أخرى، والتي لا تزال آثارها السيئة واضحة حتى الآن.
فقد تعهدت منظمة التحرير بملاحقة الإرهاب والإرهابيين (المقاومة)، كما نصت اتفاقية طابا الموقعة عام 1995م على التزام السلطة الفلسطينية بمنع الإرهاب ضد الصهاينة، واتخاذ الإجراءات الأمنية المناسبة بحقهم، وقد كشفت وثائق (ويكلكس الجزيرة) عن اعترافات وزير داخلية السلطة نصر يوسف الذي تلقى الأوامر من موفاز لقتل قائد كتائب شهداء الاقصى في قطاع غزة (حسن المدهون) وقد تم ذلك.
كما أن صحيفة معاريف الصهيونية كانت قد ذكرت في تقرير لها: إنه حتى نهاية عام 2012م قد جرت 467 عملية تنسيق أمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والصهيونية، وجاءت تصريحات نبيل شعث عضو مركزية فتح يوم (13-6-2013م) أمام الصحفيين في رام الله اعترافًا واضحًا على ذلك حيث قال: إن السلطة تنفق على أمن (إسرائيل) والمستوطنين أكثر مما تنفق على التعليم!!
ورغم أن منظمات إقليمية ودولية اعترفت بفشل أوسلو، ومنها الشبكة الأورومتوسطية التي اعتبرت أوسلو (عقيمة) وعديمة الجدوى، مؤكدة فشلها حيث أنها لم تقدم أية مساهمة لإقامة دولة فلسطينية على أراضي عام 1967، ناهيك عن إبعاد آفاق السلام عن الفلسطينيين، من خلال تزايد المستوطنات وتعمق الخلاف بين مختلف الأطراف بحسب الشبكة، إلا أن زعماء سلطة رام الله ما زالوا يحلمون بإمكانية إحياء ما قد مات وشبع موتا.
فقد رفض أحمد قريع الذي كان رئيسا للوفد الفلسطيني في المفاوضات مع إسرائيل، في تصريحات للإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية بمناسبة مرور عشرين عاما على توقيع اتفاق أوسلو، القول بأن هذا الاتفاق قد مات، مشيرا إلى أن العلاقات بين الجانبين لا تزال تعتمد عليه. بينما أعلنت حركة حماس مجددا في بيان بمناسبة ذكرى مرور عشرين عاما على اتفاقية أوسلو أن هذه الاتفاقية باطلة، وأنها لن تعترف بها ولا بنتائجها.
لقد آن للعرب والمسلمين عامة وللفلسطينيين خاصة أن يثقوا بكلام ربهم وسنة نبيهم، التي تؤكد أن اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، وآن لهم أن يتعلموا من سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم في تعامله مع نقض اليهود لعهودهم ومواثيقهم. إن من أعجب العجب بعد كل هذه الانتكاسات التفاوضية مع اليهود، وبعد كل هذه الوقاحة من اليهود في نقض العهود والمواثيق، وبعد كل هذه الحقائق الملموسة على الأرض، التي تؤكد أن ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد إلا بالقوة، أن يعود فريق من الفلسطينيين للتفاوض مع الاحتلال الصهيوني، خاصة في الحالة الراهنة التي تشهدها الساحة العربية والإقليمية.
فما يحدث في الدول المجاورة لفلسطين يشير إلى حملة ارتدادية تستهدف إنهاء ما سمي بالربيع العربي، وتقوية ما يسمى بمحور الاعتدال العربي المتحالف مع الولايات المتحدة، على حساب التيار الإسلامي الذي يراد الإطاحة به تماما. فهل سينجح المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة بعد عشرين عاما من توقيع اتفاق أوسلو؟؟ أم أن المقاومة الفلسطينية ستنتصر في نهاية المطاف؟؟
عامر الهوشان