مأساة صانع الرجال

عبد الرحمن ضاحي

إنها قصة (صانع الرجال) تلك المأساة المتكررة في أغلب الكيانات الإسلامية، فالمربي يبذل ما في وسعه مع الشباب لإخراج جيل جديد وإخراج كوادر جديدة، إلى أن تأتي اللحظة الفارقة وهي البحث عن عمل أو الزواج فينشغل في البحث عن (لقمة العيش) داخل بلده وأحياناً خارجها ليضيع مجهود أعوام من بناء للأفراد.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


عاش مع تلامذته أجمل أيام عمره، يعلمهم العلم ويغرس فيهم فضائل الأخلاق، بذل مجهودًا خارقًا من المتابعة لتقويم ما اعوج من سلوكهم، وبذل مجهوداً أكبر في بناء عقولهم، كان كل همه أن يخرج جيلاً جديداً يحمل المشعل من بعده، إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة وبدأ يعمل كي يقتات (كبقية البشر) فتضاءل مجهوده معهم نظراً لإرهاقه وصعوبة الجمع بينهم وبين العمل، ولكنه كان يضغط على نفسه ويتحمل.

ظل صاحبنا يعلم تلامذته دون كلل في ظل هذا الضغط الشديد، إلى أن جاءت اللحظة التي أقبل فيها على الزواج (كبقية البشر) ولكي يقدر على (الباءة) فكان إما أن يعمل في وظيفتين أو أن يسافر إلى الخارج، فاحتار صاحبنا ووجد نفسه بين خيارين، إما أن يترك تلامذته بعد المجهود الطويل الذي بذله معهم ومنهم من لم يُفطم بعد من التعلق به، أو أن يكمل معهم ويؤخر أمر الزواج إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

إنها قصة (صانع الرجال) تلك المأساة المتكررة في أغلب الكيانات الإسلامية، فالمربي يبذل ما في وسعه مع الشباب لإخراج جيل جديد وإخراج كوادر جديدة، إلى أن تأتي اللحظة الفارقة وهي البحث عن عمل أو الزواج فينشغل في البحث عن (لقمة العيش) داخل بلده وأحياناً خارجها ليضيع مجهود أعوام من بناء للأفراد.

لماذا نهتم بالمربي؟!

أولًا: المربي هو عصب أي كيان وهو حجر الزاوية، فأغلب كوادر الكيان هو من استقبلها وغرس فيها معاني الخير وساهم في بناء عقلها قبل توجيهها في مجال تخصصها، وهو الصانع الذي يحول المادة الخام (طاقات البشر) إلى مواد مصنعة (طاقات تخدم الكيان)، فالكادر السياسي والعلمي والإعلامي كل منهم كان له مع (المربي) نصيب، فمن باب أولى أن يراعى، وكما قال الشيخ محمد الدويش في حق التربية بأحد أبحاثه: "هو جهد يفوق الإمكانات والطاقات العاملة فيه، ولايزال يعاني من قصور ومشكلات بسبب اعتماده على فضلة أوقات المربين".

ثانيًا: بلا شك أن انشغال المربي عن المتربين يؤثر بشكل شديد على القيام بدوره تجاههم على الوجه الصحيح، حيث أن عملية التربية تحتاج لوقت كبير لما فيها من تعليم ومتابعة وعمل نشاطات، والطامة الكبرى لو انشغل المربي كلية كالعمل في وظيفتين أو أنه سافر للخارج فينقطع عن المتربين تمامًا، فإما ينتقلوا لغيره إن وُجد أو أن ينقطعوا تماماً عن المسجد.

ثالثاً: انشغال المربي أكثر من اللازم بأمر الدنيا يمنعه من الارتقاء بنفسه، وبذلك يقل رصيده ويقل عطاءه مع المتربين، حتى إذا استنفذ كل ما عنده وجد نفسه مفلساً أمام من يربيهم، وقد يكون انشغاله بالدينا عامل رئيس في عرقلته عن الارتقاء بنفسه، نظرًا لأنه مشغول بمن يربيهم أو سعيه وراء لقمة عيشه وبالتالي سيتحول من شمس تضيء للآخرين مع (حفاظها على خاصية التوهج في نفسها)، إلى شمعة تضيء للآخرين و(تحرق نفسها).

رابعًا: الشركات التي تبغي (الربح الدنيوي) تتسابق لحيازة العامل الماهر الناجح في مجاله، وتعرض عليه الحوافز والمكافآت من أجل كسب ولائه لمكان العمل، بل إن بعض الشركات تقدم لهم التسهيلات الصحية والمادية كامتيازات لهم، فحري بالكيانات الإسلامية ذات (الربح الأخروي) والأهداف السامية أن تهتم بالعامل الناجح فيها، وهو ليس كأي عامل بل هو أساس الكيان.

خامسًا: لا يخفى على أحد المبالغ الطائلة التي تصرف بصورة منتظمة من أهل الباطل لمحاربة الإسلام، لاسيما إنفاقهم في مجال التربية وعلى القائمين عليه في كياناتهم، والكنيسة مثالًا، ولقد دلنا الأستاذ سيد قطب على الطريقة المثالية لمحاربة ذلك الباطل المنظم فقال: "الجاهلية المنظَّمة،لا يغلبها إلا إسلام منظم"، فليس من المعقول أن يلتفت الباطل لسدّ هذه الثغرة في كيانه ولا يلتفت أهل الحق لسدها في كيانهم.

وماذا بعد؟!

ومن الفطنة أن يتم عرض المشكلة بعلاجها لكي لا يكون الأمر مجرد تنفيس للهموم وتفريغ لشحنات الضيق، والحل يكمن في بداية عمل مؤسسي يقوم على تكامل الأدوار داخل الكيانات الإسلامية الهدف منه الوصول إلى إخراج كوادر تخدم الهدف الأكبر، وتتحقق من خلالهم أكبر منفعة لهم وللكيان، وبدلًا من أن يتم هذا التكامل بصورة عشوائية من الممكن إتمامه بصورة مؤسسية.

بمعنى أدق نقصد أن يتم إنشاء ذراع اقتصادي لكل لكيان، مسؤول عن تمويل الكيان وتشغيل عناصره بعدد ساعات محدود حيث يوفر له الدخل الكافي لسدّ حاجته من الدنيا ويوفر له أيضًا الوقت المتاح لممارسة دعوته، ويعتقد أن يكون ذلك بديلاً عن إخراج راتب شهري حيث أن من العناصر من يأنف أن يقبل الأجر دون مقابل.

ونظن أن إنشاء ذراع إقتصادي للكيانات الإسلامية صار أمرًا سهلاً، لا سيما في الدول التي هبّ عليها رياح الربيع العربي وتحررت من أنظمة الطواغيت.


ولكن في المقابل يبقى أن يبذل الكادر أو العنصر أقصى ما عنده في خدمة الدعوة إلى الله ولا يفتر عن طلب العلم بمجرد الوصول إلى الراحة المادية التي وفرها له الكيان، وقد حذر الأستاذ الراشد في كتابه المسار من تلك الفئة وقال: "قد تصير الدعوة متجرًا لأبناء الدنيا، يلزمها أحيانًا، حتى إذا صار موظفاً كبيرًا أو أستاذًا جامعيًا، و(اختصاصيًا خبيرًا): تركها، وانفرد يبني مستقبله.

كلمة مُرّة يجب أن يتقبلها الدعاة، فإن كتف الدعوة يئن لكثرة الذين حملهم وتنكروا له.

فاعقدوا العزم على الوفاء لهذه الدعوة المباركة أيها الإخوة، واجعلوا الشهادة العالية أو التجارة أو المنصب في خدمة الدعوة لا للصيت.


عبد الرحمن ضاحي
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام