أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

الاستنباط مهمة عسيرة لاسيما في هذه الظروف التي تتداعى فيها الأمم علينا بقواتها وأجهزتها واقتصاداتها وإعلامها وثقافاتها. و"الاستنباط" -كما يقول ابن كثير رحمه الله: معناه أنهم "يستخرجونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها". ولكي نصل إلى "القعور"؛ فإن ذلك يستلزم جهد وعرق السنين من مراكز ومعاهد ومجالس وهيئات متخصصة، لا تتعاطى "الاستنباط" بـ"السليقة" و"الخفة" أحياناً، بل عبر عملٍ شاقٍ ومضنٍ وعلميٍ عميق.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

 

لعل كثرة المخاوف والفتن التي تحيط بعالمنا الإسلامي هي ما تدفعنا إلى الالتفات أكثر إلى التحذير من الشائعات السلبية التي تهدف إلى التخويف والقلق، أو لعل التحذير القرآني من الإرجاف في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60]؛ هو ما يجعل ذهننا ينصرف إلى الحذر من الإرجاف، وهو بث الأخبار المخيفة والمقلقة، والراجفة المزلزلة.

والحاصل أن هذا ربما كان صحيحاً في الجملة؛ فشائعات التخويف أكثر من نظيرتها التي تحمل الناس على الطمأنينة والأمان المفرط المفضي إلى الهزيمة والانكسار، لكن الأخيرة لا ينبغي أن تهمل أو تحذف من الذاكرة لمجرد قلتها، لا؛ بل يلفت النظر أكثر تقديمها في آية تُعدّ عمدة في تناول الأخبار المبعثرة التي تلقى في لحظات حاسمة، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].

خبر وشائعة الأمن الزائد المفرط قد تكون أكبر أثراً في تحقيق هزيمة لطائفة مسلمة من شائعة خوف في مرحلة ما، ووضع حرج، ولقد صار في أحداث الأمة المتلاحقة في هذا الأوان ما يجعلنا نلتفت إلى شائعات الأمن التي تطلقها جهات احترافية تسعى إلى تخدير المتحمسين، وتنويم اليقظين، وقتل الحذر، ووأد التخطيط المحكم، وتفويت فرص التطوير والاستعداد، وكذلك يفعلون.

والواقع يشهد، بل وينبه إلى أن ما ورد من تمثيل في الآية بـ {
أَمْرٌ} لم يعد كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته "أمراً" أو عدة "أمور" محدودة؛ فلقد ساهمت الميديا، وما وراءها من أجهزة محترفة في تكسير معنويات "الأعداء" أو تنويمها في جعل هذا الأمر المصوغ في الآية بصيغة النكرة يشمل عدداً هائلاً من الشائعات التي تتدفق حارفة تفكير المتلقين باتجاه خاطئ، ما يترتب عليه رأياً عاماً مضللاً، ثم يضغط بقوة على أصحاب القرار فينجرفون بدورهم نحو الفشل.

هنا الآية تحذرنا من أمور الأمن والخوف على السواء، لكننا نلتفت أولاً إلى الخوف ونذهل كثيراً عن شائعات الأمن، وهذا خطير، وقد أفضى في كثير من الحالات الراهنة إلى سيادة الإحباط واليأس شأنه شأن شائعات الخوف.

لا نلتفت كثيراً إلى "الأمن" المفرط، وهذا مقلق، وقد حذرنا منه الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع».


على أن الأكثر بعثاً للقلق ليس فقط في الوقوع في فخ شائعات الأمن والخوف في ظل وجود دول ومنظمات وجهات شديدة الدهاء أجادت صناعة الشائعة وبث الأخبار الكاذبة والمغرضة وجندت لها ساسة وفضائيات وصحف ومواقع تواصل تسوق معلومات وأفكاراً مغلوطة من خصوم أو من مدعيي الصداقة والأخوة، من جهات وشخصيات معلومة أو مجهولة. وإنما في ندرة من يمكنهم "الاستنباط"، وهو الجزء الأخير من الآية؛ فالإحالة إلى أهل العلم والحكمة كان في صدر الإسلام ميسوراً، وكان العتب على مناصريهم ومؤيديهم ومتبعيهم في ألا يرجعوا بالخبر إليهم لإعادة قراءته بشكل صحيح، والحق أن الأمر القرآني لم يتغير، ولكن ما بدا عسيراً على كثيرين أن يجدوا أن من يستأنس فيهم الخبرة والكياسة من أهل الرأي، قد يقع العديد منهم في فِخاخ أهل الدهاء من خصوم الإسلام، ممن بلغوا شأواً كبيراً في الالتفاف على الواقع وخداع الآخرين بمن فيهم من يتصدرون المواقف العظام.

الأمر جد مزعج في الحقيقة، غير أن الأمة لا تعدم حكماء وعلماء قادرين على "الاستنباط" والرأي السديد، وإن ظلت تعاني من ثلمةٍ في هذا الصدد تستحق بجدارة أن يُنظر إليها بإمعان وبصيرة؛ فالاستنباط مهمة عسيرة لاسيما في هذه الظروف التي تتداعى فيها الأمم علينا بقواتها وأجهزتها واقتصاداتها وإعلامها وثقافاتها. و"الاستنباط" -كما يقول ابن كثير رحمه الله: معناه أنهم "يستخرجونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها".


ولكي نصل إلى "القعور"؛ فإن ذلك يستلزم جهد وعرق السنين من مراكز ومعاهد ومجالس وهيئات متخصصة، لا تتعاطى "الاستنباط" بـ"السليقة" و"الخفة" أحياناً، بل عبر عملٍ شاقٍ ومضنٍ وعلميٍ عميق.
 

 

أمير سعيد