النور المبين 1

كان حال أسلافنا مع كتاب الله عز وجل غير حالنا الآن، فقد روي عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى، قال: "حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا: فعلمنا العلم والعمل"

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -


إذا قدّر لنا ونحن في اجتماع خارجي، أو في بيتنا مع أبنائنا وأهلينا، أن طفئ السراج علينا، وأصبحت القاعة التي نحن فيها مطبقة الظلام لا نور يتبين فيها، فإن أول خطوة ستتبادر إلى ذهن كل واحد منا وسيهم بها هي أن يبحث عن نور أي نور يستضيء به، فإذا وجد النور بدأ بعدها خطواته الأخرى.

ولو افترضنا أنه هم بعمل أي خطوة أخرى قبل مجيء النور فإنه قد يتعثر في مسيره، وقد يسقط، وقد تكون سقطته مؤلمة شديدة الألم، وقد تكون أقل من ذلك؛ وهكذا نحن في هذه الدنيا وخاصة في هذا الزمن تجد الواحد منا يحس بالفتن من حوله، والهرج والمرج، وتتعالى الأصوات، ويكثر النفاق والتدليس، فقد يتخبط الواحد منا فلا يدري أين يتجه؟ وأين الحق من الباطل؟ وفي وسط هذه الظلمة المعتمة يُفتَقَدُ البدر، ويأتينا توجيه ربنا الكريم عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174].

وما بالكم بنور مصدره نور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، وبلغه لنا نور: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15]. وما بالكم وهذا النور ليس بكلام عادي أو توجيهات عادية، إنها كلام الله عز وجل وتوجيهاته لعباده! الله العظيم الحكيم العليم بعباده ومعاشاتهم وما يصلحهم هو الذي يتحدث إليهم بحديث تفهمه وتدركه عقولهم أياً كانت درجاتهم أو مقاماتهم في هذه الدنيا. وما بالكم بكلام هو هداية وشفاء: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]، وهو فرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] يستعين المرء بضيائه ليفرق بين الحق والباطل.

عجباً لحالنا عندنا هذا الكنز العظيم والنور المبين، ونحن كما قال شوقي:

شعوبك في شرق البلادِ وغربها *** كأصحابِ كهفٍ في عميقِ سباتِ
بأيمانهم نوران: ذكرٌ وسنةٌ *** فما بالهم في حالكِ الظُلمات!


كان حال أسلافنا مع كتاب الله عز وجل غير حالنا الآن، فقد روي عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى، قال: "حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا: فعلمنا العلم والعمل"، ووصية مجلجلة من أول جاهر بالقرآن في وسط طغمة الفساد بمكة آنذاك، وصية من الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلا تَنْثِرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ"، وقد كان كذلك رضي الله عنه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع منه القرآن، ويوصي بقراءته: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» (السلسلة الصحيحة: 2301).

وقد كان أثر هذا النور على نفوس الصحابة أثراً عجيباً فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، تصفه أمنا عائشة رضي الله عنها فتقول: "إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء"، وقال عبد الله بن شداد بن الهاد رحمه الله: "سمعت نشيج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإني لفي آخر الصفوف"، وذلك حين قراءته لقوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86].

إنها آي الكتاب المجيد حين تؤثر فتهز وتتحرك فاعلة على واقع الأرض فتُحدث الأعاجيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: "كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحَاءَ وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وإن أحب أموالي إلي بَيْرُحَاءَ، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله؛ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه" (رواه البخاري و مسلم).

فهذه آية واحدة حركت هذا الصحابي الجليل لأن يتخلى عن أحب ماله إليه، فما بالنا نحن خاصة مع حوائج إخواننا وضوائقهم في كل مكان، نسأل الله  عز وجل أن يرحم حالنا، وأن يرزقنا حسن التبصر، والتدبر في هذا الكتاب العظيم، لنستضيء بأنواره في دروبنا المظلمات، فيتضح لنا الحق من الباطل، فنسير على هدى وبصيرة من الله عز وجل.

وللحديث بقية في المقال القادم بإذن الله عز وجل، حيث سنتطرق إلى شرعية تنزيل آي الذكر المبين على الواقع المعاصر، وربطها بالأحداث، وعلاقة ذلك بالتدبر.


حسين بن عفيف