الإعلام المصري.. بين تشكيل الوعي وترسيم المجتمع

على الرغم من أن الشعب المصري بطبيعته ينفر من الدم والقتل، إلا أن الإعلام استطاع أن يجعل من إسالة الدماء لدى قطاع من المصريين أمرا ضروريا ومحتما، حتى يمكن أن تعبر البلاد إلى شاطئ السلامة والأمن، سواء كان ذلك الدم من أبناء التيار الإسلامي، أو من جنود الجيش والشرطة، وتناسى المجتمع مفردات المصالحة، والتوافق، وحرمة الدماء المصرية.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

 

أصبحت الآلة الإعلامية في مرحلة ربيع الثورات العربية وما بعدها صانعة الرؤساء والدول، هادمة للإمبراطوريات والقوى، متفوقة على الآلة الحربية في تأثيرها على مجريات الأحداث، لا سيما بعد انتشار القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي. فالإعلام الحديث، على اختلاف أنواعه ووسائله، إنما يسعى إلى تشكيل وعي الجمهور المتلقي للرسالة الإعلامية، وترسيم خريطة المجتمع، والتأثير على قناعات وتوجهات المتلقين، بما يحقق في النهاية الأغراض السياسية والأيدولوجية والمذهبية للقائمين عليه.

الإعلام وتشكيل الرأي العام:
إن الإعلام بوسائله المتعددة يؤثر تأثيرا كبيرا في تشكيل الرأي العام، فهو الذي يخلق الوعي لدى المجتمع بالأفكار ويروج لها من خلال ما ينقله من أخبار ومعلومات وبرامج تهدف إلى تكوين اتجاه معين، ويتخذ في سبيل ذلك عدة وسائل.

من تلك الوسائل: كثرة ترديد رأي معين، قد لا يحظى بقاعدة شعبية، مع إغفال غيره من الآراء التي قد تكون أكثر منه شعبية في المجتمع، أو التعبير عنها بضعف، بحيث يشعر المتلقي بأنها آراء شاذة، ومن ثم يحدث التحول في الرأي العام، على نحو ما رأينا من تحول في الرأي حيال التيار الإسلامي في مصر، حيث أصبح موسوما بالإرهاب والتطرف، وقبل برهة كان تيارا سياسيا حاكما، وما كان لأحد أن يصدق مثل هذا التحول العنيف في الرأي، إلا أنه أصبح واقعا لا تخطئه العين بصناعة إعلامية.

ومن وسائل التأثير في الرأي العام كذلك: قوة التعبير عن الرأي؛ فالآراء التي يعبر عنها أصحابها بصخب وقوة عبر وسائل الإعلام، توهم الجمهور والمتلقين بأنها تمثل رأي الأغلبية، بينما هي في الحقيقة لا تمثل سوى مجرد رأي تيار أو أفراد نافذين، لا يحظون بتأييد شعبي، لكن قوة وكثافة الطرح تترك انطباعات خاطئة بأنها في مواجهة رأي قوي الحجة يعبر عن تيار ساحق.

ومن بين وسائل التأثير في الرأي العام كذلك: اختيار وتحديد موضوعات وقضايا معينة للنقاش، ولو كانت غير مرغوبة بالنسبة لجمهور الرأي العام، مع إهمال غيرها حتى لو كان أكثر أهمية منها، ولا يقتصر دورها على ذلك، بل تقوم بفرض درجة معينة من الأهمية للموضوعات التي يناقشها الرأي العام، حسب ميول الوسيلة الإعلامية وأهدافها.

ونحن نجد ربما استحواذا شبه كامل للتيارات السابحة ضد التيارات الإسلامية على هذه القنوات ذات الصلة المباشرة بالتغيير والتوجيه وصناعة الرأي العام، حيث تموضعت بشكل قوي على الخريطة الإعلامية منذ سنوات طويلة، وامتلكت أدوات التأثير على الجمهور، بينما غابت القنوات التي تعبر عن التيار الإسلامي بصورة ذاتية نتيجة ضعف قوتها الإعلامية، أو بصورة قسرية في أحيان أخرى.

وإذا نظرنا إلى مصر كأنموذج لكيفية تأثير الإعلام على الجمهور وإجهاض تجربة الإسلاميين الوليدة في الحكم عقب نجاح ثورات الربيع العربي؛ سنجدها وقد شنت حملات إعلامية منظمة للتخويف والتحريض ضد تيار القوى الإسلامية، وقد سلكت مسالك متعددة لإبراز الإسلاميين وفقما تريد أن تروج له، ووفق أجندة يبدو أنها معدة بصورة متسقة بين غالب تلك القنوات.

ومن هذه المسالك: تأويلها وتضخيمها الشديد لتصريحات وأفعال الحركات الإسلامية المختلفة والمتعلقة بزي المرأة أو تطبيق الشريعة أو التعامل مع أصحاب الديانات الأخرى، في محاولة لـ(شيطنة) الإسلاميين وإظهارهم على أنهم أساطير في الشراسة والتشدد، وهو أمر ترفضه وتتأبى عليه الشخصية المصرية التي تتوافق دائما مع الوسطية وترفض الغلو والتشدد.

كما نراها وقد اعتمدت التمييز السلبي المشوه للحقائق والتفزيع عند تناولها أخبار الإسلاميين، حتى لو كان الحدث إيجابيا، مثل تناول بعض الصحف حوار جماعة الإخوان المسلمين مع الأقباط، فتم نقله على أنه محاولة من الإخوان للتأثير في الأقباط وكسب أصواتهم بدلا من الإشارة لإيجابية هذا الموضوع، وهو الأمر الذي يعكس قدرا ضخما من التحيز السلبي ضد هذا التيار.

وإلى جانب ذلك، نجد، وسائل الإعلام المشار إليها، وقد تجنبت الموضوعية واعتمدت كثيرا على الإشاعات، أو بالأدق، صنعت الإشاعات والدعاية السوداء، وروجت لها على اعتبار أنها حقائق مسلمات، لا تقبل جدلا ولا نقاشا، ومن يدّعي خلافها فهو ينكر الشمس في رابعة النهار، على الرغم من أن الكثير مما روجت له يتعلق بموضعات أمنية وقضائية كان من المفترض الانتظار حتى ثبوتها أو نفيها من الجهات المختصة، ومن ذلك: الترويج لوجود أسلحة ثقيلة وكيميائية بميدان رابعة، حيث اعتصام أنصار الشرعية، وهو ما ثبت أنه مجرد افتراء.

ثم نجد تلك الوسائل وقد اعتمدت الخلط بين التيارات الإسلامية بشكل واضح، وتبني سياسات إعلامية، وتبني صورة ذهنية وإعلامية مختزلة ومبسطة ومشوهة لهذا التيار بكل فئاته، رغم وضوح الاختلاف البين في طريقة العمل ومنهجه بين الفصائل المختلفة، فالإعلام المصري تعامل مع الجميع بمنطق واحد، واختار أن يضع الجميع في صف الإرهابيين والمتطرفين.

كما أننا نرى الإعلام المصري وقد جيّش عناصر إعلامية مشهورة بتعصبها وعدائها للتيار الإسلامي، وغيب الرأي الآخر، أو استضاف شخصيات مهتزة منهجيا، أو شخصيات معروفة بآرائها الشاذة التي لا تعبر عن الرأي الغالب في أوساط الإسلاميين، أو تلك التي تتخذ موقفا مناهضا للتيارات الإسلامية؛ للادعاء بأنها شخصيات من داخل الصف الإسلامي، ولا ترضى عن ممارسات الإسلاميين، في محاولة للتأثير على المشاهد بأنه بصدد مجموعة من الخوارج ومتطرفي الرأي والفكر الذين ينكرهم حتى المعتدلين من داخل الصف الإسلامي.

ووسائل الإعلام الواقعة تحت سيطرة التيار المعادي للتيارات الإسلامية دفعتها إلى تبنّي هذه الصورة عن الإسلاميين عدة دوافع، منها: اصطناع القلق والظهور في صورة (القديس الليبرالي) المطارد من (أعداء الحرية)، أو على سبيل اختلاق صورة للإسلامي المتجهّم القاسي باعتباره (رمزا للديكتاتورية)، مقابل صورة الليبرالي عاشق الديمقراطية والتنوير والحداثة.

ومن أهدافها كذلك: إنهاء تجربة التيار الإسلامي في الحكم بعد ثورات الربيع العربي، وإيجاد قطيعة بين الإسلاميين وعامة الشعب، وتشويه صورة الإسلاميين، ووضع الإسلاميين دائما في قفص الاتهام، لأنهم يمثلون العقبة أمام مشاريع علمنة الدولة، وإعادة الأنظمة السابقة التي ثار عليها الشعب ولفظها في ثورة 25 يناير من عام 2011.

الإعلام وترسيم المجتمع المصري:
وقد تركت تلك الممارسة الإعلامية تأثيرها الضخم على المجتمع المصري، وقد تجلت أبرز تلك الآثار في حالة الانقسام المجتمعي شديد الخطورة الذي أصاب المصريين بصورة ربما تكون غير مسبوقة تاريخيا، حيث تميز المجتمع وانقسم إلى فسطاطين: أحدهما مؤيد لما تم منذ 30 يونيو وداعم له بصورة لا تقبل الجدل والحوار، وفسطاط معارض تماما لتلك الخطوات، معتبرا إياها انقلابا على شرعية الرئيس المنتخب وإفشالا متعمدا لتجربة الإسلاميين في الحكم.

وقد وصل الانقسام والاحتراب السياسي إلى الأسرة الواحدة التي ينتمي أفرادها إلى تيارات سياسية مختلفة، والتي كان مجرد الاختلاف السياسي لا يؤثر بصورة كبيرة في التواصل الأسري والاجتماعي بين أفرادها، فيما انقلب الأمر رأسا على عقب إثر الحملات الإعلامية الشرسة التي وضعت التيارات الإسلامية في خندق المتآمرين على الدولة، المتعطشين لدماء المصريين، الذين يسعون لهدم بنيان الأمة المصرية، حيث ضرب الشقاق البغيض صفوف الأسرة المصرية الواحدة.

والأشد خطورة، من الناحية المجتمعية، هو وضع فصيل ضخم من المجتمع المصري، والذي يلتف حول التيارات الإسلامية، ومشروعها السياسي؛ في مواجهة قوات الجيش، وهو الأمر الذي لم نره من قبل في الساحة المصرية، إذ كان الخلاف السياسي لا يتعدى حدود وإطار الأحزاب والقوى السياسية، وكان لا يذهب أكثر من كونه خلافا سياسيا في إطار يسع الجميع، لكننا أمام مشهد، صنعه الإعلام، وُضع فيه جيش كل المصريين في مواجهة بعض المصريين.

وكما ترك الإعلام أثره على الحالة الاجتماعية، نرى له بصمات لا تغفل في جانب القيم الإنسانية، والمفاهيم الأخلاقية، التي صاحبت المشهد السياسي الحالي، فالشحن العاطفي المضاد للتيارات الإسلامية غيّر كثيرا من منظومة الأخلاق والقيم لدى فصيل كبير من المصريين الذين استجابوا لتلك الشحنات المكثفة، وتبنّوا الرأي الإعلامي السابح بقوة ضد تيار الحركات الإسلامية.

فعلى الرغم من أن الشعب المصري بطبيعته ينفر من الدم والقتل، إلا أن الإعلام استطاع أن يجعل من إسالة الدماء لدى قطاع من المصريين أمرا ضروريا ومحتما، حتى يمكن أن تعبر البلاد إلى شاطئ السلامة والأمن، سواء كان ذلك الدم من أبناء التيار الإسلامي، أو من جنود الجيش والشرطة، وتناسى المجتمع مفردات المصالحة، والتوافق، وحرمة الدماء المصرية.

كما نرى رغبات الانتقام وهي تسود الخطاب الشعبي تأثرا بالخطاب الإعلامي المتحيز، بل قد تتعدى ذلك إلى نوع من الممارسات العنيفة تجاه فصيل التيار الإسلامي، والذي لا يمارس ذلك العنف لا يمانع من الإقصاء والإبادة بكل أنواعها، ومن يطالع الصحف المصرية يجد تلك اللغة هي السائدة، وتوارت تماما مفردات التسامح وجمع شمل الأمة المصرية.
 

 

عصام أبو زيد
 

المصدر: مجلة البيان