سَحنون... والمتعالِمون!

(سحنون) هذا هو الإمام أبو سعيد عبد السلام بن سعيد القيرواني (ت: 240هـ) من انتهت إليه رئاسة العلم بالمغرب في زمانه ومصنّف (المدوّنة) أشهر مصادر الفقه المالكي.

  • التصنيفات: تراجم العلماء -



"جاء رجل إلى سحنون يسأله عن مسألة فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام فقال: مسألتي أصلحك الله اليوم ثلاثة أيام! فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحيّر في ذلك. فقال: وأنت -أصلحك الله- لكلِ معضِلة. فقال سحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار، وما أكثر ما لا أعرف! إن صبرت رجوت أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامض تجاب في مسألتك في ساعة. فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك. قال: فاصبر، ثم أجابه بعد ذلك." [بدائع الفوائد، (3/793)].

(سحنون) هذا هو الإمام أبو سعيد عبد السلام بن سعيد القيرواني (ت: 240هـ) من انتهت إليه رئاسة العلم بالمغرب في زمانه ومصنّف (المدوّنة) أشهر مصادر الفقه المالكي.

هكذا كان حال هذا الإمام الكبير، يتوقّف عند مسألة تعرَض عليه، ويلحّ السائل، ويتبرّم من تأخّر هذا الفقيه عن الإجابة، لكن ذلك كلّه لم يحمل هذا العالِم الورِع على العجلة في الإفتاء.

وما فعلَه سحنون ليس بِدْعاً من طريقة السالِفين من الأئمّة، ولم يزل المتورّعون من اللاحقين على هذه الطريقة، وقد أحصي للإمام (مفتي المشرقين) الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله من ذلك شيءٌ كثير.

هكذا كان الكبار، وذلك كان منهجهم. وإنّك لَواجدٌ اليومَ من المتصدّرين للإفتاء والمتحدّثين في مسائل العلم دقيقِها وجليلِها مَن ليس له من أهليّة العلم شيء، وليس هو من الفقه في قبيلٍ ولا دَبير، وإنما غاية ما هنالك أنه كلّف بكتابة عمودٍ في صحيفةٍ أو أوكلت إليه مهمّة ملء زاويةٍ هنا أو هناك، أو أجريت معه مقابلة، فبادر دون تأمّل، ولا عليهِ بعد ذلك أن يفتي في كبار المسائل أو يقول برأيهِ في دين الله، ولا بأس أن يكون هو المفسّر الذي يقول في معاني الآيات بما يراه، والمحدّث الذي يصحّح ويضعّف، والفقيه الذي يرجّح بين الأقوال، والأصوليّ الذي يقرّر القواعد ويستدرك ويضيف، وما شاء من فنون العلم ومسائلِه الكبار فهي بين يديه وطَوع يمينِه! وقد قيل: "من أعظم البليّة تشيّخ الصحفيّة"، ويعْنونَ بـ (الصحفيّة) من يأخذون العلم عن الصحف أي: الكتب، فماذا عن الذين لم يروا تلك الكتب أصلا وربما لم يسمعوا بها!

ولستَ أخي المبارك بحاجةٍ إلى كثير تأمّلٍ لتقف على عجائب وطوامّ جرّ إليها هذا الفلَتان العلمي وجرّأ عليها ضعفُ الحماية وقلّة الوعي.

ولئن قيل كما حكاه الإمام أبو العباس ابن تيمية في (الحموية) وغيرها، وقبله بنحوِهِ أبو حامدٍ الغزالي في (ميزان العمل) رحمهما الله: "إنما يفسد الناسَ نصفُ متكلمٍ ونصف فقيهٍ ونصف نحويٍ ونصف طبيبٍ. هذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأديان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان". لئن قيل ذلك عن الأنصافِ وإفسادهِم فماذا عن الأصفار؟

وإنّ قائمة المتعالمين لمملوءة بأصنافٍ شتّى، وفي آداب الطلَب: تحذيرٌ من ( شيوخ القَمراء) و(الخنفشاريّين)، ومَن مدّ الإمام أبو حنيفة رجله بحضرتِهِم، ومَن قيل فيهم:


تصدّر للتدريسِ كلّ مهوّسِ *** بليدٍ يسمّى بـ (الفقيهِ المدرّسِ)

فحقّ لأهل العلم أن يتمثّلوا *** ببيتٍ قديمٍ شاع في كلّ مجلسِ
لقد هزُلَت حتى بَدا من هُزالِها *** كُلاها وحتى سامَها كلّ مفلِسِ


وإن من الواجب أن يقف العقلاء بحزمٍ أمام هؤلاء المتعالمين، وأن يُحجر لاستصلاح الأديان كما يحجَر لاستصلاح الأبدان. وليتذكّر القارئ قولة الإمام ابن سيرين رحمه الله التي كانت منهج السالِفين ونبراس اللاحقين: "إنّ هذا العلم دينٌ فانظروا عمّن تأخذون دينَكم." (رواه مسلم في مقدّمة الصحيح) والله المستعان.


سعد بن مطر العتيبي