صدقت أيها الجار

التجَّار والمشاهير وأهل المناصب يُزارُون في غرة أيَّام العيد، لا لأشخاصهم وإنما لما وراءهم، وهذا أولى بالزيارة منهم؛ إذ ليس لدَيْه ما يُخوِّله لاكتِساب المعارف والأصدقاء كما يملكون هم

  • التصنيفات: أخلاق إسلامية -


جارِي العزيز يَدعوني أنْ أغدو معه في أوَّل أيَّام العيد لزيارة أحد البُسَطاء، ممَّن قُدِّرَ لهم أنْ يرقُدوا على السرير الأبيض، فاقتَرحتُ التأجيل ليومين أو ثلاثة؛ نظرًا للارتباط المعتاد في أوَّل يوم، فقال جازمًا -ما فحواه-:

"التجَّار والمشاهير وأهل المناصب يُزارُون في غرة أيَّام العيد، لا لأشخاصهم وإنما لما وراءهم، وهذا أولى بالزيارة منهم؛ إذ ليس لدَيْه ما يُخوِّله لاكتِساب المعارف والأصدقاء كما يملكون هم".

هذه العبارةُ راقَتْ لي كثيرًا؛ إذ إنَّها تُوحِي بيقظة هذا الرجُل إزاءَ تلك المُجرَيات الخاطئة والمُجامَلات الزائفة والمصالح الموقوتة، التي وللأسف تفشَّت في المجتمعات المسلمة قسرًا، وباتَتْ في كلِّ فَجٍّ وفي كلِّ نادٍ.

وليت شِعري كيف تَسَلَّلَتْ منافذُ الذُّلِّ في نُفوس هؤلاء المُصانِعين؛ فأضحى مَبلَغُ همِّهم وجُلُّ تفكيرهم هو الوصول إلى هؤلاء التجَّار أو الكبار بأيِّ طريق، بما يَضمَنُ لهم البَقاء في معيَّتهم والتوافُد إلى أنديتهم: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18].

ولستُ أرى باعثًا في هذه التبعيَّة يخرُج عن إحدى ثلاث: جوعٌ في القلب، أو قِصَرٌ في النَّظرة، أو رخاوةٌ في المبدأ. وقد تجتمعُ في ذات أحدهم فتتبره ليبقى حيًّا على الهامش، أو جُفاءً لا قيمة له، وكلَّما تقرَّب من أهل الملأ ازدادوا له شَنْئًا وتحقيرًا مهما يبذر ويبذل في سبيل إرضائهم!


وبقدْر ما يدأب المرء في هذا الطريق، بقدْر ما تَزدادُ ضعضعته ويقلُّ قدْره بين الناس.

هذه هي سُنَّةُ الله في الأرض: فأهل التوحيد الذين يقدرُون الله حقَّ قدره ويُنزِلُون الناس مَنازلهم، هؤلاء هم مَن يَكسُوهم الله حُلل الوَقار والمهابة في قُلوب الخلق، وتنساقُ إليهم الدُّنيا راغمة، ويعلو محيَّاهم البِشْرُ جَرَّاء ما يجدونه من شرْح الصُّدور وحِداء العِزَّة.

وعلى غِرار ذلك، فهُناك فُقَراء التوحيد الذين نكبوا عن معرفة الحقِّ سبحانه فأضحَوْا رهانًا للآخَرين، لا يلوون عن التشبُّث بهم والتزلُّف إليهم.

حتى وإنْ نالوا بما يهمُّون، فصُدورهم لا بُدَّ تضير وتضيق تِبَاعًا، لاعوجاج وجهاتهم، ومِصداقًا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «ومَن كانت الدُّنيا همه جعَل الله فقرَه بين عينَيْه، وفرَّق عليه شملَه، ولم يَأتِه من الدُّنيا إلا ما قُدِّرَ له» (رواه الترمذي).

ولا يتدارأُ اثنانِ في كَوْنِ المبالغة في تعظيم الآخَرين والدَّوام على قصدهم هو في حقيقته تعظيمٌ للدنيا يُنبِئ عن الجهل والحَيف، ولا سيَّما وإنْ وُئِدَ الحقُّ كما هو الواقع في سبيل هؤلاء أصحاب المكانات والوجاهات.


يقول ابن القيم رحمه الله: "من أعظم الظُّلم والجهل أنْ تطلب التعظيم والتوقير من الناس وقلبك خالٍ من تعظيم الله وتوقيره، فإنَّك تُوقِّرُ المخلوق وتجلُّه أنْ يَراك في حالٍ لا تُوقِّر الله أنْ يراك عليها".

وتتمَّة ما أقول:

هناك من المجاملات (المداراة) ما هو محمودٌ شرعًا حين يكونُ فيها ما يبعَث على الأُلفة، أو يُسهِم في درء الفتنة، بما لا يَدَعُ مجالاً للتعدِّي على حُرمات الدِّين وبما يضمَنُ حِفظ الحقوق والكَرامات.

نسأل الله أنْ يرينا الحق حقًّا وأنْ يرزُقنا اتِّباعه، وأنْ يُرينا الباطل باطلاً وأنْ يرزُقنا اجتنابه.

والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيِّدنا ونبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.


حامد العلياني