(دان براون) ربيب الفاتيكان

تعاني المكتبات العربية تألُّقاً ظاهراً في الكتب الباطنية؛ سواءً العلمية منها، أم الروائية، ومن أشهر ما ابتُلِيَت به: روايات الكاتب الأمريكي "دان براون"


الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

تعاني المكتبات العربية تألُّقاً ظاهراً في الكتب الباطنية؛ سواءً العلمية منها، أم الروائية، ومن أشهر ما ابتُلِيَت به: روايات الكاتب الأمريكي "دان براون".


ولا ريب أن هذا الكاتب يُقدِّم من خلال رواياته خدمات جليلة للكنيسة الكاثوليكية تُبرِّر عقائدها وتنفي عنها تهم القائلين بالمؤامرة؛ فالرجل ماسوني المعتَقَد كما يتبين من رسالته التي بعثها إلى أحد المحافل الماسونية بمناسبة صدور كتابه الأخير "الرمز المفقود".

وأول روايات "براون" ظهوراً على الساحة العربية روايته الشهيرة "شيفرة دافينتشي" The Da Vinci Code التي حاول من خلالها أن يغرس في ذهن القارئ أن المسيح عليه السلام تزوّج مريم المجدلية التي فرَّت بعد صلبه إلى فرنسا وأن سلالتهما الميروفِنجية The Merovingian Dynasty هي سلالة ملوك الروم في أوروبا.


وهذا لا يعدو محاولة بائسة لنسبة الأبطال إلى آلهتها -كما فعل الوثنيون من قبلهم- وتلفيقاً للجانب الذي لم تستطع الكنيسة الجهر به من كون "مريم وعيسى" عليهما السلام في نظر الكنيسة الرومية أماً وابناً وزوجة وزوجاً في آن معاً.

وإن شئت فقل: هما مجرد رمز لعبادة "إيزيس وحورس" أو "بعل وعشتار". فالثالوث المصري الذي كان يتألف من الأب "سِب" والأم "إيزيس" والابن "حورس" انتقل إلى الفاتيكان على صورة الأب "الآب" والأم "مريم" والابن "يسوع".

ثم ظهرت رواية "ملائكة وشياطبن" Angels and Demons التي صوَّر فيها الكنيسة الكاثوليكية بصورة الحَمَل الوديع في مواجهة الحركة الباطنية المعروفة بالإلوميناتي وهي التي تسعى للقضاء على الفاتيكان! وهذا كله من التزييف التاريخي؛ فمن المعلوم أن مؤسس تنظيم الإلوميناتي "المتنورين" البافاريِّ الألمانيِّ المنشأ هو اليسوعي الكاثوليكي "آدم وايسهاوبت".

وهذه الحقيقة أقرَّتها "دائرة المعارف البريطانية عام (1910م) بقولها:

"الإلوميناتي (المتنورون)... تأسَّست في الأول من مايو عام 1776م على يد "آدم وايسهاوبت" (ت. 1830م) أستاذ القانون الكنسي بـ "إنجولشتات"، ويسوعي سابق".

Chisholm, Hugh. Ed. The Encyclopedia Britannica (1910) vol. XIV, p. 320

لكن الفاتيكان أرادت أن تتستر على هذه الحقيقة فأعلنت عام 2008م في مقال نشرته صحيفة التايمز[1] أنها تعترِض على رواية (ملائكة وشياطين)؛ لأنها: "قلبت الأناجيل رأساً على عقب لتبث سمومها في الدين".

وأضاف الأسقف "فيلاسيو دي باولس": "بأن الفاتيكان لن تسمح بتسجيل فيلم لهذه الرواية على أرضها".

وصدَّق الناس هذه الأكذوبة من قِبَل رجال الكنيسة الكاثوليكية. ثم فوجئ الناس في عام 2009م بصدور فيلم (ملائكة وشياطين) تكذيباً لمزاعم الكنيسة قبل ذلك بعام، وجرت أحداثه في أعماق الفاتيكان بصورة لا يمكن معها الشك في مباركةِ الفاتيكان لذلك العمل.

وها هي أسواقنا تروِّج ثانية للرواية الأخيرة التي كتبها "دان براون" بعنوان "الرمز المفقود" التي بِيِع منها في اليوم الأول مليون نسخة ما بين كتاب ونسخة إلكترونية.


والكتاب يُركِّز على الماسونية وأسرارها في واشنطن، لكنه لا يتعرَّض للكنيسة الكاثوليكية؛ وكأن الأمر لا يعنيها؛ مع أن "نِستا وِبستر" في كتابها "الجماعات السرية" تنقل عن الماسوني "بارون تشودي" قوله:

"إن الأصل الصليبي للماسونية هو ما يُدرَّس رسمياً في المحافل؛ حيث يُعلَّم المرشح لدخول التنظيم أن العديد من الفرسان الذين كانوا قد خرجوا لإنقاذ البقاع المقدسة في فلسطين من أيدي المسلمين "شكَّلوا اتحاداً تحت اسم البنائين الأحرار (الماسون) مشيرين بهذا إلى أن رغبتهم الأساسية كانت إعادةَ بناء هيكل سليمان".

Webster, Nesta. Secret Societies and Subversive Movements, p. 154


فالماسونية رومية كاثوليكية صليبية كما يُقرّ بذلك الماسون أنفسهم. فالماسوني "ألبرت ماكي" يعترف في موسوعته أنه "كان ثمة بين الماسونية والحملات الصليبية علاقة أكثر حميمية مما يُتصور عادةً".
Mackey, Albert. Encyclopedia of Freemasonry (Philadelphia: Moss & Company, 1874), p. 198

فلا غرابةَ إذن في أن نجد الماسوني "دان براون" يدافع عن معقِل دينه وعقيدته، الفاتيكان.

مثل هذا ما صرَّحت به الفاتيكان من اعتراضها على صدور أحد الأفلام الأمريكية المُسمَّى "التجَسُّد" وهو الذي يُعد ترويجاً صارِخاً لعقيدة تناسخ الأرواح وأن الطبيعة هي الإله.

Mackey, Albert. Encyclopedia of Freemasonry (Philadelphia: Moss & Company, 1874), p. 198

لكن المطَّلع على عقيدة الكنيسة الكاثوليكية يجدها منغمسة في العقائد الباطنية، بل لقد صرّح بعض آباء الكنيسة القدامى -أوريجن (185-254) على سبيل المثال- "بقبوله لمعتقد تناسخ الأرواح الذي تتظاهر الكنيسة اليوم بالتحذير من رواجه".
Macgregor, Geddes. Reincarnation in Christianity: A New Vision of Rebirth in Christian Thought (Quest Books, 1989), p. 48


إن مسارعة الفاتيكان إلى نقد ما يُنشَر من الكتب والأفلام التي تروج للباطنية وعقائدها من القول بتناسخ الأرواح وعبادة الكواكب ونحوها محاولةٌ لإبعاد التهمة عنها، لكنه لدى المتأمِّل لحالها أشبه بقول القائل: "كاد المريب أن يقول: خذوني".

فالكنيسة الكاثوليكية اشتُهرَت عبر تاريخها بهذه الازدواجية في التعامل مع القضايا فلا يغترَّنَّ مسلم بما تقوله عن نفسها أو يقوله أتباعها عنها؛ فالأمر أعمق من ذلك بكثير.

وفي الجانب الآخر فعلى المكتبات العربية أن تتقي الله وأن تتورّع عن تسويق عقائد الباطنيين كالـ "يوجا" و"قانون الجذب" والسحر وغيرها عن طريق الروايات المضلة كروايات "هاري بوتر" التي تشغل حيزاً من مكتباتنا بينما حظرتها بعض المدارس الأجنبية معلِّلة ذلك بأنها تنشر السحر والشعوذة بين الأطفال[2]؛ فهل أصبحنا تبعاً للغرب حتى في دفاعنا عن عقيدتنا؟

_______

المصادر:

[1]- http://www.timesonli...icle4147839.ece

[2]- http://news.bbc.co.u...tion/693779.stm

المصدر: مجلة البيان، العدد 277